الوحي وتزكية النفس

عناصر الخطبة

  1. مقصد الوحي تزكية النفس البشرية
  2. جزاء تزكية النفس الجنة
  3. علامات تدل على حاجة النفس العاجلة للتزكية
  4. حاجة أي نفس للتزكية مدى الحياة
  5. تزكية النفس فضل من الله
  6. وسائل لتزكية النفس
اقتباس

ومهما بلغ العبد من تقوى وحرص فلا غنى له عن الاستمرار في تزكية نفسه، وإنك لتجد الفضلاء الأخيار أكثر الناس حرصًا على تزكية نفوسهم، بينما قساة القلوب المنغمسين في دهاليز الدنيا والذين هم في أمسِّ الحاجة إلى تزكية النفس هم أشد الناس بعداً عنها، وأكثرهم غفلة عن ضرورتها!.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ينبغي أن نعلم أن الوحي بشقَّيْه: القرآن والسنة؛ إنما نزل لتزكية النفس البشرية، ابتداء من إصلاح الخواطر والإرادات، وانتهاء بإصلاح الأعمال والحركات؛ فالنفس لا تكتمل إلا بتصحيح القصد، أي بترك الشرك، وتجريد التوحيد لله تعالى وحده، ولا تسمو -أي النفس- إلا بالتطهُّر من منكرات الأخلاق، فالوحي إنما نزل من أجل ذلك.

وما لم يشتغل الإنسان بتزكية نفسه فلن يفلح أبداً، أقسم اللهُ على هذا، والله تعالى عندما يقسم قسماً إنما يفعل ذلك لأمر عظيم جداً، قال تعالى مقسماً بسبع آيات كونية: الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والنفس، على أهمية تزكية النفس، وكونها سببا أساسا لفلاح الإنسان.

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾ [الشمس:1-10].

وقال -سبحانه- مؤكداً على ذلك في آية أخرى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، ووعد الله تعالى من اعتنى بتزكية نفسه بالخلود في الجنة، ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه:76]

معاشر الأخوة: إن تزكية النفس تجمع بين الأمرين: زيادة الخير في النفس، وإزالة الشر منها وتطهيرها، والطهارة نوعان: طهارة جسد وطهارة نفس.

أما النوع الأول وهو طهارة الجسد ونماؤه ومتعته فهو هدف الحضارة الغربية المعاصرة، وهو هدف لا يكاد يغفل عنه أحد، مؤمناً كان أو كافراً، فالتركيز على متعة الجسد ونظافة المظهر وجماله هو الشغل الشاغل لمعظم الناس، فهموم الناس تدور بين مَسكن جميل، وسيارة فخمة، وأنواع من الملابس الغالية الثمن، وألوان من الأطعمة المتنوعة، ونزهات، وغيرها من المظاهر.

أما النوع الثاني وهو طهارة النفس وجمالها وصفاؤها فها هنا موطن الذكر، وبيت القصيد، وموضع النسيان.

أيها المسلمون: عند التشخيص هناك علامات ينبغي للمسلم التنبه لها إذا هي ظهرت، إذ هي دلائل على ضرورة مسارعته لتزكية نفسه وتطهيرها، ذلك أن الفلاح -كما تقدم- مرتبط بالمبادرة إلى تزكية النفس.

من هذه العلامات الاستهانة بالمعاصي بشتى أنواعها الصغير منها أو الكبير، أقول الاستهانة بالمعاصي وليس فعل المعاصي -الاستهانة بها-، المعصية لا تعظم بنوعها فقط -زنا ربا خمور-، لا، بل يضاف إلى ذلك المشاعر التي تختلج في نفس العاصي عند ارتكاب المعصية وبعد انتهائه منه، حتى لو كانت تلك المعصية من الصغائر؛ لأن الاستهانة بالمعصية بحجة أنها من الصغائر مؤشر خطر.

فالمؤمن الصحيح القلب يخاف من كل معصية حتى لو كانت صغيرة، وحتى لو كان فاعلا لها ومقيما عليها يخاف، تجد نفسه تلقائيا تنشغل بالتفكير في عواقب تلك المعصية بين الحين والآخر، وتحس بالندم والحياء من الله، وتجده يدعو ربه أن يخلصه من تلك المعصية ويأخذ بيده إلى التوبة النصوح.

فإذا لم تكن نفسك -أخي الحبيب- بهذه الصفات مشفقة راهبة راغبة إلى الله فأنت في غفلة مخيفة، فسارع إلى تزكية نفسك قبل فوات الأوان.

وكذا يقال في شأن من ترك طاعة واجبة، فإن العبرة بما يجول في نفسك بإحساسها بالذنب، انكسارها وإشفاقها، قبل أن يكون في نوع الطاعة التي تركتها.

وينبغي الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي أن المسلم لو كان معتنيا بتزكية نفسه مسبقا لما انحدر مستوى ترك الطاعة الواجبة، ولا فعل كبيرة من الكبائر، بل لن تقبل نفسه الخوض في أي شيء يغضب الرب -سبحانه وتعالى-، وسيكون بمنأى عن ذلك إن شاء الله.

من علامات الحاجة إلى تزكية النفس الكسلُ عن بعض الطاعات، فقدان لذة العبادة وحلاوة الإيمان يؤدي إلى ذلك الكسل، طيب، لماذا لا نستشعر الطاعات؟ الجواب: لأن النفس لم تتزكَّ بعد، يعني لم تبلغ النفس تلك الدرجة من الشفافية التي تمكنها من تذوق العبادة، فماذا يحدث؟ تفسق النفس وتهمل وتستثقل العبادة، فعلى سبيل المثال: لا تجد في النفس الدافع إلى الاستيقاظ لصلاة الفجر لأدائها مع الجماعة لأنها صلاة ثقيلة جداً والنوم ألذ منها بكثير، والفراش لا يقاوم، والدفء!.

وهناك أيضاً عبرة من إضافة عبارة: "الصلاة خير من النوم"، فالصلاة خير من النوم في أذان الفجر، تؤدي مثل هذه المعاني لذلك الإنسان الذي لا يقاوم النوم، ولو كانت النفس زكية تخشع في الصلاة لما استثقلتها، ولهذا قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:45].

بل لا قد تحتمل النفس ما هو أقل من ذلك، كالصبر على البقاء في المسجد لسماع موعظة ما مثلا، أو أداء السنن الراتبة، أو حفظ أذكار المساء والصباح، أو غيرها من الطاعات؛ لثقلها على النفس، أو لعدم استشعار اللذة في أدائها، أضف إلى ذلك اشتغال النفس ذاتها بما هو ألذ عندها من تلك الطاعات بكثير، وهي أمور الدنيا، فينبغي لمن من وجد في نفسه هذا الثقل أن يسارع إلى تزكية نفسه.

ومن علامات الحاجة إلى تزكية النفس خصالها المذمومة، كالكبر والحقد والحسد والغرور، وكذلك الكثرة المذمومة: كثرة الكلام، كثرة الضحك، كثرة الحديث حول الناس وما يلازم ذلك من الغيبة، كثرة النوم، كثرة الخوض في أمور الدنيا، في أمور الدرهم والدينار، والأسهم والعقار، فالحاصل أن هذه الخصال -إن وجدت- تتأكد معها الحاجة إلى تزكية النفس؛ لأنها علامة على قسوة القلب.

إن تزكية النفس عملية لا تقف مستمرة طوال عمر الإنسان، ومهما بلغ العبد من تقوى وحرص فلا غنى له عن الاستمرار في تزكية نفسه، وإنك لتجد الفضلاء الأخيار أكثر الناس حرصًا على تزكية نفوسهم، بينما قساة القلوب المنغمسين في دهاليز الدنيا والذين هم في أمسِّ الحاجة إلى تزكية النفس هم أشد الناس بعداً عنها، وأكثرهم غفلة عن ضرورتها، فالله المستعان!.

والآن يأتي السؤال المنتظر: إذا وجد أحدكم من نفسه ما تقدم من علامات فكيف يزكي نفسه؟ إنه لا يتحقق المطلوب في الدنيا إلا بشيء من جهد، صغيرا ذلك الجهد أو كبيرا؛ ولهذا قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد:4]، في شدة، هكذا خلق الله الإنسان، العلم لا يتحقق إلا بكبَدٍ وَجدٍّ، المال لا يتحقق إلا بجهد، الزواج لا يتحقق إلا بجهد، السكن لا يتحقق إلا بجهد، وقِسْ على ذلك غيرها من حاجات الدنيا.

وإذا كانت أمور الدنيا لا تأخذ بالتمني، ولكن -كما قيل-: تؤخَذُ الدنيا غِلابا؛ فيكف بأمور الآخرة التي هي أعظم وأجلّ؟ فلابد إذاً لحصول التزكية من مجاهدة من تدريب من ترويض، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ [فصلت:35]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"رواه الترمذي وهو حديث صحيح.

وكما أنه لابد من التفكر، فلابد من إعمال الفكر في النفس وأساسها، لابد من اعمال الفكر في الدنيا ومآلها، والآخرة وقربها، والجنة ونعيمها، والنار وأهوالها؛ إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة! بينما أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: تذكرت في ذهاب عمري، وقِلَّة عملي، واقتراب أجلي.

أيها الأخوة: أول وسائل تزكية النفس الدخول على الله من باب العبودية المحضة، وباب العبودية المحضة المقصود هو باب الانكسار والافتقار إلى الله تعالى، والذل، ذلك بأن يستشعر الإنسان أنه ذو صفات تقتضي الحاجة إلى رحمة ربه.

فهو إنسان ضعيف عاجز يمرض ويحزن ويبكي ويموت، لابد أن يحس بأنه عاجز يحتاج إلى الله، وأن ما فيه من نعمة، أي نعمة، قوة، علم، جاه، مال، جمال، قيادة، ملك، سلطان، إنما هي من الله وحده، ليست من اجتهاده وقوته وحسن تدبيره؛ لأن اجتهاده وقوته وتدبيره كل ذلك مرتبط بتوفيق الله له ورعايته لشأنه، وتقدير الأمور لصالحه.

ولو شاء الله لما وصلت تلك النعمة إليه ولو عمل ما عمل، ولو هيأ وتهيأ وخطَّط ودبَّر وصرف وأنفق، ولكن الله تعالى هو الذي يسوق نِعَمَه بحكمة، ويبتلي بها عباده، ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:31].

ومن النعم التي يجب إرجاعها إلى الله نعمة التزكية التي نحن بصددها اليوم، يقول تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور:31]، هذه الآية لو شعر المسلم بمعانيها، وتحرك قلبه بمقتضاها، لأدخلته على الله من باب العبودية المحضة، أي لجعلته يبتهل إلى الله بقلب منكسر، وحاجة ملحة، وفقر ما بعده فقر، فقر يجعله عاجزاً حتى عن تزكية نفسه التي بين جنبه، لا يستطيع تزكيتها إلا بالله -سبحانه وتعالى- إذا أذن بذلك.

فينبغي على المسلم أن ينخلع من كل قوة ومن كل حول إلا مِنْ حول الله -جل وعلا- وقوته، ويقول بصدق: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم يبذل الوسائل العملية الموصلة إلى تزكية نفسه، ويدعو ربه خلالها بأن يأخذ بيده إليه، ويدل قلبه عليه.

ومن الوسائل العملية إحسان العبادة، وذلك بأن يجعل العبد عبادته همه الأكبر في حياته كلها، كأنها أصل وجوده، وهي أصل وجوده أصلا وسرُّ وجوده: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56].

وكيف لا تكون العبادة همَّه الأكبر؟ وبالتالي يبذل جهده باكتساب العلم الصحيح الذي يقوده إلى عبادة الله على هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، لا على هدي أهل الجهل، ولا هدي أهل البدع والطرق المحدثة، وأن يُخلص النية في عبادته بلا رياء ولا سمعة، فإذا أحسن المسلم عبادته زكت نفسه بإذن الله.

أسأل الله أن يزكي نفوسنا، وان يصلح قلوبنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى أصحابه ومن والاه.

وبعد: فمن وسائل تزكية النفس الإقبال على كتاب الله تلاوةً وحفظاً وتدبُّرَاً، وحتى يحدث التأثير، تأثير القرآن، ينبغي أن ترافق آداب التلاوة الظاهرة من وضوح، وحسن صوت، وجمال، وهيئة، ووقار؛ ينبغي أن ترافق هذه الآدابَ الظاهرةَ الآدابُ الباطنةُ من استشعار عظمة الكلام، فهو كلام الله -عز وجل-، وحضور القلب، والتدبر لمعاني الآيات ومدلولاتها، وتقدير أنك المــُخاطب بالآيات أيها التالي لها.

فتلاوة كتاب الله لو أحسن المسلم أداء التلاوة لهذَّبَتْ نفسه وزكَّتْها، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:82]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:57].

ومن الوسائل الذكر بإطلاقه: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]، إن على كل من أراد تزكية نفسه أن يصلح الطريق ما بينه وبين ربه، كلنا قادم بكدحه وكده وتعبه عليه سبحانه، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق:6]، فأي كدح وعمل ستلاقي به حبيبك؟ فكر! ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، إنه لا سبيل إلى لقاء محمود إلا بمحبة صادقة، وعمل صالح، فلقاء المتحابين أجمل لقاء، وأرق لقاء.

ومن أكبر علامات المحبة بعد طاعة المحبوب ذكره، ولذلك قال تعالى في شأن عباده المحبين الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، يعني لا يكاد يفتر لسانهم عن ذكر الله. صح في مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله -عز وجل-: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه".

قال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها، قيل له: مِن أي تعلمها؟ قال: يقول الله عز وجل: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]، إذا ذكرتَ اللهَ ذكرك الله. وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله -عز وجل-، فالدوام على ذكر الله تعالى يشرح الصدر، ويُزكي النفس.

ومن وسائل تزكية النفس ذكرُ الموت، وقِصَر الأمل، إن الذي يستجلب الآفات إلى النفس لهفها على الملذات بأنواعها، وعلى الدنيا وأعراضها، وما يقتضيها هذا اللهف من صراع نفسي يقسي القلب، ويبعث فيه الآفات: الحسد، السخط، الحزن، الخداع، الجشع، كلها أمراض في النفس لا يجلِّيها إلا ذكر الموت، وقصر الأمل.

فالمنغمس في أعماق الدنيا يتعامل معها وكأنه خالد فيها، لا يكاد يذكر الموت أبداً، بل هو غافل عنه تماما، بل لو ذُكِّرَ به لكره ذلك، ولهذا تراه يفر من الموعظة فراراً، كما قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51)﴾ [المدثر:49-51]، فذكر الموت مهم لتزكية النفس.

ومن وسائل تزكيتها كذلك: الصدقة، قال تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:103].

ومن وسائل تزكية النفس مرافقة الصالحين، أولئك الطيبون الذين لا يفعلون إلا طيبا، ولا يقولون إلا طيبا، الذين يذكرونك بماذا؟ بالأغاني والأفلام ومغامرات الفساد وعلاقات الحرام؟ لا، حشاهم من ذلك! بل الذين يذكرونك بالله تعالى، وبالعمل الصالح، ويدلّونك على الخير؛ الذين برؤيتهم يتذكر الإنسان ربه ودينه وآخرته، فيجب على من أراد تزكية البعد عن قساة القلوب الذين لا يذكرون الله إلا قليلا، ففي القرب منهم ضياع، وفي مصاحبتهم شؤم على النفس.

أكتفي أيها الأخوة بهذه الوسائل ففيها إن شاء الله القدر المناسب، وأهم من كثرة الكلام تطبيقه، أو تطبيق شيء منه على الأقل.

أسأل الله أن يعننا وإياكم على ذلك، ويجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.