المطر رحمة

عناصر الخطبة

  1. عظمة قدرة الله سبحانه
  2. مشاهد الضعف البشري
  3. نزول المطر والتغير من حال إلى حال
  4. القحط من أعظم الشدائد
  5. ضعف البشر وافتقارهم إلى رحمة خالقهم
  6. ما بين القنوط والرحمة إلا لحظات
  7. حياة الأرض بعد موتها بالمطر حقيقة واقعة
اقتباس

مشهد آخر يُري الناس قدر ضعفهم وافتقارهم إلى رحمة خالقهم، وقد غاب عنهم الغيث، وانقطع عنهم المطرُ، ووقفوا عاجزين عن تحصيل سبب الحياة الأول.. الماء.. وتطاول عليهم انحباس القطرُ حتى أدركهم اليأسُ والقنوط، ثم تتنزل رحمة الله بالغيث، وينشر سبحانه رحمته ببركة المطر، فتحيى الأرض بعد موتها، وتزهو بخضرتها ونباتها، وتصفو الأجواء، وتنطلق الحياة وقد دبّ فيها النشاط، وتنفرج الأسارير، وتبتهجُ القلوب، ويعود الرجاء بعد اليأس.. وما بين القنوط والرحمة إلا لحظاتٌ تتفتح فيها أبوابُ الرحمة ..

أما بعد:

فما بين طرفة عين وانتباهتِها *** يغيّر الله من حال إلى حال

وما أهونَ الأمرَ على العلي القدير، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كنْ فيكون.

كنا بالأمس نشكو الغَبَرَة، التي توالتْ على الناس فأرهقتهم، وأمرضتهم، وعطَّلتْ أعمالَهم، وكدّرتْ عليهم معاشَهم، فاكفهرَّتْ منها الوجوهُ، وبرِمَتْ بها النفوس، وحشرجت بها الصدور، فما لبثت رحمة الله أن تنزلت بأمره جل جلاله، فخلف الغبرةَ غيثٌ عميم، وأعقب القترةَ صفاءً، والجدبَ ارتواءً، واستبشر الناس فألاً، وأمّلوا خيراً.

ويلوح في هذه الغبرة العابرة مشهدٌ من مشاهدِ الضَّعْفِ البشري؛ حيث تتقلب بهم الأجواء، فتُسلطُ عليهم ذراتُ الغبارِ تذروها الرياح، يرتقبونها؛ ولكنهم لا يستطيعون ردّها ولا صرفها، لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلاً، ثم يحاولون الاحتماء عنها؛ ولكنها تتبعهم حتى تدخل عليهم بيوتَهم، ويصيبهم من قَتَرِها ما يُصيبهم، كلُّ ذلك وهم يملكون من وسائل التقنية ما يبهر العقول ويُحير الألباب، فأين جبروتهم؟ وأين كبرياؤهم؟ وأين قوتُهم؟ وهم يستدفعون ذرات الغبار فلا تندفع، ويحاولون توقيها فإذا بهم يحاولون عبثاً! هذا حالهم مع خلق ضعيف من خلق الله مسخرٍ بأمره متوجِّهٍ بحكمته، فكيف هو حالهم لو سُلط عليهم عذابٌ من عذاب الله، وجاءهم بأسٌ من بأس الله الشديد؟

ألم يقرؤوا في كتاب الله عاقبة المكذبين من أولي البأس الشديد، ﴿فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون(83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)﴾ [غافر: 83- 85].

ثم ننظر في مشهد هذا التغيّر من حال إلى حال، فنلمس في قطر الغمام صورةً من صور رحمات الله المتتابعة، التي تستعصي على العد والحصر، ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: 18].

ولذا سمى الله المطرَ غيثاً، ولم يُسم بذلك شيئاً غيرَه، فسمى المطر غيثاً؛ لأنه يكشف الشدة، والجدب والقحط من أعظم الشدائد، وتسمية المطر بالغيث يلقي على قطراته ظلَّ الغوثِ والنجدة، وتلبيةِ المضطر في الضيق والكربة، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28].

وهذا مشهد آخر يُري الناس قدر ضعفهم وافتقارهم إلى رحمة خالقهم، وقد غاب عنهم الغيث، وانقطع عنهم المطرُ، ووقفوا عاجزين عن تحصيل سبب الحياة الأول.. الماء.. وتطاول عليهم انحباس القطرُ حتى أدركهم اليأسُ والقنوط، ثم تتنزل رحمة الله بالغيث، وينشر سبحانه رحمته ببركة المطر، فتحيا الأرض بعد موتها، وتزهو بخضرتها ونباتها، وتصفو الأجواء، وتنطلق الحياة وقد دبّ فيها النشاط، وتنفرج الأسارير، وتبتهجُ القلوب، ويعود الرجاء بعد اليأس..وما بين القنوط والرحمة إلا لحظاتٌ تتفتح فيها أبوابُ الرحمة، فتتفتح أبوابُ السماء بماء منهمر يرى الناسُ فيه روح الحياة.

وتأمل معي هذا التعبير البليغَ الرائع ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ فإن هذا الوصف البليغ يمثِّل لناظريك آثارَ نزول الغيث على الأرض والناس، فتتمثّل لك صورُ الخضرة والرجاء والفرح، تلك الصورُ الناشئة عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار.

وما من مشهد يحرّك الحس ويبهج النفس كمشهد الغيث بعد الجفاف، وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث، وتنتشي بالخضرة بعد الموات، وليس هذا التقدير والتصريفُ إلا من الولي الحميد جل جلاله ، فهو المتولي رزقَ عبادِه وتفريجَ كروبهم، أفلا يكون بعد ذلك أهلاً للحمد والثناء والشكر؟ بلى وهو الغني الحميد.

بل حتى في ساحة المعركة يأتي المطر غيثاً من نوع آخر، حيث تتـنـزل قطرات المطر بتأييد الله ونصره، فتسكن بها القلوب وتطمئن، وتتطهر الأجساد وتنشط لملاقاة أعداء الله، وكذلك كان النصر الإلهي يوم بدر، حيث التقى المددُ الإلهي المادي بالمعنوي، وأنزل الله المطر نصراً من عنده وتسكيناً لقلوب المسلمين، ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: 11]، وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر من الرمل، تسوخ فيه الأقدام وحوافرُ الدواب، وكاد المشركون أن يسبقوهم إلى ماء بدر، وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان، وقال: تزعمون أنكم على الحق وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون محدثين ومجنبين، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم؟

فأرسل الله عليهم مطراً سال منه الوادي، فشرب المؤمنون واغتسلوا، وتوضئوا وسقوا الركاب، وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار، ولبَّد الأرضَ حتى ثبتتَ عليها الأقدام، وزالت عنهم وسوسةُ الشيطان، وطابتْ أنفسُهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: 11].

وبعد: فليس بكثير أن يسمى الله المطر رحمة في مواضع عدة من كتابه، والكناية عن المطر بالرحمة تشعر بعظيم نعمة المطر وعظيم فضلِ المنعم سبحانه.

﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 57]، ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 63].

وهذه القطرات التي تتنزل بالرحمة والغيث، قد تتنزل بالعذاب والعقوبة من غير أن يتغير شيءٌ من خصائص مادة هذه القطرات، هي في غيث الرحمة قطرات، وهي في الطوفان المُغرِقِ قطرات أخرى.

وليس بين الرحمة بالمطر والعذاب به إلا مشيئة المولى وتقديره سبحانه، أنزله بقدر فكان غيثاً فيه الرحمة والحياة، وزاد في قدره في موضع آخر فكان عذاباً مغرقاً وطوفاناً مدمراً.

وفي هذه الحقيقة إنذارٌ للناس إلا يأمنوا جانب الرحمة التي ألِفوها أن يأتيَهم من قبلها العذاب الأليم.

كما أخبر الله بذلك عن قوم عاد بالأحقاف ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: 24]، استبشروا بالريح التي ألفوا منها أن تثير السحاب وتلقحه، فجاءهم من قبلها ما لم يكونوا يحتسبون.

اللهم اجعل ما أنزلته علينا قوة لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين برحمتك يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية:

أما بعد: ففي صورة إنزال الغيث، ثم حياةِ الأرض به بتقدير الله تذكيرٌ بمشهد إحياء الناس يومَ البعث، فالذي قدِر على إحياء الأرض بعد موتها، قادر على إحياء الخلق بعد موتهم.

وقد جاء التذكير بهذه الحقيقة في سياق هذه الآيات من سورة الروم: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ أي بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من الأرض، ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أي يفرشه ويمده ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾ أي: متراكماً بتجميعه وتكثيفه، فيكون بعضُه فوق بعض ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ والوَدْقُ هو المطر يتساقط من خلال السحاب ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الروم: 48]، ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر.

ثم يقول جل جلاله تقريراً وتذكيراً لحالهم قبل نزول الغيث: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ [الروم: 49] فحوَّلهم ببركة ما أنزل عليهم من اليأس والقنوط والهمود إلى الفرح والاستبشار. ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الروم: 50] انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود؛ وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: 50] وحياة الأرض بعد موتها بالمطر حقيقةٌ واقعة، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر.

وهذه الحقيقة جعلها الله برهاناً على حقيقة البعث والنشور التي يكذب بها المجرمون، يثبتها على طريقة الجدل القرآني ، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة، وواقع الحياة المشهودة، مادته وبرهانه؛ ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم: 50].