أسباب انشراح الصدر (7) حسن الظن بالله – 2

عناصر الخطبة

  1. عِظَم فضل الله وسعة رحمته
  2. صور من رحمة الله بهذه الأمة
  3. من أسباب المغفرة والرحمة
  4. كيف استقبل مجرم سوريا شهر رجب؟!
  5. الاستعداد لدخول رمضان
  6. أسوأ أحوال ابن آدم.
اقتباس

وقد كان أجدادنا يهتمون بهذا الأمر غاية الاهتمام على عكس زماننا الذي سادت فيه “نفسي نفسي” إلا من رحم الله، حتى كان في إحدى المدن يصرف منها مرتب شهري لشخص يسمى “مؤنس…

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

نواصل الحديث الماتع عن حسن الظن بالله والتعلق برحمته جل في علاه، نطوف برياض الأمل ونستعين الله على العمل وفي ذلك من الانشراح ما لا يستطيع أحد وصفه إلا من ذاقه وعرفه..

وذكرنا في الخطبة الماضية شيئًا من فضل الله وسعة رحمته، وتجاوزه عن المذنبين، وفتحه الباب للطالبين الطامعين، وحسن صنيعه بالمنتسبين إلى أمة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

واليوم نتكلم عن لون آخر من ألوان رحمة الله وفضله التي تيسر العمل وتقوّي الأمل، وتستنهض الهمم، وترفع نحو القمم..

ألوان من الرحمة من ذاقها ووقف عند معانيها أدرك يقينًا بأن الله لم يخلق الخلق ليعذبهم وإنما ليرحمهم، وإنه لا يهلك على الله إلا هالك، وأن هذه الأمة المحمدية مرحومة مفضلة على سائر الأمم.

وما على من وقف على هذه المعاني إلا أن يمد يديه بغاية الطواعية بفضل ربه، وأن يغتسل حتى النخاع، وأن يغتنم من قبل أن يأتي يوم تضيق فيه الأنفاس وتبلغ الروح الحلقوم فلا يتكلم يومئذ إلا الندم ولات حين مندم.

هذا اللون من ألوان رحمة الله بهذه الأمة يتجلى في منحه إياها سبحانه وتعالى من أسباب المغفرة ما لا يُعد ولا يُحصى، وسنمر على جملة من تلكم الأسباب عسى أن تكون لنا حافزًا نحو الخيرات وتنفيسًا للكربات وشرحًا للصدر ووضعًا للأوزار..

أول تلك الأمور: تسهيله سبحانه وتعالى التوبة لهذه الأمة.. أيها الأحباب: إن من رحمة الله لهذه الأمة المحمدية تيسير التوبة لها وتسهيلها عليها، مقارنة ببني إسرائيل، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 54].

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "أمر موسى قومه عن أمر ربه -عز وجل- أن يقتلوا أنفسهم، قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قُتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة"، فقد كان هذا تطهيرًا وتكليفًا مرهقًا شاقًّا عليهم أن يقتل الأخ أخاه فكأنما يقتل نفسه برضاه.

فما أعظم رحمة الله بأمة نبيه صلى الله عليه وسلم حين يسّر لهم التوبة حتى قال عليه الصلاة والسلام: "الندم توبة ".

من أسباب المغفرة الممدودة إلينا من ربنا تكرمًا وتفضلاً: إسباغ الوضوء.. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يسبغ عبد الوضوء إلا غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" أخرجه البزار.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من توضأ كما أُمر وصلى كما أُمر، غفر له ما تقدم من عمل" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وحسنه الألباني.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَوَضّأَ الرّجُلُ الْمُسْلِمُ، خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ سَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَيَدَيْهِ، وَرِجْلَيْهِ، فَإِنْ قَعَدَ، قَعَدَ مَغْفُورًا لَهُ " رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني.

فمن مثلك يا مسلم خُلي بينك وبين الوضوء ومعه غفران الذنوب، فانظر هدي نبيك في الوضوء فاتبعه ولا تزد.

من أسباب مغفرة الذنوب كذلك أيها الأحباب: الحمد عقب الأكل واللبس.. فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام، ورزقني إياه من غير حول مني ولا قوة، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن لبس ثوبًا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي والنسائي وحسنه الألباني.

ما أكرمك يا ربنا ومولانا؛ تُطعِمهم وتُلبِسهم وبكلمة واحدة تغفر لهم، فلك الحمد..

ومن أسباب المغفرة أيها الأحباب: تربية البنات وإعالتهن، وكذلك الأخوات والإحسان إليهن والصبر عليهن. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ ثَلاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ وَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَّتِهِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ يوم القيامة" رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، فيحسن إليهن إلا كن له سترًا من النار" رواه البيهقي وصححه الألباني.

وعنها رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار" رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي.

والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: " ابتُلي" أي "مَن امتُحِنَ" قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35].

وهذا الحديث يُستفاد منه أن الأجر يصل الأب ولو كانت عنده بنت واحدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتُلي من هذه البنات بشيء"، فأين إحساننا إلى بناتنا أيها الأحباب؟ لقد تغير مفهوم الإحسان في هذا الزمان تبعًا لتغير الزمن نفسه، ولما تسرب إلى أهله من أفكار حادت به عن منهج الله، فأصبح الكثير من الآباء يظن أن الإحسان إلى البنات مرتبط بالمأكل والملبس والسيارة..

إن الإحسان الحقيقي أيها الأب أن تربط بنتك بالله، أن تعلمها التوحيد، أن تسترها، أن تمنعها من التبرج..

إن ما نراه اليوم أيها الأحباب من مظاهر التبرج الفاضحة ليحيلنا على سؤال محوري جوهري: أين الآباء ؟ أين الآباء الذين يمنعون عن الأمة هذا الأذى وهذا الفحش ؟ أترضى أيها الأب المؤمن الصالح أن تخرج بنتك عارية متعطرة مائلة مميلة!! أين نخوتك؟ أين غيرتك ؟ أين رجولتك ؟ أين انتماؤك لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أين دينك ؟!

إن كل أب يرضى ويقر بكل تلك الأعمال هو مشارك بلا ريب في تدمير الأمة، وفي تحطيم سياج العفة وسيُسأل أمام الله، ومثل هذا ما أحسن إلى بناته، بل أساء إليهن غاية الإساءة، فتحبب إلى بنتك وتقرّب منها وأكرمها، وتودد إليها ودافع عنها واستمع لهمومها وعرفها بربها ودلها على الخير.

ولله در إسحاق بن خلق وهو شاعر إسلامي قديم يقول في حق بنت له كلمات تقطر رقة وتفيض حبًّا يقول:

لَوْلا أُمَيَّةُ [اسم بنته] لَمْ أَجْزَعْ مِنَ الْعَدَمِ *** وَلَمْ أَجُبْ فِي اللَّيَالِي حِنْدِسِ الظُّلَمِ وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الْعَيْشِ مَعْرِفَتِي *** ذُلَّ الْيَتِيمَةِ يَجْفُوهَا ذَوُو الرَّحِمِ إذا تذكرت بنتي وهي تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدمي أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا *** فَيَهْتِكَ السِّتْرَ مِنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا *** وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرُمِ أخشى عليها فظاظة عم أو جفاء أخٍ *** وكنت أخشى عليها من أذى الكلم

وحطان بن المعلى له قصيدة طويلة يقول فيها: لولا بنيات كزغب القطـا *** رُددن من بعضٍ إلى بعض لكان لي مضطرب واسع *** في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا *** تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم *** لامتنعت عيني عن الغمض

وكذلك المؤمن الصادق يتفقد أخواته ويحسن إليهن، ويسمع شكواهن ولا يمنع العطاء عنهن إرضاء لزوجة متكبرة أو انتصارًا لنشوة عابرة، بل يعفو ويصفح ويكرمهن ابتغاء لمرضاة الله لما في ذلك من الرفعة والمغفرة والثواب.

من أسباب المغفرة كذلك أيها الأحباب: الذبّ عن عرض المسلم، والدفاع عنه، وعدم السماح باغتيابه وانتقاصه، وهذا نفتقده كثيرًا في حياتنا ومجالسنا..كم نسمع أعراض إخواننا تُنتَهك في غيابهم فلا ينبري أحد في الدفاع والذب عنهم.

عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "من ذبَّ عن عرض أخيه بالغيبة – أي ساعة غيابه – كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار" رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

وعنه رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه كان له حجابا من النار" رواه البيهقي وصححه الألباني.

قال المناوي رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: "وذلك لأن عرض المؤمن كدمه، فمن هتك عرضه فكأنما سفك دمه، ومن عمل على صون عرضه، فكأنه صان دمه، فيجازى على ذلك بصونه عن النار يوم القيامة، إن كان ممن استحق دخولها، وإلا كان زيادة رفعة في درجاته في الآخرة في الجنة".

فأين نحن يا أيها الأحباب من هذه المعاني الجميلة؟ أين نحن في مجالسنا التي تُذكر فيها العيوب وتُهتك الأستار وتُفضح الأسرار، ولا من يغيّر ولا من ينصح إلا من رحم الله.

من أسباب المغفرة كذلك أيها الأحباب: البكاء من خشية الله.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم" رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه الألباني.

قال المباركفوري: "لا يلج" من الولوج أي لا يدخل "رجل بكى من خشية الله" فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية .

فطوبى لمن صحت له دمعة واحدة من خشية الله، وعلى ضوء هذا الحديث يُفهم قول سفيان رحمه الله: "البكاء كثير فإذا أتى الذي لله مرة واحدة في العام فذلك كثير"، إي والله بل لو أتى الذي لله مرة واحدة ففيه وبه عدم دخول النار وذلك هو الفوز العظيم.

إنها تلك الدمعة الحارة التي تخرج من قلب مكلوم حزين على تفريطه في جنب الله مستحضرًا لعظمة الله جل في علاه، فالدمعة تعبير صادق عما يختلج في النفس من الخوف والرجاء.

جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرًا وجهرًا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أعز من بخدمته يحتمي، وشرف من إلى طاعاته ينتمي، جل عن نظير وشبيه وسمي، أقر بوحدانيته لحمي ودمي، وأعلمني وجودي أنه أخرجني من عدمي، وصلوات ربي وسلامه على النبي الأمي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن إلى رحابه ينتمي.

معاشر الصالحين: من أسباب المغفرة: صلاة أربعين يومًا في جماعة مع إدراك التكبيرة الأولى.. فعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق" رواه الترمذي وحسنه الألباني.

وتظهر هنا أهمية الحفاظ على صلاة الجماعة والسبق إليها، ولا يفهم من هذا الحديث أن الأمر مقتصر فقط على أربعين يومًا، بل إن شأن المؤمن أن يرتبط بالجماعة في كل أحواله وأحيانه إلا إذا كانت هناك ضرورة مانعة.

من أسباب المعفرة كذلك: الذكر عند سماع المؤذن.. فعن سعد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع المؤذن – يعني عندما ينتهي المؤذن من الأذان – وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا، غُفر الله له ما تقدم من ذنبه" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

ومن أسباب المغفرة كذلك: المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجماعات.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم -وهذا حديث عظيم- قال: "أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، فقال: يا محمد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: نعم في الكفارات والدرجات، فالكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء على المكاره، قال: صدقت يا محمد، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه.. وقال: يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب عليّ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، والدرجات إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام" والحديث صححه الألباني.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "كل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة يكتب له بها حسنة ويمحى عنه بها سيئة " رواه أحمد وصححه الألباني.

من أسباب المغفرة كذلك: صلاة ركعتين لا سهو فيهما.. قال صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما غُفر الله له ما تقدم من ذنبه" رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني.

من الأسباب كذلك: التسبيح.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" رواه البخاري ومسلم.

ولا يفهم أيها الأحباب بهذا الحديث أن يصر العبد على المعصية، ويأتي بهذا الذكر بقصد المغفرة كمن يتعامل بالربا أو يقترف الزنا أو يغتاب المسلمين أو يأكل أموالهم فهذا وأمثاله تجب عليهم التوبة أولا ليتخلصوا ثم يأتي الذكر ليتخصصوا.

قال ابن حجر رحمه الله: ذكر ابن بطال عن بعض العلماء "أن الفضل الوارد في حديث الباب وما شابه إنما هو لأهل الفضل والدين والطهارة من الجرائم العظام، وليس من أصر على شهواته وانتهك دين الله وحرماته بلاحق بالأفاضل المطهرين في ذلك، ويشهد له قوله تعالى ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21].

ومن أسباب المغفرة كذلك: الدعاء بدعوة يونس عليه السلام أربعين مرة عند المرض.. فعن سعد بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هل أدلكم على اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى: الدعوة التي دعا بها يونس حين ناداه في الظلمات الثلاث: لا إله إلا أنت سبحانه إني كنت من الظالمين"، فقال رجل يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تسمع قول الله عز وجل ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 88] ".

وقال صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم – وهذا هو الشاهد – دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أُعطي أجر شهيد، وإن برئ برئ وقد غفر له جميع ذنوبه" أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي.

من أسباب المغفرة كذلك: غُسل الجمعة.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام" رواه مسلم.

وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم -وهذا حديث عظيم-: "من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغُ، كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم وصححه الألباني.

ومن أسباب المغفرة: أعمال قد تبدو لك صغيرة بسيطة وهي عند الله عظيمة.. فعن أبي جري الهجيمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا قوم أهل بادية فعلمنا شيئًا ينفعنا الله به. قال: "لا تحقرن من المعروف شيئا أن تأتيه ولو أن تهب صلة الحبل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه، ولو أن تؤنس الوحشان بنفسك، ولو أن تهب الشسع" رواه أحمد والنسائي والترمذي.

ومعنى "أن تهب صلة الحبل" أن يكون لأخيك المسلم حبل يستقي به أو يربط به شيئًا من متاعه، ويحتاج إلى وصلة لقصره، فوهبته قطعة حبل وصله بها قاصدًا مساعدته بها راجيًا ثواب الله.

ومعنى: "ولو أن تؤنس الوحشان بنفسك" إذا وجدت أخاك المسلم وحشانًا أي مختليًا مهمومًا من شيء ألمَّ به أو شيء يخافه أو جدته تائهًا في مكان لا يعرفه فآنست وحشته بنفسك وأذهبت عنه همه وفزعه حتى أمن واستأنس واطمئن.

وقد كان أجدادنا يهتمون بهذا الأمر غاية الاهتمام على عكس زماننا الذي سادت فيه "نفسي نفسي" إلا من رحم الله، حتى كان في إحدى المدن يصرف منها مرتب شهري لشخص يسمى "مؤنس الغريب".

ومعنى "ولو أن تهب الشسع" ما يُشد إلى زمام النعل وهو رباط الحذاء، فسبحان من جعل من أسباب المغفرة شسع النعل تفضلاً منه وكرمًا..

بل إن أسباب المغفرة تصل المسلم حتى بعد موته وانقضاء أجله تفضلاً من الله وتكرمًا على هذه الأمة المرحومة..

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يصلي عليه مائة إلا غفر له" رواه الطبراني وصححه الألباني.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أربعين من مؤمن يستغفرون لمؤمن إلا شفّعهم الله فيه" رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

وهناك أسباب وأسباب لا يتسع المجال لذكرها، وفضل الله لا يُحصَر ونِعمه لا تُعد، وما على المسلم إلا أن يطهر قلبه ويقصد ربه ويستغفر لذنبه ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110].

أيها الأحباب الكرام: ذكر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الأشهر الحرم وعد ثلاثة سردًا: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وذكر واحدًا فردًا: رجب قائلاً: "ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، وهو شهر عظيم وله حرمة عظيمة، وقد أهلَّ هذا الشهر عظيم الحرمة جليل الهيبة، فاستقبله فرعون الشام بمجزرة الحولة التي ذبح فيها أكثر من مائة أكثرهم من الأطفال على مرأى ومسمع من العالم عالم الخذلان عالم البغي والعدوان..

أهلّ الشهر الحرام وأفصح الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها عما أعدوه من مسلسلات وبرامج وأفلام لشهر رمضان، ولولا أن الله خلّد حرمة شهر رمضان في كتابه لظن كثير من الناس أن شهر رمضان شهر سهر وأفلام وآثام لا شهر صيام وقيام مما يرون ويسمعون من تسابق القنوات وصراع الشاشات..

وأسوأ أحوال ابن آدم عندما يكون عبدًا لشهوته وأثيرًا لهواه، ومنتهى السوء أن يكون إمامًا في الضلالة ورأسًا في الغواية.

اللهم أصلح أحوالنا..