الكلمة الطيبة وأثرها في الدعوة إلى الله

عناصر الخطبة

  1. أعظم حقوق الجليس على جليسه
  2. أهمية الكلمة الطيبة وأثرها
  3. قصص رائعة في الكلمة الطيبة وأثرها على المدعوين
  4. أمور يجب أن لا يستبعدها الداعية في المدعوين
اقتباس

إنّ الكلمة الطيّبة كالغيث تزيل الهمّ والغمّ وتشرح القلب، والكلمة الخبيثة كالنّار تضرم الكرب وتشعل الحرب. وإذا كانت هناك كلمات تكبّ أصحابّها في قعر جهنّم على مناخرهم؛ فإنّ هناك كلماتٍ تبتدرها الملائكة أيّهم يكتبُها أوّل، فترفعها إلى الله، إنّها…

الخطبة الأولى:

بعد الحمد والثّناء.

أما بعد:

فقد تحدّثنا في الخطبة الأخيرة عن حقوق الطّريق وآدابه، وعِشنا مع وصايا النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وخطابه، ولكنّ الأمر الّذي استوقفنِي مليّاً، وأردت أن نتذاكره سويّا: أنّه إذا كان للطّريق الّذي يتّخذه النّاس مجلسا وتطرقه الأقدام حقوق وآداب، فكيف بالجلساء من الأحباب والأصحاب ؟! فلا شكّ أنّ حقّ الجليس أولى، ونصيبه من ذلك أعظم وأغلى.

وإنّ الحرص على حقّ الجليس -زيادة على أنّه يدلّ على عقل الرّجل- فهو من أعظم ما يؤلّف بين القلوب، ويطهّر من العيوب؛ لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً﴾ [الإسراء: 53].

فمن مكارم الخلال، ومحاسن الخصال: أن يحرص المؤمن على حقّ جليسه، وقد روى ابن عبد البرّ -رحمه الله- في "أدب المجالسة" عن ابن عبّاس -رَضي الله عنهما- قال: "أعزّ النّاس عليّ جليسي الّذي يتخطّى النّاس إليّ، أما والله إنّ الذّباب يقع عليه فيشقّ ذلك عليّ"، وعنه رَضي الله عنه أيضا أنّه سئل: "من أكرم النّاس عليك؟ قال: جليسي"، وقال معاوية -رَضي الله عنه- لعرابة الأوسيّ: بأيّ شيء استحققت أن يقول فيك الشمّاخ:

رَأَيْتُ عِرَابَةَ الَأَوْسِيَّ يَسْمُـو *** إِلَى الخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ القَرِيـنِ

إِذَا مَا رَايَـةٌ رُفِعَتْ لِمَجْـدٍ *** تَلَقَّـاهَا عِـرَابَـةُ بِاليَمِيـنِ

فقال عرابة: هذا أولى بك منّي يا أمير المؤمنين، فقال: عزمت عليك لتخبرنّي! فقال: بإكرامي جليسي، ومحاماتي عن صديقي، فقال معاوية -رَضي الله عنه-: "إذًا استحققت"، وقال عليّ بن الحسين: "ما جلس إليّ أحد قط إلاّ عرفت له فضله حتّى يقوم".

وأعظم حقوق الجليس عليك: أن تصونه من الوقوع في المنكر من الكلام، وأن تقِيَه من الأحاديث الّذي تحلّ عليه سخط ربّ الأنام، فأكثر ما يُدخِل النّار: اللّسان، روى الّترمذي وغيره أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أَخَذَ بِلِسَانِهِ، وقالَ -لمعاذ بن جبل-: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا" فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ– إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!".

فإنّ كلماتنا محسوبة علينا، يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، ويقول عزّ وجلّ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة: 6].

وإنّ الكلمة قد ترفع الإنسان عند الله شأواً عظيما، أو تهوي به في سخط الله مرتعاً وخيما.

إنّ الكلمة الطيّبة كالغيث تزيل الهمّ والغمّ وتشرح القلب، والكلمة الخبيثة كالنّار تضرم الكرب وتشعل الحرب.

وإذا كانت هناك كلمات تكبّ أصحابّها في قعر جهنّم على مناخرهم، فإنّ هناك كلماتٍ تبتدرها الملائكة أيّهم يكتبُها أوّل، فترفعها إلى الله، إنّها الكلمة الطيّبة والنّصيحة الصّادقة: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10].

فإنّ الكلمة الصّادقة تفتح أبوابا من الخير، وتغلِق أبوابا من الشّر، ويوقِظ الله بها عبادا من الغفلة، ويحيِي بها قلوبا ميتة، وقد روى ابن حبّان بسند حسن عن أبي رزين -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَثَلُ المُؤْمِنِ مَثَلُ النَّحْلَةِ، لاَ تَأْكُلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ طَيِّباً".

أمّا قلب الأحمق في فمه، كما أنّ فم الحكيم في قلبه، والصّمت في وقته صفة الرّجال، كما أنّ النّطق في حقّ من أعظم الخصال.

وقد قال الحكماء: "لسان المرء من خَدَم الفؤاد" أي لا يستقيم اللّسان حتّى يستقيم الجنان:

لسان الفتى نصف، ونصفٌ فؤاده *** فلم تبقَ إلاّ صورة اللّحـم والدّم

الكلمة الطيّبة النّافعة من قلب المؤمن من أعظم وسائل الدّعوة إلى الله، يغيّر الله بها أقواما فيسلك بهم جادّة الحقّ والصّواب، ويفتح لهم بها كلّ باب.

الكلمة الطيّبة لا تزال ولن تزال تتردّد في أذن سامعها، فتتلذّذ بها الآذان، وتنشرح لها الصّدور، وتبتهج لها القلوب.

لذلك بقيت كلمات النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في آذان أصحابه -رَضي الله عنهم- جعلوها نبراسا لحياتهم، وشعارا لمواقفهم.

حفصةُ زوج النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أخبرت أخاها عبد الله بنَ عمر -رَضي الله عنهما- بقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيه: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ" فكانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا [رواه البخاري ومسلم].

ويوم نشبت الفتنة بين المؤمنين، قال الأَحْنَفُ بنُ قيسٍ: "ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فقالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قلتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قالَ: ارْجِعْ، فإِنِّي سمعْتُ رسولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يقولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ هذَا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ؟! قال: "إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ".

وها هو الفضيل بن عياض -رحمه الله- قبل توبته، كان يتسلّق الحيطان ليقترف الحرام، فإذا به يسمع قارئا يقرأ قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16]، فكانت توبتُه من لحظتئذٍ!

وهكذا الكلمة الطيّبة إذا خرجت من قلب صادق.

وهذا القعنبيّ -رحمه الله- الإمام العلم، والجبل الأشمّ: كان يشرب النّبيذ ويصحب الأحداث، فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم، فمرّ شعبةُ على حماره، والنّاس خلفه يهرعون، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة، قال: وإيش شعبة؟ قالوا: محدِّث. فقام إليه وعليه إزار أحمر، فقال له: حدِّثْنِي، فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدّثَك، فأشهر سكّينه، وقال: تُحّدثُنِي أو أجرحك؟ فقال له: حدّثنا منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا لَمْ تَسْتِحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" فرمى سكّينه، ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشّراب فأراقه، وقال لأمّه: السّاعةَ أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقَدِّمي الطّعام إليهم، فإذا أكلوا فأخبريهم بما صنعت بالشّراب حتّى ينصرفوا. ومضى من وقته إلى المدينة، فلزم مالكَ بنَ أنسٍ، ثمّ رجع إلى البصرة، وقد مات شعبة فما سمع منه غير هذا الحديث.

وهذا صلة بن أشْيم -رحمه الله-: يقول ثابتٌ البناني: كان صلة بن أشيم يخرج إلى الجُبّان، فيتعبد فيها، فكان يمرّ عليه شباب يلهون ويلعبون. فيقول لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سفراً فحادوا النّهار عن الطريق وباتوا باللّيل، متى يقطعون سفرهم؟ قال: فمرّ بهم ذات يوم، فقال لهم هذه المقالة، فقال شاب منهم: يا قوم، إنّه والله ما يعنِي بهم غيرَنا، نحن بالنّهار نلهو وباللّيل ننام! ثمّ اتّبع صلةَ فلم يزل يذهب معه إلى الجُبّان ويتعبّد معه حتّى مات.

وهذا زاذان أبو عمر الكندي الكوفيّ يقول: كنت غلاما حسن الصّوت، جيّد الضّرب بالعود، فكنت مع أصحابٍ لي وعندنا نبيذ، وأنا أغنّيهم، فمرّ ابن مسعود -رَضي الله عنه-، فوقف وقال: ما أحسن هذا الصّوت لو كان بقراءة كتاب الله! ثمّ جعل رداءه على رأسه وانصرف. فقال زاذان: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعودٍ -رَضي الله عنه-، صاحب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. قال: وماذا قال؟ قالوا: قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله!

كلمات يسيرات مباركات، آتت ثمارها وأحدثت مفعولها، فأزالت الغشاوة الّتي كانت عليه، فقام زاذان فضرب العُودَ بالأرض فكسره، ثم أسرع فأدرك بن مسعود وجعل يبكي بين يديه، قال: فأقبل علي فاعتنقني وبكى، وقال: مرحبا بمن أحبّه الله، اجلس. ثمّ دخل وأخرج لي تمرا.

تعلّم زاذان من ابن مسعودٍ القرآن، وأخذ منه حظاً من العلم، وصار من كبار المحدّثين يروي عن عبد الله بن مسعود، وسلمان، وغيرهم.

قال الذّهبي -رحمه الله- عنه: "أحد العلماء الكبار".

الخطبة الثّانية:

الحمد لله على إحسانه، وجزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلّ عليه وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع سبيله، وسار على منواله.

أمّا بعد:

فقد رأينا أثر الكلمة الطيّبة الصّادقة على القلوب، وكيف يبارك فيها علاّم الغيوب، فما على المؤمن إلاّ أن يكون متحدّثا بالخير، مجتنبا للسّوء والضّير، فـ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ﴾، وهو الفتّاح العليم، فإن شاء فتح بها القلوب، وإلاّ كانت حجّة على أهل المعاصي والذّنوب.

وعلى المؤمن أن يعلم أمورا ثلاثة:

أوّلا: لا تستبعِد توبةَ أحدٍ، وفي الأمثلة المذكورة خير دليل على ذلك. وقد كان النّاس يقولون: لن يُسلم عمر بن الخطّاب حتّى يُسلم حمار الخطّاب! وها هو اليوم من أفضل العشرة المبشّرين بالجنّة والثّواب.

ومّمّا حفظه لنا العلماء: أنّ شيخا أميرا من المهالبة أيام البرامكة، قدم البصرة في حوائج له، فلمّا فرغ منها انحدر إلى دجلة، ومعه جارية، فلمّا صار في دجلة إذا بفتى على ساحل دجلة عليه جبّة وبيده عكّاز ومزود، فسأل الملاّحَ أن يحمله إلى البصرة، فرآه المهلّبي، فرقّ لحاله، فقال للملاّح: احمله معك، فحمله.

فلمّا كان في وقت الغداء دعا الشيخ بالسّفرة وقال للملاّح: قل للفتى ينزل إلينا، فأبى، فلم يزل يطلب منه ذلك حتّى نزل. فأكلوا، حتّى إذا فرغوا ذهب الفتى ليقوم فمنعه الشّيخ المهلّبي، ثمّ دعا بشراب، فشرب قدحاً ثم سقى الجارية، ثم عرض على الفتى، فأبى، وقال: أحبّ أن تَعْفِيَنِي. ثمّ أخرجت الجارية عوداً فأخذت تغنّي. فقال: يا فتى، تحسن مثل هذا ؟ قال: أحسن ما هو أحسن من هذا، فقال: هاتِ ما عندك؟ فافتتح الفتى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ﴿قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ(78)﴾ [النساء: 77 – 78]، وكان الفتى حسن الصوت، قال: فرجّ الشّيخ بالقدح في الماء، وقال: أشهد أنّ هذا أحسن ممّا سمعت! فهل غير هذا؟ قال: نعم، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: 29] قال: فوقعت من قلب الشّيخ موقعاً، قال: فأمر بالشّراب فرمى به، وأخذ العود فكسره، ثمّ قال: يا فتى، هل هاهنا فرج؟ قال: نعم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53] قال: فصاح الشّيخ صيحةً خرّ مغشياً عليه، فنظروا فإذا الشّيخ قد ذاق الموت.

ثانيا: إن لم ينتفع سامعُك انتفع غيره، وفي الحديث: "رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ"، و"وَرُبَّ مبلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ".

إحدى الممثّلات في مشوار الفسق والفجور في هذا الزّمان هداها الله -تعالى-، فكيف كان ذلك؟ تقول: رجعت يوماً إلى البيت، فسمعت ابنتِي تردّد بيتاً من الشّعرِ حفّظتها إياه المدّرِسة في المدرسة لشوقي:

خدعـوها بقولهـم حسناء *** والغـواني يغرّهـن الثّـناء

نظـرة فابتسـامة فكـلام *** فسـلام فمـوعد فلقـاء

فاتّقوا الله في قلوب العذارى *** إنّ العذارى قلوبهـنّ هـواء

قالت الممثلة: سمعت ابنتي تقول هذه الأبيات، فوقعت في قلبي، ومنّ الله عليّ بالهداية.

ثالثا: ليس بالضّرورة أن تعلم بالنّتائج، في صيف أحد الأعوام عزمَتْ إحدى الأسر على السّفر إلى أوروبا، حيث التحرّر عن قيود الأخلاق الفاضلة. كانت الفتاة وهي تربط أمتعتها تقول لأخيها الأكبر في فرحة غامرة وسعادة كبيرة: أمّا هذه العباءة فسأتركها هنا، لا حاجة بي إليها! طارت الأسرة وطارت معها العقول والأصول، وظلّت هنالك شهراً كاملاً بين اللعب والعبث والمعصية لله -سبحانه وتعالى-. وفي ليلةٍ عادت الفتاة إلى غرفتها متأخّرة باللّيل، وأخذت الوسادة تريد أن تنام، فغداً هناك مهرجان غنائيّ صاخب! وأخذت تفكّر، كم السّاعة الآن ببلدي؟ فجعلت تقلّب قناة المذياع المعدّ للنّزلاء، فإذا بصوتٍ ينبعث من ركام صراخ وعويل مسلسلات والأغاني؛ إنّه صوت الأذان، صوت ندي وصل إلى أعماق قلبها من أقدس بقعه في الأرض من بلد الله الحرام! وصل هذا الصّوت قلب هذه الفتاة الضحيّة، وجعلت تستمع إلى القرآن الكريم، وتفكر فيما صنعت تلك الليلة، وما الّذي كانت تنوي صنعه غداً! فلمّا فرغ القارئ من القراءة، قالت: أصابني الحنين ليس إلى الوطن ولا إلى المكان ولا إلى الزمان، ولكن إلى فاطر السّموات والأرض الرّحيم الرّحمن. قالت: فقمت، وتوضّأت وصلّيت.

فعليك -أخي الكريم-: أن تحتسب الأجر، فقد يسمع كلمتك في مكان ما لا تظنّ أنّها قد بلغت ما بلغت، وهذا المؤذّن قد فتح الله به قلب الفتاة وهو لا يدري عن ذلك شيئا، ولكنّ الله يعلمه.