الإحسان إلى الميت

عناصر الخطبة

  1. استحباب المسارعة في تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه
  2. ما ينبغي على الأحياء نحو الميت
  3. ارتهان الميت بعمله
اقتباس

إذا مات الميت بادر أولياؤه بتجهيزه، والصلاة عليه، ودفنه، وهذا عمل جليل؛ لكونه سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكاد أحد منهم يفرط في هذا أو يقصر، ولكن هناك أمور يغفل عنها أولياء الميت ولا سيما مع تقادم العهد بوفاته، وهو…

الخطبة الأولى:

إذا مات الميت بادر أولياؤه بتجهيزه، والصلاة عليه، ودفنه، وهذا عمل جليل؛ لكونه سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكاد أحد منهم يفرط في هذا أو يقصر، ولكن هناك أمور يغفل عنها أولياء الميت ولا سيما مع تقادم العهد بوفاته، وهو أشد حاجة إلى أن يلتفتوا إليها لتعلق الثواب والعقاب بها، وقد حيل بينه وبين ذلك بما جرى عليه من الموت، ومن ذلك: قضاء الدين عن الميت من حقوق العباد، فنفس الميت معلقة بدينه، ويحبس عن الجنة من أجله، وقضاؤه عنه ينفعه، عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا, فَغَسَّلْنَاهُ, وَحَنَّطْنَاهُ, وَكَفَّنَّاهُ, ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَخَطَا خُطًى, ثُمَّ قَالَ: "أَعَلَيْهِ دَيْنٌ" قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ, فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ, فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: اَلدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "حق اَلْغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا اَلْمَيِّتُ" قَالَ: نَعَمْ, فَصَلَّى عَلَيْهِ" [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ].

قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: "والدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة -والله أعلم- هو الذي قد ترك له وفاءً ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤد، أو أدانه في غير حق أو في سرف ومات ولم يؤده، وأما من أدان في حق واجب لفاقة وعسرة ومات ولم يترك وفاءً، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة -إن شاء الله-" [التمهيد: 23/239].

ومنها: قضاء الحقوق التي على الميت من حقوق الله -تعالى- كزكاة أو حج واجب، أو كفارة أو نذر تعين عليه؛ ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم – قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].

وفيهما عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "أنَّ امْرأة مِنْ جُهينةَ جاءتْ إلى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: إنَّ أُمِّي نذَرَت أنْ تَحُجَّ، فلم تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أفَاحُجُّ عنها؟ قال: "حُجِّي عنها، أرأيتَ لو كان على أمِّكِ ديَنٌ أكُنْتِ قَاضيَتَهُ؟" قالت: نعم، قال: "اقْضُوا اللَّه، فَاللَّه أَحقُّ بالوفَاءِ".

وفيهما: عنه أن امرأة من خثعم قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اَللَّهِ, إِنَّ فَرِيضَةَ اَللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي اَلْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا, لَا يَثْبُتُ عَلَى اَلرَّاحِلَةِ, أَفَأَحُجُّ عَنْهُ" قَالَ: "نَعَمْ"، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ" [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَفْظُ لِلْبُخَارِيِّ].

ومنها: تخليص الميت بإزالة ما تركه من منكرات من مأكول أو مشروب، أو آلة أو جهاز أو كتاب، ونحوها؛ فإن تبعاتها جارية عليه، قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يــس: 12]، وقال سبحانه: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: 25]، وقال جل شأنه: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: 13]، ﴿يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة: 13]، ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [الإنفطار: 5].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ومن دعا إلى ضَلالَة كان عليه من الإثمِ مِثْلُ آثام من تَبِعَهُ، لا يَنْقُص ذلك من أوزارهم شيئا".

ومنها: المسارعة في تنفيذ وصية الميت إذا كانت وصية حق، والحذر كل الحذر من تبديلها؛ لقول الله -تعالى-: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 181].

ومما يؤسف عليه: أن ترى إقدام بعض الأولياء على تعطيل الوصية التي فيها نفع للميت مع موافقتها للشرع، بسبب الشح بالمال، أو قيام الخصومات بين الورثة والتي منشؤها غالبا إساءة الظن فيما بينهم، أو ترى تكاسلا عن تنفيذ الوصية والقيام عليها بحسب شرط الموصي، فتتعطل الوصية، أو يضعف الانتفاع بها، والميت أشد حاجة إلى جريان العمل الصالح عليه.

وما ينبغي رعايته من الأولياء نحو الميت: الدعاء له والاستغفار، وليس هذا خاصا بالصلاة عليه، أو قرب وفاته، وقد علمنا الله ذلك: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].

الخطبة الثانية:

ومما ينبغي للأولياء رعايته: الصدقة عن الميت، ونشر علومه المفيدة، وصلة الرحم التي لا توصل إلا به، وبر صاحبه، والإحسان إلى من كان قائما عليهم من الوالدين والذرية، ولا سيما الفقراء واليتامى والعاجزون؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له".

وفيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ من أبَرِّ البرِّ صِلَةَ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ".

وفي سنن أبي داود وابن ماجة ومسند أحمد عن أبي أُسيد مالك بن ربيعة الساعدي -رضي الله عنه- قال: "بينا نحن جلوسٌ عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ جاءه رجُل من بني سَلِمة، فقال: يا رسول الله هل بَقِيَ من برِّ أبَوَيَّ شَيءٌ أبَرَّهُما بعد موتهما؟ فقال: "نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفار لهما، وإنْفَاذُ عهدهما من بعدهما، وصِلَة الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقهما".

أيها المؤمنون: الأموات في قبورهم آباؤونا وأمهاتنا وأولادنا وإخواننا وأقرباؤنا وإخواننا في الإسلام: قد أفضوا إلى ماقدموا، وارتهنوا بما عملوا، وانكشفت لهم مقاعدهم من الجنة أو النار، فالمحسن منهم يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليزداد من الخير، والمسيء يتمنى الرجوع إلى الدنيا لعله يعمل صالحا، ويتوب إلى ربه -جل وعلا-.

ولكن هيهات هيهات أن يكون ذلك، فلم يبق بعد رحمة أرحم الراحمين إلا عمل صالح ادخروه لأنفسهم بعد مماتهم، وإحسان الأحياء إلى الأموات، فأحسنوا إلى إخوانكم الموتى لعل الله يغفر لهم بسبب ما تصنعونه، ويكشف عنهم كربا بما تقدمونه، ويجعل في ذلك رحمة لكم بإحسانكم وبركم، ويقيض لكم من يحسن إليكم بعد مماتكم.