رمضان شهر الصبر

عناصر الخطبة

  1. الصيام تدريب على الصبر
  2. مجالات الصبر كثيرة في حياة الإنسان
  3. فضائل الصبر
  4. سر الوقاية العجيبة التي يصنعها الإيمان والصبر
  5. أروع الأمثلة في الصبر على البلاء
  6. الصبر ضرورة حياتية لكل عمل نافع
  7. حاجة من يتصدر للناس إلى الصبر
اقتباس

حين نتأمل في المجالات التي تحتاج إلى صبر في حياة الإنسان يتبين لنا أن الصبر ضرورة حياتية لكل عمل نافع، فكسب الرزق يحتاج إلى صبر، ومعاملة الناس تحتاج إلى صبر، والقيام بالواجبات والمطلوبات الدينية يحتاج إلى صبر، والكفّ عن المحرمات والمكروهات يحتاج إلى صبر، والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها وتحمل تكاليفها يحتاج إلى صبر، وهكذا سائر الأعمال التي يمارسها الإنسان في حياته، فهي تحتاج إلى صبر.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [سورة النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [سورة الأحزاب: 70 – 71].

أما بعد: عباد الله:

فإن رمضان شهر الصبر؛ فالذي يصوم رمضان وهو منضبط انضباطاً تاماً شهراً كاملاً لا بد أن يخرج من هذا الشهر وقد اكتسب صفة الصبر، فالذي صبر عن الحرام، وصبر عن الأكل والشرب وجدَّ على صلاة التراويح والقيام، وصبر على كفّ اللسان والجوارح عن ما نهى الله عنه، أقول: فالذي صبر على هذه الأمور، ولا يخرج من رمضان رجلاً صبوراً فقد فاته خير كثير، وحرم نفسه فرصة عظيمة جداً لاكتساب هذه الصفة، وهي صفة الصبر، والتي هي من أخلاق الأنبياء والرسل.

الصبر له مجالات كثيرة في حياة الإنسان، وهناك مجالات كثيرة تحتاج من المسلم أن يكون صبوراً، فنريد من الذي يخرج من رمضان، الصبر على ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب الدنيوية له، ومسّ المكاره.

نريد من الصائم بعد رمضان الصبر على ضبط النفس عن السأم والملل عن تكليفه بالقيام بأعمال تتطلب الدأب والمثابرة، نريد صبراً وضبطاً للنفس عن الغضب والطيش عندما تثيره بعض الأمور، التي تدفعه للطيش بلا حكمة ولا اتزان في قوله أو عمله.

 نريد من الخارج من رمضان صبراً عن الخوف لدى مثيرات الخوف في النفس، حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تتطلب الشجاعة. نريد صبراً عن الطمع لدى مثيرات الطمع التي تحول بين الإنسان وبين مراد الله -عز وجل-.

الصبر عن الاندفاع وراء أهواء النفس وشهواتها وغرائزها، نريد صبراً في تحمل المشقات والآلام الجسدية والنفسية.

 فالذي يصبر أيها الإخوة يكون له أجر عظيم عند الله -عز وجل-، ويكفيك في فضل الصبر قول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [سورة الزمر: 10].

عباد الله:

لقد وجه الإسلام المؤمنين إلى الرضا بقضاء الله وقدره فيما يصيب المسلم من المصائب التي تجلب عليه الآلام، وتورثه المتاعب والأكدار، وأبان للمؤمنين أن حكمة الابتلاء في ظروف الحياة الدنيا قد تقضي بأن يكون الابتلاء بالمكاره والمؤلمات، لكنه -عز وجل- وعد الصابرين بالأجر العظيم، والثواب الجزيل إذا صبروا رضًا بقضاء الله وطاعة له، وابتغاء مرضاته قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة: 156 – 157].

فبعد أن ذكر الله -عز وجل- أن المصائب التي قد تصيب الإنسان في نفسه أو جسمه أو ماله، أو نقص في رزقه؛ بشَّر -عز وجل- الصابرين بأمرين محبوبين عظيمين، الأمر الأول: أن عليهم صلوات من ربهم، والأمر الثاني: أن عليهم من ربهم رحمة.

 وقال -سبحانه وتعالى- في آية أخرى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(35)﴾ [سورة الحج: 34- 35].

أيها المسلمون:

إذا علم المؤمن أن الله يمتحنه بالمصائب ليختبر مقدار صبره، ورضاه عند ربه، وليكتب له الأجر العظيم عنده، فإنه يجد نفسه مدفوعاً لتحمل المصائب بصبر ورضا عن الله، فكيف إذا علم العبد بأن الله يثيبه إضافة على ذلك، فيكفّر عنه ذنوبه وخطاياه بالمصائب التي تصيبه إذا هو صبر عليها؟!

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".

 وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال: "أجل، إني أُوعك كما يوعك رجلان منكم" قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: "أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصبه أذى، شوكة فما فوقها إلا كفَّر الله بها سيئاته، وحطت عنه ذنوبه، كما تحط الشجرة ورقها".

أيها المسلمون:

حين يعلم المؤمن أن صبره على المصائب والآلام مكفّر لسيئاته، ورافع لدرجاته، ويُسجل له مع كل شعور بألمٍ أجرٌ عند الله تعالى، يرى أنه في خير عظيم، ويرى نفسه في سوق تجارة رابحة أضعافاً مضاعفة، لذلك فالمؤمن لا يتمنى الموت ليتخلص من مصائبه وآلامه، لأن المؤمن يعلم أن طول أجله فرصة له ليزيد من حسناته إن كان من المحسنين، وليتوب ويصلح من حاله إن كان من المسيئين.

روى البخاري في صحيحه عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب" ومعنى يستعتب: أي: يرجع عن الإساءة، ويطلب الرضا بالتوبة والندم والاستغفار.

وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يَدْعُ به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً".

ولذلك يا عباد الله فقد فقُه الصحابة -رضي الله عنهم- هذا المفهوم، لذلك لم يَدْعُ خباب بن الأرت -رضي الله عنه- على نفسه بالموت، مع أنه وصل إلى حالة رأى فيها أن الموت أحب له من الحياة، روى البخاري في صحيحه عن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب بن الأرت -رضي الله عنه- نعوده وقد اكتوى سبع كيات، فقال: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب"، ثم قال: "ولولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به".

 وهذه هي التربية الإسلامية من شأنها أن ترفع معنويات المسلمين في الحياة، وتشد عزائمهم، وتنفي السأم والضجر عن نفوسهم وقلوبهم، وتضع بينهم وبين الطريق التي تنحدر بكثير من الناس إلى الانتحار سدّاً منيعاً.

 أما من ترك الإيمان بالله واليوم الآخر، وكفر بالمفاهيم الإسلامية العظيمة، تولد في نفسه السأم والضجر من الحياة، عند أول ضرّ يمسه، ومع تتابع الأحداث والمصائب مرة بعد مرة، تتكثف في نفسه ضغوط قاتلة، لا تجد لها منفذاً تتنفس منه؛ لأن المتنفس الوحيد لا يأتي إلا عن طريق الإيمان بالله واليوم الآخر، والرضا بقضاء الله وقدره، ومراقبة الأجر العظيم الذي أعده الله للصابرين.

وبعد أن تتوالى المصائب على الإنسان دون أن تجد متنفساً سليماً تحدث حالة الانفجار النفسي، وهذا الانفجار ينتهي به إلى الانتحار، أو إلى الجنون، أو إلى الجريمة البشعة أو إلى إدمان المسكرات والمخدرات، وفي كل ذلك شر مستطير وبلاء كبير.

 أما المؤمنون فهم من هذا البلاء في عافية، والحمد الله، وبلاد المسلمين هي أسلم البلاد وأنقاها من جرثومة هذا الوباء، وذلك سر الوقاية العجيبة التي يصنعها الإيمان والصبر.

عباد الله:

أسوق نموذجاً من أروع الأمثلة التي تُضرب في الصبر على البلاء، يحكي الله -عز وجل- لنا قصة بطولة فريدة من بطولات الصبر، مقدمها ولد ووالده، في امتحان رباني عجيب لهما، هما النبيان الرسولان الصابران إسماعيل وأبوه إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- يكلف الله إبراهيم في رؤيا منامية أن يذبح ولده إسماعيل، فيتجه بصبر عجيب لطاعة أمر ربه، فيقول لابنه إسماعيل: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [سورة الصافات: 102] أي: أمرني ربي بذبحك في رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق تثبت بها الأحكام التكليفية.

 فيقول الابن البار بأبيه المطيع لربه: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة الصافات: 102]، وأسلما أمرهما إلى الله صابرين، وشرعا في تنفيذ التكليف، ذابح ومذبوح، فلما علم الله طاعتهما، وصدق إسلامهما وتسليمهما، أنزل لهما كبش الفداء، وتوقف أمر ذبح الوالد لولده، وتم الذبح للكبش.

وفي عرض القرآن لهذه القصة إشارة بفضيلة خُلق الصبر، على تنفيذ أمر الرب، مهما كان قاسياً ومكروهاً للنفس، وتوجيه لإعداد الأنفس للصبر على المكاره، والمصائب المرتقبة والإقدام عليها بشجاعة وبطولة، يقول الله تعالى في سورة الصافات، في معرض ذكر قصة إبراهيم مع قومه: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [سورة الصافات: 98- 110].

فهذه يا عباد الله من أروع القصص التي تُضرب للصبر، وقد أثبت إسماعيل -عليه السلام- بالتطبيق العملي ما أعلنه بقوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة الصافات: 102]، فكان ذا حظ عظيم من الصبر، حينما سعى هو أبوه لتنفيذ أمر الله -عز وجل-.

 أقول: فهل يستفيد الصائمون من هذه القصة وغيرها، ويواصلون طريق الطاعة لله، وامتثال أمره، والمحافظة على الصلوات في المساجد، ومواصلة قراءة القرآن بعد رمضان، ويصبرون على هذه الطاعة ليس في رمضان فقط، ولكن طول حياتهم حتى يلقوا ربهم.

أسأل الله -عز وجل- أن يعيننا على ذلك… أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم….  

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لألوهيته وربوبيته وسلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عباد الله: حين نتأمل في المجالات التي تحتاج إلى صبر في حياة الإنسان يتبين لنا أن الصبر ضرورة حياتية لكل عمل نافع، فكسب الرزق يحتاج إلى صبر، ومعاملة الناس تحتاج إلى صبر، والقيام بالواجبات والمطلوبات الدينية يحتاج إلى صبر، والكفّ عن المحرمات والمكروهات يحتاج إلى صبر، والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها وتحمل تكاليفها يحتاج إلى صبر، وهكذا سائر الأعمال التي يمارسها الإنسان في حياته، فهي تحتاج إلى صبر.

 فمن الأدلة التي تدل على أن القيام بالواجبات الدينية يحتاج إلى صبر قول الله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا(65)﴾ [سورة مريم: 64- 65].

ومما يدل على أن مخالطة الناس والتعامل معهم من الأمور التي تحتاج إلى صبر، قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [سورة الفرقان: 20].

ومن الأدلة على أن الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر عظيم؛ لما فيه من تعرض للتضحية بالنفس قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة آل عمران: 200]، وقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46)﴾ [سورة الأنفال: 45-46].

 ومما يدل على أن الدراسة والبحث العلمي في الظواهر الكونية، وكذلك الاجتهاد لاستخراج أحكام الشريعة من مصادرها أمور تحتاج إلى دأب طويل، وصبر جميل، قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(31)﴾ [سورة لقمان: 29-31].

كذلك يا عباد الله من الأمور التي تحتاج إلى حظ عظيم من خلق الصبر كظم الغيظ وإخماد جذوة الغضب، والدفع بالتي هي أحسن، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)﴾ [سورة فصلت: 34-36].

 فمن الملاحظ أيها الإخوة في المعاملات الاجتماعية بين الناس أن بعضهم قد يسيئون إلى إخوانهم إساءات مختلفة في ألسنتهم بأيديهم وجوارحهم وفي تصرفاتهم المالية أو غير المالية، والإساءة قد تمس النفس، أو تمس العِرْض والشرف أو تمس المال والمتاع، أو تمس الأهل والعشيرة، أو تمس أيّ حق من الحقوق، فالله تعالى يأمر المؤمن في هذه الآية الكريمة أن يدفع السيئة التي تأتيه من أخيه بالخصلة التي هي أحسن.

وكم للدفع بالتي هي أحسن من ثمرات اجتماعية عظيمة! منها تحويل العبد المجابه بما يسوء ويؤذي إلى نصير مدافع وصديق حميم ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [سورة فصلت: 34]..

 فما أحوج المربين والموجهين إلى هذا الخُلق العظيم، بل ما أحوج كل إنسان إليه؛ إنه أحد المظاهر الاجتماعية لخلق الصبر.

أيها المسلمون:

إن خُلق الصبر من أحق الصفات التي يجب أن يتحلى بها من يتصدر للناس أيًّا كانت هذه الصدارة؛ لأن الذي لا يصبر لا بد أن يفشل ويسقط عن مرتبته، يقول الله تعالى في سياق الكلام عن قصة يوسف -عليه السلام- ﴿قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة يوسف: 90].

 وقال عن موسى -عليه السلام- ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(24)﴾ [سورة السجدة: 23-24]، وقال تعالى في سورة الأعراف إثباتاً لهذه السُّنّة الاجتماعية البشرية: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ [سورة الأعراف: 137].

اللهم…