غزوة بدر (1) حال المسلمين وحال المشركين

عناصر الخطبة

  1. ثقة المسلمين بالله رغم قلة عتادهم وعدتهم
  2. امتلاء الكافرين كبراً وغروراً
  3. دعاء النبي لله بالنصر ودعاء أبي جهل المتحدِّي
  4. بعض أخبار معركة بدر
  5. مشابهة كفار اليوم لسلفهم في اعتدادهم بقوتهم الضاربة
  6. انتصارنا على الكافرين يتم بمشابهتنا سلفنا بالرجوع لله تعالى والتوكل عليه
اقتباس

إن الصورة تشبه الصورة، والحال مطابق للحال، إلا أن الطائفة المؤمنة في بدر كان عندها من اليقين والإيمان والتوكل على الله تعالى ما استجلب نصر الله تعالى ومدده بملائكة يقاتلون مع المؤمنين، بعكس حال كثير من المسلمين في هذا العصر؛ إذ ركنوا إلى الذين ظلموا، وضعف يقينهم بالله تعالى، وتوكلهم عليه، وجزعوا على دنياهم، ولم يخافوا على دينهم أن يُبَدّل ..

الحمد لله؛ منَّ على عباده المؤمنين بالنصر المبين، ودحر الكافرين والمنافقين، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ من استنصر به نصره، ومن اعتصم به عصمه، ومن استعان به أعانه، ومن توكل عليه كفاه، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطَّلاق:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله؛ أيده الله تعالى بنصره، وأمده بجنده، فقاتل معه الملائكة في بدر، وحرسوه من المشركين في أحد، يقودهم جبرائيل وميكائيل؛ حتى أظهره الله تعالى، وأعز دينه، وأعلى كلمته، فما مات -عليه الصلاة والسلام- إلا وقد دانت جزيرة العرب بالإسلام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ﴿آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف:157]، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ؛ فإن الأيام تمضي، والأعمارَ تنقضي، والناسُ في غفلة وسكرة، وبالأمس كان رمضانُ يأتي، واليوم ينتصف، وغداً ينتهي، والسعيد من عمر أيامه ولياليه بطاعة الله تعالى، والمغرور من غرته النعم فرتع فيها كما ترتع الأنعام، ثم كفرها بالعصيان، ومن لم يحقق التقوى في رمضان فمتى يتقي؟! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183].

أيها المؤمنون: في مثل هذا اليوم الأغر، يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، وقبل ألف وأربعمائة وثنتين وعشرين سنة؛ أذن الله تعالى بأول نصر في تاريخ هذه الأمة المباركة، وأمد المؤمنين بجنده، وربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان؛ فركبوا المشركين يقتلون فيهم ويأسرون، حتى قتلوا منهم سبعين، فيهم الكبراء والصناديد، وأسروا سبعين، وفر الباقون.

إنه انتصارٌ عظيمٌ في أول منازلة بين الحق والباطل في تاريخ هذه الأمة الخاتمة، وكان لهذا النصر المبين عوامله وأسبابه التي أخذت بها الطائفة المؤمنة؛ فلم يضرهم قلتهم وكثرة المشركين. كما كان لهزيمة المشركين أسبابها، ولم تنفعهم فيها كثرتهم البالغة ضعفي عدد المسلمين. وبنظرةٍ فاحصة لحال الفريقين يتبين لنا كيف انتصر المؤمنون، وانهزم الكافرون.

أما المؤمنون فقد صدقوا مع الله تعالى، وبرهنوا على صحة إيمانهم، وأثبتوا أنهم اشتروا رضا الله تعالى بأنفسهم وأموالهم؛ إبقاءً على دينهم، وهجرة إلى الله تعالى وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والأنصار تآخوا في الإسلام، وألقوا شعارات الجاهلية وثاراتها عنهم؛ طاعة لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم آسوا إخوانهم المهاجرين، وقاسموهم أملاكهم وأموالهم، ومزارعهم ودورهم حتى همّوا أن يقاسموهم أزواجهم؛ بل وآثروهم على أنفسهم!.

إنها تضحيات كبيرة قدمتها الطائفة المؤمنة من مهاجرين وأنصار، ما كانت إلا لغاية واحدة هي ابتغاء رضوان الله تعالى، والنصر لا يكون إلا من عند الله عزَّ وجلَّ، وهم قد قدموا ثمنه فاستحقوه، وإن كانوا أقل عدداً وعتاداً من عدوهم.

وأمَّا المشركون فقد كذَّبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآذوه، وعذبوا أصحابه، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وعادوا أولياءه، حتى اضطروهم إلى الهجرة عن ديارهم وأموالهم فراراً بدينهم، فكانوا ظالمين معتدين، محاربين لله تعالى، مستجلبين لغضبه وسخطه، وما استفادوا من الآيات، ولا اعتبروا بالنذر التي جاءتهم قبل هلاكهم؛ بل زادتهم الآيات والنذر عتواً ونفوراً وسخريةً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.

فقبل غزوة بدر بأيام رأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا أفزعتها، كان مفادها أن أشراف قريش وسادتها يُقتَلون، فتحدثت بها، فسمع بذلك فرعون هذه الأمة أبو جهـل بن هشـام فقـال للعـباس ابن عبدالمطلب ساخراً: يا بني عبد المطلب، متى حدّثت فيكم هذه النبيَّة؟! ثم قال: أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟!.

فما لبثوا إلا ثلاثة أيام حتى جاءهم الصريخُ بأن المسلمين يعترضون أبا سفيان في قافلة لقريش؛ فجمعوا جموعهم، وخرجوا لإنقاذ القافلة التي سلمت، ولكن الله تعالى أراد أن لا يسلم المشركون، فقادهم غرورهم إلى الإصرار على محاربة أولياء الله تعالى؛ كما قال الله تعالى في وصفهم: ﴿خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال:47].

وفي مقابل هذا الغرور، والاستكبار عن الحق، والإصرار على القضاء عليه من قبل المشركين؛ كانت الثقة بالله تعالى تملأ قلوب الطائفة المؤمنة، حتى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من ثقته بربه يحدد مصارع المشركين، ويقول لأصحابه: "هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله"، قال عمر -رضي الله عنه-: فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حدَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.

لقد كان المؤمنون متوكلين على الله تعالى، مستعينين به وحده دون من سواه، ورغم أن عدد المشركين يفوقهم بالضعفين، بالإضافة إلى التفوق في العتاد والسلاح والمراكب، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفض الاستعانة بالمشركين على المشركين مع مسيس حاجته لأي معين؛ ولكنه ما كان ليعصي الله تعالى وهو يطلب عونه.

قالت عائشة -رضي الله عنها-: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ بدر، فلما كان بحرةِ الوَبَرة أدركه رجل قد كان يُذكر منه جرأةٌ ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: لا، قال: "فارجع؛ فلن أستعين بمشرك".

قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال أول مرة، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قالت: ثم رجع فأدركه بالبيداء، قال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟"، قال: نعم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فانطلق" رواه مسلم.

وحينما كان الشيطان يؤز المشركين على المؤمنين، ويزين لهم أعمالهم، ويقودهم إلى مصارعهم، ويقول لهم: إني جارٌ لكم؛ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه في الخروج، ويكرر فيهم: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، حتى أشاروا عليهم بالخروج، فسر بذلك وبشرهم بنصر الله تعالى لهم.

لقد خرج المشركون يفاخرون بخيلهم، وركابهم، وأعدادهم، وسلاحهم، يرومون زرع المهابة في قلوب غيرهم منهم؛ كما قال أبو جهل لما سلمت القافلة، وهموا بالرجوع إلى مكة، قال: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم بها ثلاثاً، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً، فامضوا".

بينما خرج المسلمون في غاية الذل لله تعالى، والتواضع والتآخي واقتسام المراكب القليلة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وكانت عَقْـبَة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فقالا: نحن نمشي عنك، فقال -عليه الصلاة والسلام-:" ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما" رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه.

ولما تقابل الجيشان، والتقى الجمعان؛ جاءت النَذَارةُ الأخيرةُ للمشركين على يد رجل من أشرافهم وساداتهم وهو عتبة بن ربيعة، فنهاهم عن القتال وقال: يا قوم، إني أرى قوماً مستميتين، لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جَبُنَ عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم، فسمع ذلك أبو جهل فقال: أنت تقول هذا؟! والله لو غيرك يقول لأعضضته، قد ملأتْ رئتك جوفك رعباً، فقال عتبة: إياي تعير يا مُصَفِّر أُسته، ستعلم اليوم أينا الجبان.

وقال أبو جهل في غرور واستكبار: انتفخ والله سَحْرُه حين رأى محمداً وأصحابه! إنما محمد وأصحابة كأكلة جزور ولو قد التقينا، فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسدُ لقومه، أما والله إني لأرى قوماً يضربونكم ضرباً، أما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي، وكأن وجوههم السيوف. رواه البزار.

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في غاية الذل والاستكانة لله تعالى، كان ليلة المعركة يلح في دعائه ويناجي ربه ويقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض".

فما زال يهتف بربه، ماداً يديه، مستقبل القبلة؛ حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سيُنجز لك ما وعدك، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال:9]. فأمدهم الله تعالى بجند من الملائكة يقودهم جبريل وميكائيل.

في مقابل هذا الدعاء، والالتجاء إلى الله تعالى؛ كان دعاء المشركين ينضح بالتحدي، ويدل على العلو والاستكبار، قال أبو جهل داعياً: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال:33]» رواه الشيخان.

وكان استفتاحُ أبي جهل بالدعاء في ذلك اليوم العظيم قوله: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لم يُعرف فأَحِنْه الغداة، فبينما هم على تلك الحال خفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خفقةً في العريش ثم انتبه فقال: "أبشِرْ يا أبا بكر! هذا جبريل مُعتجرٌ بعمامته، آخذٌ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع، أتاك نصرُ الله وَعِدتُه" رواه أحمد والحاكم.

لقد تتابعت النذرات على المشركين فما اعتبروا ولا اتعظوا! حتى كانت النذر تنذرهم إلى آخر لحظة قبل بدء المعركة؛ ولكنهم أصروا على محادة الله تعالى، ومعاداة دينه، ومحاربة أوليائه، وقد حضرت ساعةُ الحسم، واقترب خلاصُ المؤمنين، وأوشك هلاكُ المكذبين، وبدأت المعركة، فعملت سيوفُ المؤمنين مدعومة بمدد الملائكة عملها في رقاب المشركين، وما هي إلا ساعاتٌ حتى تنزل نصر الله تعالى، وقُتل أكثر أئمةِ الكفر والطغيان، وأولهم أبو جهل بن هشام.

عن أبي طلحة -رضي الله عنه-: أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أمر يومَ بدرٍ بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقُذِفوا في طويٍّ من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليومَ الثالث أمر براحلتِهِ فشُدت عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلقُ إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفى الرُكي -أي شفير القليب- فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماءِ آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجـدتم ما وعد ربكم حقاً؟.

قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تُكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسُ محمد بيده، ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم"، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله؛ توبيخاً وتصغيراً ونقيمة وحسرة وندماً رواه الشيخان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10)﴾ [الأنفال:9-10].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشكره على نعمه، شكراً يستجلب رضاه، ويدفع نقمته، وأتوب إليه وأستغفره من كل ذنب يغضبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281].

أيها الناس: من طبيعة البشر إذا لم يهتدوا بهُدى الله تعالى العلو والفساد والطغيان، فإذا ما ملكوا قوة من مال واقتصاد، أو سلاح وعتاد؛ بغوا بها على الناس، وأفسدوا في الأرض، ولم يرعوا لله تعالى حرمة، أو يعظموا له شعيرة، وإذا ذُكِّروا لا يتذكرون؛ لأن طغيانهم قد حجب عقولهم عن التذكر؛ كما قال الله تعالى عن المشركين واصفاً حالهم في بدر ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾ [الأنفال:48]، ولكن ما إن ابتدأ القتال، وتنزلت الملائكة، ورآهم الشيطان حتى فرَّ من أرض المعركة، وتبرأ منهم، ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ [الأنفال:48].

إنها حالة من الغرور بالقوة، والاستضعاف للقلة المؤمنة، تلازم الكافرين المعتدين عبر الزمان، وفي كل مكان.

وفي عصرنا هذا تتكرر نفس الصورة التي دائماً ما تحصل بين المؤمنين والكافرين؛ فالكافرون من صهاينة اليهود والنصارى ظلوا عقوداً من السنين يبنون قوة ضاربة؛ ليحكموا بها السيطرة على العالم، وكدسوا في خزائنهم من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي لتدمير الأرض عشرات المرات؛ وذلك لردع كل من يعترض على قانونهم الجائر، ويخرج عن سلطانهم القاهر؛ ولكي يحققوا مشاريعهم الطاغوتية الكبرى، ولو كان ذلك على حساب دماء المسلمين وأموالهم وأراضيهم.

فاليهود يريدون بناء إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وطرد أهل الأرض منها، وهدم المسجد الأقصى، والاستحواذ على المنطقة فيما يعرف بمشروع الشرق أوسطية.

والقوى الصهيونية الليبرالية النصرانية تريد الاستحواذ على ثروات العالم، وفرض نظامها الرأسمالي الإلحادي على البشر كلهم، وإلغاء دياناتهم، وخصوصيات أخلاقهم وأعرافهم، فيما يعرف بمشروع العولمة، والنظام العالمي الجديد.

وكلا القوتين ومن ساندها في بغيها وظلمها قد جاءتهم النذر من بين أيديهم ومن خلفهم، في أكناف بيت المقدس، وفي غيرها من أرض الله تعالى، ولكن هذه النذر ما نفعتهم؛ لأن غرورهم بقوتهم، واعتدادهم بسلاحهم وكثرتهم قد حجب عقولهم عن التفكر، وكان حالهم كحال مشركي قريش حينما لم تنفعهم النذر، فهل يودون أن يكون مصيرهم مصير صناديد قريش في بدر؟!.

إن الصورة تشبه الصورة، والحال مطابق للحال، إلا أن الطائفة المؤمنة في بدر كان عندها من اليقين والإيمان والتوكل على الله تعالى ما استجلب نصر الله تعالى ومدده بملائكة يقاتلون مع المؤمنين، بعكس حال كثير من المسلمين في هذا العصر؛ إذ ركنوا إلى الذين ظلموا، وضعف يقينهم بالله تعالى، وتوكلهم عليه، وجزعوا على دنياهم، ولم يخافوا على دينهم أن يُبَدّل؛ فوكلهم الله تعالى إلى أنفسهم، وإلى من ركنوا إليهم، فأذلوهم واستضعفوهم، ولم يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة.

ولا مخرج للمسلمين من هذه الأزمة العظيمة، وهذا التهديد الكبير الذي يهدد دينهم وأخلاقهم ووجودهم إلا بصدق اللجوء إلى الله تعالى، والتوكل عليه، والتعلق به، وبدايات ذلك التوبة من الذنوب، ومجانبة العصيان.

وإنكم -أيها المسلمون- تستقبلون عشراً مباركة هي فرصة لتجديد العهد مع الله تعالى، والتوكل عليه، وكثرة دعائه، والالتجاء إليه، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل في بدر.

وهي عشر كان يعتكف فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويجتهد في العبادة فيها أكثر من غيرها؛ كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.

ألا فاتقوا الله ربكم، وأروه من أنفسكم خيراً، وألحِّوا عليه بالدعاء لإخوانكم المستضعفين، واسألوه الثبات على الدين، وأن يرد كيد الكائدين.

وصلوا وسلموا على خير خلق الله…