كبيرة الزنا (3) فضل العفة

عناصر الخطبة

  1. الزنا من أخبث الأعمال وأبشعها
  2. العفة حصن حصين للوقاية من الزنا
  3. أول عتبات العفاف: غض البصر
  4. الفتنة بالنساء أعظم الفتنة
  5. تأملات في عفة يوسف عليه السلام
  6. عفة النساء عن الحرام أوجب
  7. صور من عفاف المرأة وفضله في القرآن والسنة.
اقتباس

الحمد لله العليم الحليم، التواب الرحيم؛ يعلم ذنوب عباده فيسترهم، ويرى جنايتهم فيحلم عنهم، ولا يعاجلهم بالعذاب رحمة بهم، ويقبل توبة التائب منهم ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشُّورى:25] نحمده ونشكره على نعم أتمها، وعافية أسبغها، وعلى عيوب سترها، وذنوب غفرها، وعلى معاصٍ وفَّق لتركها، وطاعات أعان على فعلها.

الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْعَلِيمِ الْحَلِيمِ، التَّوَّابِ الرَّحِيمِ؛ يَعْلَمُ ذُنُوبَ عِبَادِهِ فَيَسْتُرُهُمْ، وَيَرَى جِنَايَتَهُمْ فَيْحْلُمُ عَنْهُمْ، وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ رَحْمَةً بِهِمْ، وَيَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِ مِنْهُمْ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشُّورى: 25]، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَعَلَى عُيُوبٍ سَتَرَهَا، وَذُنُوبٍ غَفَرَهَا، وَعَلَى مَعَاصٍ وَفَّقَ لِتَرْكِهَا، وَطَاعَاتٍ أَعَانَ عَلَى فِعْلِهَا. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُنْعِمُ عَلَى الْعِبَادِ وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ شَكُورٌ، وَيَحْلُمُ عَنْهُمْ وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ وَيَئُوبُ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ، وَكُلُّ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي خَلْقِهِ ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ؛ أَعَفُّ النَّاسِ نَفْسًا، وَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَأَطْيَبُهُمْ قَلْبًا، وَأَزْكَاهُمْ عَمَلًا، وَأَغَضُّهُمْ بَصَرًا، وَأَحْصَنُهُمْ فَرْجًا، وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى لِكَمَالَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَجَنَّبَهُ السُّوءَ وَالْفَوَاحِشَ وَالرَّذَائِلَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ تَعَالَى كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12].

أَيُّهَا النَّاسُ: شَهَوَاتُ الدُّنْيَا تَزُولُ بِزَوَالِ وَقْتِهَا، وَالمُمَتَّعُونَ فِيهَا لَا تَكْتَمِلُ لَذَّتُهُمْ بِهَا، فَتُخَالِطُ لَذَائِذَهُمْ أَكْدَارُهَا، وَتُفْسِدُهَا عَلَيْهِمْ مَصَائِبُهَا وَمُنَغِّصَاتُهَا، وَيَقْطَعُهَا أَبَدًا رَحِيلُهُمْ عَنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ شَهَوَاتٍ مُحَرَّمَةً كَانَتْ أَوْزَارُهُمْ مَعَهُمْ تَسُوءُ بِهَا أَحْوَالُهُمْ، وَتَسْوَدُّ بِهَا وُجُوهُهُمْ؛ كَمَا يُمَثَّلُ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ فِي الْقَبْرِ بِصُورَةِ رَجُلٍ قَبِيحٍ يُنْذِرُ صَاحِبَهُ وَيَتَوَعَّدُهُ، فَيَقُولُ: «مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: "أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ».

وَالزِّنَا مِنْ أَخْبَثِ الْأَعْمَالِ وَأَبْشَعِهَا، وَهُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَمُوبِقَاتِهَا، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ عَبْدٌ إِلَّا شَقِيَ فِي دُنْيَاهُ قَبْلَ أُخْرَاهُ، فَإِنْ فَاجَأَهُ المَوْتُ وَهُوَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى بِذَنْبٍ عَظِيمٍ، وَإِثْمٍ مُبِينٍ.

وَكُلَّمَا تَيَسَّرَتْ طُرُقُ الزِّنَا؛ عَظُمَ الْبَلَاءُ بِهِ، وَاشْتَدَّ الصَّبْرُ عَلَيْهِ، وَتَلَوَّثَتْ بِهِ المُجْتَمَعَاتُ، وَتَنَزَّلَتْ بِهِ الْعُقُوبَاتُ. وَإِذَا أُوصِدَتْ أَبْوَابُ الزَّوَاجِ، وَبَالَغَ النَّاسُ فِي مَئُونَتِهِ؛ حَلَّ الْحَرَامُ مَحَلَّ الْحَلَالِ.

وَاجْتِنَابُ المُحَرَّمِ أَهْوَنُ مِنْ تَرْكِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَالْعَفَافُ عَنِ الزِّنَا أَفْضَلُ مِنَ التَّوْبَةِ مِنْهُ؛ وَلِذَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنِ الْقُرْبِ مِنْ أَسْبَابِهِ لِيَتَحَقَّقَ اجْتِنَابُهُ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32].

وَالْعِفَّةُ حِصْنٌ دُونَ الزِّنَا حَصِينٌ، فَمَنْ تَحَصَّنَ بِهَا نُجِّيَ مِنْهُ؛ وَلِذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مَنْ لَا يَجِدُ مَئُونَةَ النِّكَاحِ ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33].

وَالْعِفَّةُ هِيَ الْكَفُّ عَنِ الْقَبِيحِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْعِفَّةُ إِلَّا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ خَالٍ مِنَ الْهَوَى؛ فَإِنَّ هَوَى الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ يَصْرُعُه، كَمَا أَنَّ هَوَى المَرْأَةِ بِالرَّجُلِ يَصْرَعُهَا، وَالْعَيْنُ هِيَ طَرِيقُ هَوَى الْقَلْبِ، فَمَا تَسْتَقْبِلُهُ الْعَيْنُ يَنْزِلُ عَلَى الْفُؤَادِ، وَلِلنَّظَرَاتِ سِحْرٌ يَتَجَاوَزُ بَيَانَ الشُّعَرَاءِ، وَكَلَامَ الْبُلَغَاءِ، فَإِذَا رَأَى مَلِيحٌ مَلِيحَةً وَلَمْ يَصْرِفْ بَصَرَهُ عَنْهَا أَقَامَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِمَا، وَنَقَلَ رَسَائِلَ الْعَيْنَيْنِ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتْرُكُهُمَا إِلَّا صَرِيعَيْنِ لِلْحَرَامِ مَا لَمْ يَنْزِعَا؛ وَلِذَا قُرِنَ إِحْصَانُ الْفَرْجِ بِغَضِّ الْبَصَرِ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ(31)﴾ [النور: 30-31]. وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ «زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

فَأَوَّلُ عَتَبَاتِ الْعَفَافِ غَضُّ الْبَصَرِ، وَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ ارْتَاحَ قَلْبُهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ شَقِيَ قَلْبُهُ بِمُطَارَدَةِ الْهَوَى، فَإِنْ أَدْرَكَ هَوَاهُ وَقَعَ فِي الْكَبِيرَةِ فَعَذَّبَهُ ذَنْبُهُ وَأَشْقَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مَا هَوِيَ بَقِيَ تَعَلُّقُهُ بِقَلْبِهِ عَذَابًا عَلَيْهِ، وَغَضُّ الْبَصَرِ يَقِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءً غَضَّهُ عَنِ النَّظَرِ المُبَاشِرِ وَخَاصَّةً فِي مُجْتَمَعَاتِ النِّسَاءِ، أَوْ غَضَّهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الصُّوَرِ الثَّابِتَةِ وَالمُتَحَرِّكَةِ وَهِيَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا تَكَادُ تُفَارِقُ النَّاسَ، وَالِابْتِلَاءُ بِهَا عَظِيمٌ، وَالْفِتْنَةُ بِهَا شَدِيدَةٌ، وَالمَعْصُومُ مِنْهَا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى فَصَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا لَكِنْ لَا يُؤَاخَذُ إِلَّا إِذَا ثَبَّتَ بَصَرَهُ عَلَيْهَا، أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ إِلَيْهَا، قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَمَا هَذَا التَّشْدِيدُ فِي النَّظَرِ إِلَّا لِوِقَايَةِ الْقَلْبِ مِنَ الْهَوَى، وَلِتَكْمِيلِ صَاحِبِهِ بِالْعِفَّةِ عَنِ المَحَارِمِ، وَحِمَايَتِهِ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا.

وَلِأَهَمِّيَّةِ الْعِفَّةِ عَنِ الْحَرَامِ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا خَبَرَ الْعَفِيفِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، حَتَّى بَهَرَ النِّسْوَةَ بِجَمَالِهِ وَحُسْنِهِ ?فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ? [يوسف: 31]، وَعَفَافُهُ أَجْمَلُ مِنْ حُسْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ فِي حُسْنِهِ، بَيْنَمَا عَفَافُهُ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ تَوْفِيقِ اللَّـهِ تَعَالَى لَهُ. وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ عَفَافًا كَعَفَافِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ تُرَاوِدُهُ الْأَمِيرَةُ عَنْ نَفْسِهِ، وَشُغِفَتْ بِهِ حُبًّا، وَهِيَ ذَاتُ جَاهٍ وَمَالٍ وَجَمَالٍ، وَهُوَ فِي قُوَّةِ الشَّبَابِ، وَعُنْفُوَانِ الشَّهْوَةِ، وَالْأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَالْجَمِيلَةُ تُنَادِيهِ، فَيَعِفُّ عَنْهَا وَيَقُولُ: (مَعَاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23]؟! وَيَخْتَارُ غُرْبَةَ السِّجْنِ وَوَحْشَتَهُ، وَتَقْيِيدَ حُرِّيَّتِهِ عَلَى الْوُقُوعِ فِي فَاحِشَةٍ تُخَلِّفُ الْحَسْرَةَ وَالنَّدَامَةَ ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ(34)﴾ [يوسف: 33-34].

يَا لَهَا مِنْ عِفَّةٍ اسْتَعَانَ فِيهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاللَّـهِ تَعَالَى فَأَعَانَهُ المَوْلَى سُبْحَانَهُ! يَا لَهَا مِنْ عِفَّةٍ تَذَكَّرَ فِيهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضْلَ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَغْدِرْ بِهِ فِي أَهْلِهِ، وَلَمْ يَخُنْهُ بِتَدْنِيسِ عِرْضِهِ! بَلْ كَافَأَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بِصِيَانَةِ عِرْضِهِ، وَحِفْظِهِ فِي زَوْجِهِ. فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ تَعَالَى صِدْقَهُ فِي عِفَّتِهِ اسْتَجَابَ دَعْوَتَهُ، وَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَ النِّسْوَةِ، وَأَظْهَرَ بَرَاءَتَهُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبَةِ المَكِيدَةِ ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآَنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ(52)﴾ [يوسف: 51-52]. ثُمَّ كَانَ لَهُ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ بِالْتِزَامِ التَّقْوَى، وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلْوَى، وَمُرَاقَبَةِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى.

وَمَا قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا خَبَرَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنِ ابْتِلَاءِ النِّسَاءِ لَهُ إِلَّا لِنَتَعَلَّمَ مِنْ سِيرَتِهِ الْعِفَّةَ، وَنَثْبُتُ فِي مَوَاطِنِ الْفِتْنَةِ؛ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ بِالنِّسَاءِ أَعْظَمُ الْفِتْنَةِ، وَالْعِفَّةَ عَنِ الْحَرَامِ مَعَهُنَّ أَعْظَمُ الْعِفَّةِ؛ فَالمَالُ الْحَرَامُ يَعِفُّ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَعِفُّ عَنْ جَمِيلَاتِ النِّسَاءِ إِلَّا قَلَائِلُ الرِّجَالِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعِفَّةِ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ الْأَوَامِرِ؛ لِيُنْشِئَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا لَزِمُوا الْعِفَّةَ فَتَجَمَّلُوا بِهَا؛ وَلِذَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لهِرَقْلَ يُخْبِرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَقَصَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَبَرَ ذَلِكَ الْعَفِيفِ الَّذِي رَاوَدَ ابْنَةَ عَمِّهِ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهَا لِحَاجَةٍ أَلمَّتْ بِهَا فَعَفَّ عَنْهَا؛ خَشْيَةً لِلَّـهِ تَعَالَى، وَتَرَكَ لَهَا مَا أَعْطَاهَا، فَلَمَّا انْحَدَرَتْ عَلَيْهِ الصَّخْرَةُ هُوَ وَصَاحِبَيْهِ فَأَغْلَقَتِ الْغَارَ عَلَيْهِمْ سَأَلُوا اللهَ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِهمْ فَقَالَ الْعَفِيفُ فِي تَوَسُّلِهِ: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ، مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ، إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، فَقَالَتْ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ المِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا».

وَرَغَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِفَّةِ أَشَدَّ تَرْغِيبٍ فَذَكَرَ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلًا «دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ» فَيَسْتَظِلُّ فِي يَوْمٍ شَدِيدٍ حَرُّهُ، طَوِيلٌ زَمَنُهُ، عَسِيرٌ عَلَى النَّاسِ؛ جَزَاءً لَهُ عَلَى عِفَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَهُ امْتِحَانٌ بِامْرَأَةٍ ذَاتِ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ، فَلَا يَقْوَى عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ مِنْهَا إِلَّا أَهْلُ الْعَفَافِ الَّذِينَ عَمُرَتْ قُلُوبُهُمْ بِمُرَاقَبَةِ اللَّـهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ.

وَفِي الْعَفَافِ ضَمَانُ الْجَنَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاللهُ تَعَالَى يُعِينُ النَّاكِحَ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.

فَحَرِيٌّ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ الْعَفَافِ، وَإِتْيَانِ أَسْبَابِهِ، وَالِابْتِعَادِ عَنْ أَسْبَابِ الْفَوَاحِشِ؛ فَإِنَّ مَنِ اسْتَهَانَ بِالنَّظَرِ اسْتَهَانَ بِالْكَلَامِ، وَتَدَرَّجَ فِي خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَقَعَ فِي الْفَوَاحِشِ، وَالْوُقُوعُ فِيهَا كَشُرْبِ مَاءِ الْبَحْرِ، لَا يَرْوَى صَاحِبُهُ وَلَا يَكْتَفِي حَتَّى يُعْطِبَ نَفْسَهُ وَيُهْلِكَهَا بِالْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام: 120].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ…

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ..

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 223].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: كَمَا أَنَّ الْعِفَّةَ عَنِ الْحَرَامِ فَرْضٌ عَلَى الرِّجَالِ فَهِيَ كَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى النِّسَاءِ. بَلْ هِيَ عَلَى النِّسَاءِ أَوْجَبُ مِنْهَا عَلَى الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْحَمْلِ وَاخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ؛ وَلِأَنَّ عَارَهَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى زَوْجِهَا وَوَلَدِهَا وَوَالِدَيْهَا وَأَهْلِهَا وَعَشِيرَتِهَا. وَكَانَ نِسَاءُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْنَفْنَ مِنَ الزِّنَا؛ وَاشْتُهِرَتْ قِصَّةُ لَيْلَى بِنْتِ لَكِيْزِ بْنِ مُرَّةَ الَّتِي عُرِفَتْ فِي التَّارِيخِ بِلَيْلَى الْعَفِيفَةِ الَّتِي أَسَرَهَا ابْنٌ لِكِسْرَى فَأَرَادَهَا لِنَفْسِهِ فَتَمَنَّعَتْ، وَعَذَّبَهَا عَذَابًا شَدِيدًا وَمَا ظَفِرَ بِهَا، فَخَيَّرَتْهُ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهَا أَوْ يُعِيدَهَا إِلَى قَوْمِهَا، فَحَبَسَهَا عِنْدَهُ حَتَّى قَالَتْ شِعْرًا فِي حَالِهَا تَسْتَنْجِدُ بِابْنِ عَمِّهَا الْبَرَّاقِ، فَجَمَعَ قَبَائِلَ رَبِيعَةَ وَأَحْلَافَهُمْ وَخَلَّصَهَا مِنْ أَسْرِهَا وَتَزَوَّجَهَا.

وَلمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَكَّدَ عَلَى عِفَّةِ المَرْأَةِ تَأْكِيدًا شَدِيدًا، وَنَهَى النِّسَاءَ عَنْ كُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَبَذُّلِهنَّ وَافْتِتَانِ الرِّجَالِ بِهِنَّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.

وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَثَلًا فِي الرِّجَالِ عَلَى الْعِفَّةِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ عَفَافَ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ عَلَيْهَا السَّلَامُ ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ﴾ [التَّحريم: 12]، وَلمَّا تَمَثَّلَ لَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ تَعَوَّذَتْ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنْهُ لِعِفَّتِهَا وَحَصَانَتِهَا ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 18].

وَقَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ سَارَةَ زَوْجِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لمَّا أَرَادَهَا المَلِكُ فَقَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي، إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ الكَافِرَ» فَحَمَاهَا اللهُ تَعَالَى مِنْهُ. وَقِصَّتُهَا مُخَرَّجَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.

وَرَتَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ المَرْأَةِ الْجَنَّةَ عَلَى عِفَّتِهَا، فَقَالَ: «إِذَا صَلَّتِ المَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا، دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ شَاءَتْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

فَعَفَافُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ أَوَامِرِ اللَّـهِ تَعَالَى المُحْكَمَةِ؛ لِتَسْلَمَ الْقُلُوبُ مِنْ أَمْرَاضِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَتَسْلَمَ المُجْتَمَعَاتُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاحِشِ وَالِانْحِرَافِ الَّتِي تُسَبِّبُ الطَّوَاعِينَ وَالْأَمْرَاضَ، «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ».

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ…

بطاقة المادة

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية