المحبة المشروعة

عناصر الخطبة

  1. الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان
  2. كيف تكون محبة الخلق في الله تعالى؟!
  3. فضل المحبة في الله
  4. الإسلام يحث على إشاعة المحبة بين المسلمين
  5. الفرق بين المداراة والمداهنة
  6. الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين من أساسيات الدين الإسلامي
  7. أصناف الناس في الحب والبغض
  8. علامة حب الله للعبد
اقتباس

إن الحبَّ في الله والبغضَ في الله أوثقُ عرى الإيمان، كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوقُ –عليه الصلاة والسلام–، والحبُّ في الله والبغضُ في الله هو الذي يتجاوز أغراض الدنيا، ويُقيم صاحبُه وزنًا للقِيَم، وتضبط فيه العواطفُ، ويوزن بميزان الشرع المطهر، أساسُه الصلاحُ والتُّقى، ولو كان المُحبُّ في المالِ صعلوكًا، وفي النسب نازلاً…

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله المؤمنين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين. 

أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المسلمين-؛ فإن تقوى الله أقوم وأقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أيها المسلمون: بالمحبة والإخاء تصفو الحياةُ، ويسعد الأحياء، وتغيبُ الإحنُ، وتتوارى الأثرةُ والبغضاء، وليست هناك دواعٍ معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتًا متناكرين، ووحوشًا متنافرين، بل إن الدواعي القائمة على الحقّ والعاطفةِ السليمةِ تعطفُ البشرَ بعضهم على بعض، وتُهيِّئ لهم مجتمعًا متكافلاً تسوده المحبةُ، ويمتد به الأمانُ على ظهر الأرض.

أجل، لقد ردَّ الله أنسابَ الناسِ وأجناسَهم إلى أبوين اثنين؛ ليجعل من هذه الرحم الماسةِ ملتقىً تتشابك عنده الصِّلات وتُستوثق، ولكن على أساس من البرِّ والتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].

فالتعارفُ لا التنافر، والمحبةُ لا التباغض، أساسُ العلائق بين البشر، ولكن قد تطرأُ عوائق تمنعُ هذا التعارفَ الواجبَ، وتلك المحبةَ المشروعة، وفي زحامِ البشرِ على موارد الرزق، وفي اختلافهم على فهمِ الحق وتحديد الخيرِ، قد يثور نزاعٌ ويقع صدامٌ، بيد أن هذه الأحداثَ الطارئةَ وتلك التصرفات المشينةَ لا ينبغي أن تُنسي الروابط المشروعة والحقوق الواجبة، ولا ينبغي أن تعصف بأوتاد المحبة وأواصر الأخوة.

إن المحبة طعمُ الحياة، وسرُّ سعادتها، ومساكين من فارقوا الدنيا ولم يتلذذوا بأطيبَ ما فيها من محبة الله والشوقِ إلى لقاه، ومحبةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسيرِ على هداه، ومحبة المؤمنين والقيام لهم بحقوقها من الموالاة والنصرة والنصح وتقديم المعونة.

أيها المؤمنون: وجُبِلَ الناسُ –كلُّ الناس– على محبة المالِ والوالدِ والولد، والأهلِ والعشيرة، والقناطير والمقنطرة من الذهب والفضةِ، والخيل المسومة والأنعام والحرث، ولكن ذلك كله متاع الحياة الدنيا، والله عند حسن المآب.

وما يبقى خير مما يفنى، والله يقول في وصف الباقي وصفاتِ أهله: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ(17)﴾ [آل عمران: 15-17].

عباد الله: إن الحبَّ في الله والبغضَ في الله أوثقُ عرى الإيمان، كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوقُ –عليه الصلاة والسلام–، والحبُّ في الله والبغضُ في الله هو الذي يتجاوز أغراض الدنيا، ويُقيم صاحبُه وزنًا للقِيَم، وتضبط فيه العواطفُ، ويوزن بميزان الشرع المطهر، أساسُه الصلاحُ والتُّقى، ولو كان المُحبُّ في المالِ صعلوكًا، وفي النسب نازلاً، و"خيارُكم في الجاهلية خيارُكم في الإسلام إذا فَقُهوا"، "إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضعُ به آخرين".

إن محبة اللذة والشهوة الرخيصة تفنى وتنتهي في الآخرة إلى العداوة والبغضاء، أما محبةُ الدين فتثمرُ وتبقى، وهي في الآخرة علامة التقوى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67].

وإذا زُين للمُبطلين اتخاذُ أندادٍ من دون الله يحبونهم كحب الله، فالذين آمنوا أشدُّ حبًا لله، له وحده يعبدون، وعليه يتوكلون، وإذا كان لكل شيء حقيقةٌ، فحقيقةُ محبةِ الله اتباعُ هَدْي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31].

أما محبة خلقِ الله فتكون بتقديم الخير لهم، ودفع الشرِّ عنهم، وعدم الاعتداء على حرماتهم، فكلُّ المسلم على المسلم حَرامٌ: دمُه ومالُه وعرضُه، ألا ما أجملَ الحبَّ والطاعة حين يرتفعان بصاحبهما إلى درجات النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً(70)﴾ [النساء: 69، 70].

ورد في سبب نزول هذه الآية الكريمة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إنك لأحبُّ إليّ من نفسي، وأحبُّ إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإني لأكونُ في البيت فأذكركَ فما أصبرُ حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفتُ أنك إذا دخلت الجنةَ رُفعتَ مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيتُ أن لا أراك، فلم يردَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلت عليه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول…﴾ [الزخرف: 67] الآية. [رواه ابن مردويه، والمقدسيُّ في (صفة الجنة) وقال: لا أرى بإسناده بأسًا].

عباد الله: وإذا كان هذا نموذجًا لمحبة الأصحاب لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فهاك نموذج آخر لمحبة الأصحاب بعضهم بعضًا وما فيه من مغنم:

عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلتُ مسجدَ دمشق، فإذا فتىً براقُ الثنايا، والناسُ حوله، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألتُ عنه فقالوا: هذا معاذُ بنُ جبلٍ، فلما كان الغدُ هجَّرتُ إليه، فوجدتُه قد سبقني بالتهجير، ووجدتُه يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئتُه من قِبَلِ وجهه، فسلمتُ عليه، ثم قلتُ: والله إني لأُحبك في الله، فقال: آلله؟! فقلت: آلله، فقال: آلله؟! فقلت: آلله، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبشر؛ فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال اللهُ -تبارك وتعالى-: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ". [أخرجه مالكٌ في الموطأ، والحاكم وصححه، وابنُ عبد البرِّ وغيرهم].

يا أخا الإسلام: أفلا يقودُك هذا الحديثُ ومثلُه إلى محبة الخيِّرين والقربِ منهم والجلوسِ إليهم، والله تعالى يقول يوم القيامة: "أين المتحابون بجلالي؟! اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي". [أخرجه مسلم، ومالك في الموطأ].

ورسولُه -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من عبادِ الله لأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شهداء، يغبطهم الأنبياءُ والشهداءُ يوم القيامةِ بمكانهم من الله". قالوا: يا رسولَ الله: تخبرنا مَنْ هم؟! قال: "هم قومٌ تحابوا بروح الله على غيرِ أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطونها، فوالله إن وجوهَهُم لنورٌ، وإنهم لعلى نورٍ، لا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزنَ الناسُ". وقرأ هذه الآية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: 62]. [أخرجه أبو داود، وفي سنده انقطاع، ولكن رواه ابن حبان في صحيحه بسند حسن، وأورد المنذريُّ في الترغيب حديثًا بمعناه وحسَّن إسناده، والحاكم وقال: صحيح الإسناد].

يا أخا الإسلام: وإن قعدتْ بك همتُك عن مجاراةِ الخيِّرين في طاعاتهم وعباداتهم، فلا تنفكَّ عن محبتهم والتشبُّه بهم، وهاك هذه البشارة فاعقلها وعضَّ عليها بالنواجذ: روى البخاريُ ومسلم عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: كيف ترى في رجلٍ أحبَّ قومًا ولمَّا يلحق بهم؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المرء مع من أحب".

وإذا كان صحابة رسول -الله صلى الله عليه وسلم- قد فرحوا بها واستبشروا، حتى قال أنس: فما فرح المسلمون فرَحهم بهذا الحديث. أفلا يدعوك ذلك للفرح والبُشرى ومحبّةِ الخير لأهلهِ صدقًا وعدلاً، لا نفاقًا أو رياءً؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [سورة الفتح، الآية: 29].

الخطبة الثانية:

الحمد لله ربِّ العالمين، يُحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يحب الفاحش المتفحش، ولا يحب البذيء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أخبر أن عطاء الله لعبدٍ من أمور الدنيا لا يعني المحبة والرضا فقال: "إذا رأيتَ الله تعالى يُعطي العبد من الدنيا ما يُحبُّ وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراجٌ". [رواه أحمد وغيره بسند صحيح].

اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

أيها المسلمون: ومن عظمة هذا الدين أنه يُشيع المحبةَ بين المسلمين، فيجزي على الابتسامة المؤنسة: "وتبسُّمك في وَجْهِ أخيك صدقةٌ". ويهدي لاختيار أطيب عبارةٍ حين المحادثة، ويرتب عليها المثوبة: "والكلمة الطيبةُ صدقةٌ"، ويدعو إلى النظرة الهادفة لتأليف القلوب، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يُقبِل بوجهه وحديثه على أشرِّ القومِ يتألَّفهم بذلك، كما قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-.

كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- بسطُ النفس ومداعبة من يحتاج إلى المداعبة، وكلُّ ذلك تشريعٌ للأمةِ ودعوةٌ لها إلى مكارم الأخلاق، وإشاعةِ المحبةِ والخير بين المسلمين، بل دعا إلى إظهار المحبة بين المتحابين؛ لأنه أبقى في الألفةِ وأثبتُ في المودَّة، وفي هذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أحبَّ أحدُكم أخاه في الله، فليُعْلمْه؛ فإنه أبقى في الألفةِ، وأثبتُ في المودَّة". [رواه ابنُ أبي الدنيا بسندٍ حسنٍ، عن مجاهد مرسلاً]. بل لقد ورد في بعض روايات الحديث: "إذا أحبَّ أحدُكم صاحبَه، فليأتِه في منزلِه فليخبِرْهُ أنه يُحبُّه للهِ". [رواه أحمد والضياءُ بسند صحيح].

أيها المسلمون: وثمَّة ما يستدعي النظر ويستحق الوقفة، فبعضُ الناس يظن التعبيس في وجوه الآخرين دينًا يتقربُ به إلى الله، أو ربما ظنه بعضُ الخيرين تأكيدًا للولاءِ والبراءِ المشروعيْن، وليس الأمرُ كذلك، فليس من هَدْي الإسلام ازدراءُ الناسِ واحتقارُ أعمالهم في مقابلِ تزكيةِ النفس، وليس من هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الانقباضُ عن الناس وشدةُ القولِ ورديءُ الكلام، ولو كانوا أصحابَ سوء.

وفي صحيح البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فقال: ائذنوا له فبئس ابنُ العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلتُ له: يا رسول الله: قلتَ ما قلت، ثم ألنْتَ له في القول، فقال: "أيْ عائشةُ: إنّ شرَّ الناسِ منزلةً عند الله من تركَه أو وَدَعَهُ الناسُ اتقاءَ فُحْشِه".

هكذا ساقه البخاريُّ في كتاب الأدب، باب: المداراة مع الناس، وساقه مسلم في كتاب البرِّ والصلة والآداب، باب مداراةِ من يُتقى فحشه.

ولقد فهم الصحابةُ -رضوان الله عليهم- هذا الأدب ومغزاه، وتمثلوه ودعوا إلى دين الله من خلاله، وهذا أبو الدرداءِ -رضي الله عنه- يقول: إنا لنكشر في وجوه أقوامٍ وإن قلوبنا لتلعنهم. قال الحافظُ ابن حجر -يرحمه الله-: هذا الحديث أصلٌ في المداراة.

وقال ابنُ بطالٍ -يرحمه الله- موضحًا معنى المدارةِ والفرق بينها وبين المداهنة: المداراةُ من أخلاق المؤمنين، وهي خفضُ الجناح للناس، ولينُ الكلمة، وتركُ الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضُهم أن المداراة هي المداهنةُ فغلط؛ لأن المداراةَ مندوبٌ إليها، والمداهنةَ محرمةٌ، والفرقُ بينهما: أن المداهنةَ من الدِّهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويسترُ باطنه، وفسرها العلماءُ –يعني المداهنة– بأنها معاشرةُ الفاسق وإظهارُ الرضا بما هم فيه من غير إنكارٍ عليهم، والمداراةُ هي الرفقُ بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يُظهر ما هو فيه، والإنكارُ عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. اهـ. ألا ما أنفس هذا الكلام وأحرى للمسلم بالعمل به!!

عبادَ الله: ولا يعني إشاعةُ المحبة بين الناس إضاعة الدين أو تذويبَ الفوارق بين المؤمنين والكافرين والمنافقين، كلا فمبدأ الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين عقيدة يحفظها المسلمون من كتاب ربِّهم وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ويعمل بها المؤمنون، وهم يقرؤون: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه﴾ [المجادلة: 22].

ويقرؤون قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55] الآيات. وقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض﴾ [التوبة: 171].

بل لقد قَسَّم أَهلُ العلم الناسَ في الحُب والبغض إلى ثلاثة أصناف:

الأول: من يحَبُّ جملةً، وهو من آمن بالله ورسوله، وقام بوظائف الإسلام علمًا وعملاً واعتقادًا، وأخلص في أفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره، وانتهى عن نواهيه.

الثاني: من يحَبُّ من وجهٍ، ويُبغَض من وجهٍ، فهو المسلمُ الذي خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، فيحَب ويوالَى على قدر ما معه من الخير، ويبغَض ويعادَى على ما معه من الشر.

الثالث: من يبغَض جملةً، وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنكر البعث أو شيئًا من أمور الدين الثابتة، أو استحلّ ما عليه أهلُ البدع والأهواء المضللة. فليفهم هذا جيدًا.

أيها المسلمون: والموفقُ من وفَّقه اللهُ لطاعتهِ وحسنِ عبادتهِ، وهل علمتم أن توفيق العبد لذلك دليلُ محبة اللهِ له، وإذا كان اللهُ يعطي الدنيا من أحبَّ ومن لم يحب، فاللهُ لا يُعطي الدين إلا من أحب.

وثمة علامةٌ أخرى لمحبة الله للعبد، وذلك بإشاعةِ حبِّه بين الناس؛ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلُ: إن اللهَ يُحبُّ فلانًا فأَحِبُّوه، فيحبه أهلُ السماءِ، ثم يوضعُ له القبولُ في الأرض".

ورواه مسلم وزاد: "وإذا أبغضَ اللهُ عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إني أبغضُ فلانًا فأبغِضْهُ، فيبغِضُه جبريلُ، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاءُ في الأرض".

وفي مسلم أيضًا ذكر هذه الصورة العملية للحب، فعن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة، فمرَّ عمرُ بنُ عبد العزيز وهو على الموسم، فقام الناسُ ينظرون إليها، فقلتُ لأبي: يا أبتِ: إني أرى الله يحبُّ عمر بن عبد العزيز، قال: وما ذاك؟! قلتُ: لِمَا له من الحبِّ في قلوب الناس، قال: فأُنَبِّئُك؟! إني سمعتُ أبا هريرة يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-… ثم ذكر الحديث السابق. وأخرجه الترمذيُّ بمثل حديث مسلم وزاد: فذاك قول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ [مريم: 96].

اللهم اجعلنا من أحبابك، ووفقنا لطاعتك وحسن عبادتك، وثبِّتنا إلى أن نلقاك وأنت راضٍ عنا يا ذا الجلال والإكرام..