الميزانية والحرب وغزوة تبوك

عناصر الخطبة

  1. حديث عن الميزانية الجديدة في المملكة
  2. تأملات في أحداث غزوة تبوك وربطها بواقعنا المعاصر
  3. الأسباب الحقيقة لعاصفة الحزم
  4. هل ننفق لنصرة السنة؟
  5. الحث على الصبر على ارتفاع أسعار بعض السلع.
اقتباس

ومع الأزمةِ الاقتصاديَّةِ.. ومعَ الحربِ الشَّديدةِ القويَّةِ.. لم تُجمعْ من النَّاسِ والأموالِ.. ولم يُخصمْ من الرَّواتبِ ريالٌ.. بل تكلَّفتْ الدَّولةُ مشكورةً جميعَ النَّفقاتِ.. وصَرفتْ ملايينَ الرِّيالاتِ.. ولم تتأثرْ في بلادِنا المشاريعُ التَّنمويَّةُ.. ولمْ تنقصْ من أسواقِنا السِّلعُ الاستهلاكيَّةُ.. بل لا زالتْ والحمدُ للهِ الكريمِ الرحمنِ.. آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.. سؤالي هو: ماذا لو قيلَ لنا أنفقوا في سبيلِ صدِّ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ؟.. وفي سبيلِ نُصرةِ الجارِ، سنخصمُ من رواتِبكم ألفَ ريالٍ؟.. فهل سنكونُ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ؟.. أو نكونُ كمن خاطبَهم اللهُ تعالى بقولِه: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ(77)﴾..

الخطبة الأولى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ  ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70- 71].

أَمَّا بَعْدُ:

سأحدِّثُكم اليومَ عن الأزمةِ الاقتصادية وحربِ اليمنِ وميزانيَّةِ الدَّولةِ.. وذلكَ لأنَّ كثيراً من مجالسِنا اليومَ تربطُ بينَ هذه الثَّلاثةِ ربطاً شديداً.. فتتنوَّعُ التَّحاليلُ وتأتلفُ.. وتتَّفقُ الآراء وتختلفُ.. ولأننا مؤمنينَ بقولِه تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾.. ونعلمُ أن لنا ربَّاً كريماً.. ورسولاً عظيماً.. وتاريخاً مجيداً.. فنحنُ أمةُ تاريخٍ.

اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِبَر *** ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَبَر

فتعالوا لنتذاكرَ حَدَثاً تاريخيَّاً، كانَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- هو الإمامُ، وكانَ الشَّعبُ هم الخُلفاءُ وسائرُ الصَّحابةِ الكرامِ.. هذا الحدثُ كانَ في شهرِ رجبَ.. سنةَ تسعٍ للهجرةِ.

سمعَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أن هِرَقلَ ملكَ الرُّومِ قد جمعَ الجيوشَ لقتالِ المُسلمينَ.. وكانَ هناكَ أزمةٌ اقتصاديَّةٌ قد ضربتْ المدينةَ ومن حولَها.. في زمنِ عُسرةٍ من النَّاسِ.. وجَدبٍ من الأرضِ…. ومع ذلكَ أمرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالخروجِ لِقتالِ الرُّومِ.. في غزوةٍ عُرِفتْ في التَّاريخِ بغزوةِ تبوكَ..

وحثَّ النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- النَّاسَ على الصَّدقةِ.. وجاءتْ الآياتُ على الجهادِ بالمالِ والنَّفسِ.. كما قالَ تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 41].

فتتابعُ النَّاسُ يتصدَّقونَ بما يَجِدونَ.. فجاءَ أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ عنه- بمالِه كلِّه.. وجاءَ عمرُ -رضيَ اللهُ عنه- بنصفِ مالِه.. وجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضيَ اللهُ عنه- إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يُقَلِّبُهَا، وَهُوَ يَقُولُ: "مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ".

ولكن كانتْ نفقاتُ القِتالِ كثيرةً.. حتى أنه جاءَ البكَّاءونَ وهم سبعةٌ من الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم- إلى رَسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وقالوا له: إننا نُريدُ الذِّهابَ معكَ إلى غَزوةِ تَبوك، وليسَ معنا ما يحملُنا إلى هناكَ، فاعتذرَ لهم -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- لأنه ليسَ عندَه ما يحملُهم عليه من الدَّوابِ، أو يُزَوِّدُهم به من المئونةِ، فما كانَ من هؤلاءِ إلا أنهم انصرفوا من عندِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأعينُهم تَفيضُ من الدَّمعِ..

يَبكونَ حَزَناً وأسفاً على أنهم لن يستطيعوا المشاركةَ في هذه الغَزوةِ.. مع أنهم معذورونَ، وفيهم نَزلَ قولُ اللهِ تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ(92)﴾ [التوبة: 91- 92].

في هذه الغزوةِ وكالعادةِ طلَّ النِّفاقُ برأسِه.. وكشَّرَ المنافقونَ عن أنيابِهم.. فبدءوا بالاستهزاءِ بالمُتصدِّقينَ.. فَلَمَّا جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رضيَ اللهُ عنه- بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ، قَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ مَا جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَا جَاءَ بِهِ إِلا رِيَاءً.. وَلَمَّا جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، قَالُوا: إِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّيْنِ عَنْ هَذَا الصَّاعِ.. فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 79].

واستأذنَ المنافقونَ عن الخروجِ مع اختلاقِ الأعذارِ.. قَالَ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذَات يَوْم وَهُوَ فِي جَهَازه لِلْجَدِّ بْن قَيْس أَخِي بَنِي سَلَمَة: "هَلْ لَك يَا جَدُّ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟"، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَوَ تَأْذَن لِي وَلَا تَفْتِنِّي، فَوَاَللَّهِ لَقَدْ عَرَفَتْ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِر عَنْهُنَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 49]. 

ومن المواقفِ المُشرقةِ في تلكَ الغزوةِ.. أنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ -رضيَ اللهُ عنه- رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أَيّامًا إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا..

فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي الضَّحِّ –أَيْ الشَّمْسِ- وَالرّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ فِي مَالِهِ مُقِيمٌ، مَا هَذَا بِالنَّصَفِ –أَيْ العَدْلِ- ثُمّ قَالَ: وَاَللّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَهَيّئَا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا.. ثُمّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ –أيْ بَعِيرَهُ- فَارْتَحَلَهُ ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حَتّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ.

أقامَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في تبوكَ عِشرينَ يوماً، لم يجرؤ فيها هِرَقلُ ولا غيرُه على القُدومِ عليه، فما كانَ من حُكَّامِ المُدنِ في أطرافِ الشَّامِ وفي شمالِ الجزيرةِ إلا أن جاءوا في طلبِ الصُّلحِ ودفعِ الجزيةِ، فرجعَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- وقد تحقَّقَتْ أمورٌ عظيمةٌ، منها: إسقاطُ هيبةِ الرُّومِ من نُفوسِ العربِ جميعًا، مسلمُهم وكافرُهم على السَّواءِ، لأن قوةَ الرُّومِ كانتْ في حِسِّ العربِ لا تُقاومُ ولا تغلبُ.

ومنها: إظهارٌ قُوَّةِ الإسلامِ كقُوَّةٍ وَحيدةٍ في المنطقةِ قَادرةٌ على تحدي القُوى العظمى عالمياً –في ذلكَ الوقتِ- ليسَ بدافعٍ عصبيٍّ أو عِرقيٍّ، أو تحقيقِ أطماعِ زعاماتٍ معاصرةٍ، وإنما بدافعٍ إيمانيٍّ؛ حيثُ تدعو الإنسانيَّةَ إلى تَحريرِ نفسِها من عبوديةِ العبادِ إلى عبوديةِ ربِّ العبادِ.

عبادَ اللهِ..

نرجعُ الآنَ إلى واقعِنا.. فعندنا أزمةٌ اقتصاديَّةٌ عالميةٌ.. لأسبابٍ معلومةٍ وخفيَّةٍ.. تأثَّرَ منا القَاصي والدَّاني.. وبعضُ البِلادِ أوشكتْ على إعلانِ إفلاسِها.. وكثيرٌ من المصانعِ أُغلقتْ.. وكثيرٌ من الشَّركاتِ خَسِرتْ.. وكثيرٌ من العمالِ سُرِّحتْ.. وكثيرٌ من المشاريعِ توقَّفتْ.. وأصبحَ الجميعُ على حذرٍ.. فلا يعلمونَ متى يرتفعُ الخطرُ.

وعندنا حربٌ لصدِّ عُدوانِ الفُرسِ.. وكَسرٍ لأنفِ كلِّ مُتغطرسٍ.. الذي لا يحترمُ المُسلمَ ولا الجِوارَ.. ولا يُفيدُ فيه التَّهديدُ ولا الإنذارُ.. ولا ينفعُ معه طيبٌ ولا إحسانٌ.. ولا يردُّه الاستعاذةُ من الشَّيطانِ.

كم صبرنا على تهديداتِهم المُستفزَّةِ.. وتصريحاتِهم التي لا تنطلقُ من عِزَّةٍ.. كم عاثوا في الأرضِ الفسادَ.. ونشروا الشِّركَ والبدعةَ بينَ العِبادِ.. وتسلَّطوا على أهلِ السُّنَّةِ في كلِّ مكانٍ.. وكانوا خيرَ معينٍ لعُبَّادِ الصُّلبانِ.. حتى ظنَّ الجاهلُ أنهم أقوياءُ.. وانخدعوا بأنفسِهم أنهم عظماءُ.

فحانَ للفُقاعةِ الصَّفويَّةِ أن تُفقعَ.. وحانَ لعمائمِ الملالي أن تُخلعَ.. وحانَ لغمامةِ الرَّفضِ أن تُقشعَ.. وحانَ لألسنةٍ سبَّتْ خيرَ هذه الأمَّةِ أن تُقلعَ.. وحانَ لسودِ الوجوهِ أن تَخشعَ.

فجاءتْ عاصفةُ الحزمِ.. بعدَ صبرٍ وتأنٍ وحِلمٍ.. رافعةً شِعارَ الجِهادِ والتَّوحيدِ.. ونُصرةً لجارنا اليمنِ السَّعيدِ.. لتهدمَ قِلاعَاً بناها المُجرمونَ سنينَ.. وصُرفتْ من أجلها الأخماسُ سنينَ.. فجاءت باردةً على قلوبِ أهلِ الإيمانِ.. حارقةً لقلوبِ أهلِ الكُفرِ والنِّفاقِ والعِصيانِ.. فهنيئاً لأرواحِ الشُّهداءِ.. ولا نامتْ أعينُ الجُبناءِ.

ومع الأزمةِ الاقتصاديَّةِ.. ومعَ الحربِ الشَّديدةِ القويَّةِ.. لم تُجمعْ من النَّاسِ والأموالِ.. ولم يُخصمْ من الرَّواتبِ ريالٌ.. بل تكلَّفتْ الدَّولةُ مشكورةً جميعَ النَّفقاتِ.. وصَرفتْ ملايينَ الرِّيالاتِ.. ولم تتأثرْ في بلادِنا المشاريعُ التَّنمويَّةُ.. ولمْ تنقصْ من أسواقِنا السِّلعُ الاستهلاكيَّةُ.. بل لا زالتْ والحمدُ للهِ الكريمِ الرحمنِ.. آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.

ولكن يا أهلَ الإيمانِ..

سؤالي هو: ماذا لو قيلَ لنا أنفقوا في سبيلِ صدِّ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ؟.. وفي سبيلِ نُصرةِ الجارِ، سنخصمُ من رواتِبكم ألفَ ريالٍ؟.. فهل سنكونُ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ؟.. أو نكونُ كمن خاطبَهم اللهُ تعالى بقولِه: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ(77)﴾ [التوبة: 76- 77].

أتعلمونَ ما هي عقوبةُ من تركَ نُصرةَ أهلِّ السُّنَّةِ.. ومن جعلَ العدو يخوضُ في دماءِ المسلمينَ وأعراضِهم.. وهو يقولُ: نفسي.. نفسي.. عقوبتُه: أنَّه سيقولُ كما قصُّ علينا آباؤنا قديماً.. أكِلتْ يومَ أكلَ الثَّورُ الأبيضُ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنِي وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِن الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ.. أَقُولُ قَولِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ.. خلقَ فسوى.. وقدرَ فهدى.. أحمدُه تعالى وأشكرُه وأثني عليه الخيرَ كلَه.. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمدُ لا شريكَ له.. وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه رحمةً من اللهِ للعالمينَ (وَمَا أَرْسَلْنَـاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـالَمِينَ).. صلواتُ ربي وسلامُه عليه ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ..

 أما بعد:  عبادَ اللهِ.. أُعلنتْ الميزانيَّةُ قبلَ أيامٍ.. ولا زالتْ والحمدُ للهِ ميزانيَّةٌ عظيمةٌ مباركةٌ.. ونسألَ اللهَ تعالى أن يُباركَ فيها.. وأن يجعلْها في يدِّ الأمناءِ الشُّرفاءِ.. لينتفعَ بها الصَّغيرُ والكبيرُ والأقوياءُ والضُّعفاءِ.

ولكنَّ العجيبَ أنَّ العجزَ في ميزانيَّةِ العامِ كانَ ثَلاثمائةٍ وسبعةٌ وستونَ مليارٍ.. أيْ ما يُعادلُ ميزانيَّةَ دُوَلٍ كُبرى.. فهل لاحظتُم هذا العجزَ في حياتِكم اليوميَّةِ؟.. هل توَّقفتْ مشاريعُ البِناءِ.. وهل انقطعَ الماءُ أو الكهرباءُ.. أو تأخَّرَ الراتبُ أو صرَّحَ بذلكَ الوزراءُ.. فالحمدُ للهِ على نعمِه التي لا تُحصى.. وآلائه التي لا تُنسى.

ولئن رُفِعَ البنزينُ والماءُ والكهرباءُ لأجلِ هذه الأوضاعِ هللاتٍ قليلةً.. فعلينا بالصَّبرِ والتَّعاونِ وتَذكُّرِ نعمِ اللهِ الجليلةِ.. وليكن هذا شيئاً قليلاً نقدمهُ للوطنِ حتى تنتهي الأزماتِ.. ويرجعُ الأمرُ أحسنُ مما مضى وفاتَ..

فواللهِ إن الأمنَ والعافيةَ لتُسترخصُ من أجلِها الدِّماءُ والأموالُ.. واسألْ من فقدَ أمنَه ووطنَه.. اسألْه عن شوقِه لتُرابِ الوطنِ والحنينِ.. فستُجيبُكَ قبلَ لسانِه دموعُ العينينِ.. واللهِ لخيمةٌ في بلادي لا كهرباءَ فيها ولا ماءَ.. في أمنٍ وعافيةٍ بينَ الأهلِ والأصدقاءِ.. أعظمُ من كلِّ نعمةٍ ولكن لا يَعرفُها إلا من أصبحَ مثلي من الغُرباءِ.

بلادٌ ألفناها على كلِ حالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ

وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها *** ولا ماؤها عذبٌ، ولكنها وَطَنْ

فالصبرَ الصبرَ.. والدُّعاءَ بالنَّصرِ.. وإياكم وأهلَ الشَّكِ والفسادِ.. الذينَ لا يُريدونَ خيراً لهذه البلادِ.. فنحنُ بايعنا إمامَنا طاعةً للهِ تعالى، لا لأجلِ الدنيا، كما قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: -ومنهم- وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ".

اللهمَّ إنا نسألُك الحياةَ الطَّيبةَ في الدِّينِ والدُّنيا والآخرةِ، اللهمَّ اجعل قناعتَنا في قلوبِنا، اللهم اجعلْ الدُّنيا في أيدينا، ولا تجعلْها في قلوبِنا، واجعلها عونًا على طاعتِك، اللهم اكفِنا بحلالِك عن حرامِك، وبفضلِك عمن سِواكَ، اللهم اغفرْ ذنوبَنا، وأصلحْ أعمالَنا.

 اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، وخُصَّنا بمزيدٍ من الرحماتِ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ يا من أظهرَ الجميلَ وسترَ القَبيحَ، يا من لا يؤاخذُ بالجريرةِ ولا يَهتكُ السِّترَ، نسألُك اللهمَّ أن تَمنَّ علينا بسترِك الجميلِ وفضلِك الجزيلِ، اللهم اجعلْ سريرتَنا خيراً من علانيتِنا.

اللهم استرْنا فوقَ الأرضِ وتحتَ الأرضِ ويومَ العرضِ، ولا تفضحْنا بينَ الخَلقِ، اللهم إنا نسألُك الإيمانَ، والعفوَ عما سلفَ وكانَ يا رحيمُ يا رحمنُ، اللهم انصر المسلمينَ واخذلْ أعداءَ الدِّينِ، وانشرْ السُّنَّةَ في العالمينَ، وارفعْ لواءَ الجِهادِ في الأرضِ إنكَ أنتَ الذي تنصرُ المستضعفينَ..

اللهمَّ آمنَّا في أوطانِنا، واستعملْ علينا خيارَنا، اللهم أصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعلهم هُداةً مهتدينَ؛ يقولونَ بالحقِّ وبه يَعدلونَ يا ربَّ العالمينَ.. اللهم ارفع عنَّا الغلاءَ والوباءَ والرِّبا والزِّنى، والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفِتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ عن بلدِنا هذا خاصةً، وعن سائرِ بلادِ المسلمينَ عامةً يا ربَّ العالمينَ.