حق الجار

عناصر الخطبة

  1. منزلة الجار في الإسلام
  2. حقوق الجار الكبرى
  3. الضابط في تحديد الجار
  4. من أحول الناس اليوم مع جيرانهم
اقتباس

وأما ثالث الحقوق الكبرى فهو احتمال الأذى منهم، والصبر على خطئهم، والتغافل عن إساءتهم، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله -عز وجل- يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة”، وذكر في الثلاثة الذين يحبهم: “رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى…

الخطبة الأولى:

أما بعد:

أيها المؤمنون، عباد الله: إن من نعم الله تعالى علينا في هذه الشريعة المباركة أن ألف بين قلوب المؤمنين وجمع شتاتها ولمَّ شعثها.

وقد شرع الله -سبحانه وتعالى- لتحقيق ذلك شرائع وحد حدودًا، ففرض -سبحانه وتعالى- على المؤمنين واجبات وحقوقًا لبعضهم على بعض، تصلح ذات بينهم، وتجمع قلوبهم، وتؤلف بين صدورهم، فكان من تلك الشرائع حق الجوار.

أيها المؤمنون: إن حق الجار على جاره مؤكد بالآيات البينات والأحاديث الواضحة، فهو شريعة محكمة وسنة قائمة، قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ [النساء:36]. ففي الآية الوصية بالجيران كلهم قريبهم وبعيدهم، مسلمهم وكافرهم.

وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- حق الجار تأكيدًا عظيمًا، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وعائشة -رضي الله عنهم- قالا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". وهذا يدل على تأكيد حق الجار؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظن أن نهاية هذا الحرص وتلك الوصايا من جبريل -عليه السلام- أن يكون للجار نصيب من الميراث.

أيها المؤمنون: إن حقوق الجار كثيرة عديدة، وهي في الجملة دائرة على ثلاثة حقوق كبرى: الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، واحتمال الأذى منهم.

أما الحق الأول فإنه الإحسان إلى الجيران، فقد أمر الله -سبحانه وتعالى- بذلك في كتابه فقال سبحانه: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ [النساء:36]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره". وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإكرام الجار وجعل ذلك من لوازم الإيمان، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره".

أيها المؤمنون: إن من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، ففي البخاري ومسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه".

وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحبّ لجاره ما يحبّ لنفسه من الخير فإنه ناقص الإيمان، وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريبًا كان أو بعيدًا.

أيها المؤمنون: إن من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلاً كان أم كثيرًا، كما قال الله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق:7]، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "يا نساء المسلمات: لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة". فرسنُ الشاة هو حافرها. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أنها تهدي ما لا ينتفع به في الغالب".

والمقصود أن يتواصل الخير والود والبر بين الجيران، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".

وأولى الناس بالإحسان من الجيران أقربهم منك بابًا، ففي البخاري من حديث عائشة قالت: يا رسول الله: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "إلى أقربهما منك بابًا".

وأما ثاني الحقوق فهو كف الأذى عنهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره". ولهما عنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟! قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". أي: لا يأمن شره وخطره، وفي رواية لمسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".

وهذا فيه تعظيم حق الجار ووجوب كف الأذى عنه، وأن إضراره من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، وقد عظم الله -جل وعلا- إلحاق الأذى بالجار، وغلظ فيه العقوبة، ففي الصحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الذنب أعظم؟! فقال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك"، قلت: ثم أي؟! قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك"، قلت: ثم أي؟! قال: "أن تزاني حليلة جارك". وفي مسند الإمام أحمد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره".

وأما ثالث الحقوق الكبرى فهو احتمال الأذى منهم، والصبر على خطئهم، والتغافل عن إساءتهم، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة"، وذكر في الثلاثة الذين يحبهم: "رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت".

الخطبة الثانية:

أما بعد:

أيها المؤمنون: إن للجوار في دين الإسلام حقًّا عظيمًا، حتى إن جبريل أعاد في أمر الجار وأبدى تأكيدًا لحقه وبيانًا لحرمته.

فاتقوا الله -عباد الله-، فإن الكرام خيار الناس للجار، وقد قيل:

يلومـونني أن بِعت بالرخص منزلي *** ولم يعلمـوا جارًا هناك ينغص فقلت لهـم: كفّـوا الملام فإنمـا *** بجيـرانها تغلو الديار وترخص

أيها المؤمنون: إنّ الجار الذي تجب له تلك الحقوق هو الذي يُعَدّ في العرف جارًا، وليس لذلك ضابط من عدد أو غيره، فالمرجع في تحديد من هو الجار يعود إلى عرف الناس، فكل من عده الناس جارًا لك فهو جار تجب له تلك الحقوق، وأكثرهم فيها من كان أقربهم منك بابًا.

أيها المؤمنون: إن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد استولت على قلوب كثير من الناس، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيرًا من الحقوق والواجبات الشرعية، فتباعدت القلوب وتنافرت النفوس، فعق الولد أباه، وقطع الأخ أخاه، وهجر الجار جاره، فضاعت الحقوق، وقامت سوق القطيعة والعقوق إلا من رحم الله، فكم هم الذين أساؤوا إلى جيرانهم فمنعوهم الإحسان، وبذلوا لهم القطيعة والأذى.

فاتقوا الله -عباد الله- وأحسنوا إلى جيرانكم، مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ابذلوا لهم الخير ما استطعتم، وردوا عنهم الشر ما ملكتم، تلطفوا إليهم بالهدية والزيارة، فإن لم تجدوا خيرًا تبذلونه فلا أقل من كف الشر عنهم.