إياك والظلم في الأشهر الحرم

عناصر الخطبة

  1. التحذير من الظلم خصوصا في الأشهر الحرم
  2. الحث على التوبة
  3. آثار الظلم على الفرد والمجتمع
  4. إمهال الله للظالمين وبعض الحكم في ذلك
اقتباس

انظروا إلى آثار ظلمنا لأنفسنا: القحط مع الغلاء, والقحط مع الابتلاء, والغلاء مع عدم الوجود, فقر مع الابتلاء مع الأسقام والأمراض والأوجاع, مع قهر الأعداء, لماذا؟..

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيا عباد الله: ذكرت لكم في الأسبوع الماضي قول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].

وقلت -أيها الإخوة-: هذه الآية الكريمة دعوة من الله -عز وجل- لنا ألا نظلم أنفسنا؛ لأن عاقبة الظلم وخيمة في الدنيا قبل الآخرة, أما رأيت ظالماً كيف انتقم الله -عز وجل- منه؟ أما رأيت ظالماً كيف صبَّ الله -عز وجل- عليه البلاء صباً -والعياذ بالله-, فلم يجد ذلك العبد ولياً له من دون الله ولا نصيراً؟ أما رأيت ظالماً عاش حياته وخاصة في المرحلة الثالثة من عمره عندما بلغ الضعف والشيبة فلم يجد معيناً له ولا ناصراً ولا مفرِّجاً لكروبه؟

عاقبة الظلم وخيمة -أيها الإخوة- في الدنيا قبل الآخرة, في الآخرة يقول مولانا -عز وجل-: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء(43)﴾ [إبراهيم: 42 – 43].

ولكن رحمة الله واسعة -أيها الإخوة-, يا أيها العبد الذي خاطبك مولانا -عز وجل- بقوله: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ إذا قلت لمولانا: يا رب إني قد ظلمت نفسي, وتعدَّيت الحدود وأريد أن أتوب فهل تقبل توبتي؟ كلنا يعلم -أيها الإخوة- بأن الله -عز وجل- فتح باب التوبة للجميع, ويقبل التوبة عن عباده ما لم يغرغر العبد وما لم تطلع الشمس من مغربها.

لذلك نقف أمام قول الله -عز وجل- وهو يخاطب الناس وخاصة الفئة المؤمنة بقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)؛ لا تنتظر توبة أهل الكتاب والمشركين والفسقة المارقين من دين الله -عز وجل-؛ لأن هؤلاء لا يعتقدون بيوم القيامة ولا يفكِّرون به, يعرفون حياتهم لها بداية ونهاية ولا بعث بعد النهاية, يقولون: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24] وانتهت المسألة عندهم.

أما أنا وأنت فيقول مولانا -عز وجل- لنا: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون), أو لست أنت المؤمن بأن الجنة حق وأن النار حق؟ أو لست أنت مؤمن بقول الله -عز وجل-: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7]؟ وبقول الله -عز وجل-: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ [الزمر: 71]، وبقوله سبحانه: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ [الزمر: 73], وبقوله عز وجل: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ(100)﴾ [المؤمنون: 99 – 100]؟

أيها المؤمن: يخاطبك مولاك بقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) أيها الشاب المؤمن والفتاة المؤمنة, أيها الحاكم المؤمن والمحكوم المؤمن, أيها الرجل المؤمن والمرأة المؤمنة: يخاطبنا مولانا جميعاً بقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ), من أجل ماذا يا رب؟ ولمصلحة من؟ إذا تبنا أتنتفع من توبتنا؟ وإذا تبنا أيزيد في ملكك؟ وإذا تبنا أيزاد في عزتك؟ لا أبداً -أيها الإخوة-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)، من أجل مصلحتكم, يقول ربنا في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" [رواه مسلم].

إنما من أجل مصلحتكم؛ لأن العبد -ونعوذ بالله أن نكون من الغافلين- إذا كان في غفلة عن الله يفعل بنفسه كما يفعل العدو بعدوه, كيف تفعل هذا بنفسك وأنت المؤمن بعالم البرزخ وما بعده؟ وأنت المؤمن بقول الله -عز وجل-: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46].

الله يخاطبنا بقوله: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾، ولكن الظلم قائم على قدم وساق, وإن قلت: قد يكون هذا سوء ظن منك بالمسلمين, أقول: إن واقعنا يدلُّ على ظلمنا لأنفسنا, انظروا -أيها الإخوة- إلى البلاء الذي يُصب صباً, والأمر يُضيَّق ويُضيَّق على المسلمين, وهذه سنة الله في خلقه في حق أهل الإيمان, أن يضيق عليهم ليرجعوا إلى الله -عز وجل-. قال لي بعضهم: لماذا لا نصلي صلاة الاستسقاء؟ قلت: يا أخي, صلاة الاستسقاء لا تكون فرادى في المساجد, وإنما ينبغي أن تكون صلاة الاستسقاء بأمر ولي الأمر, قال: وما علاقة ولي الأمر بالأمر بصلاة الاستسقاء؟ قلت له: حتى يتعلم الناس جميعاً أن ولي الأمر فقير إلى الله -عز وجل-, وبحاجة إلى الله -عز وجل-, ليرعى هذه الأمة, فينبغي أن يعلن ولي الأمر عن عجزه وفقره وحاجته وحاجة الأمة إلى الله -عز وجل-, ليخرج ولي الأمر مع الأمة يتضرعون إلى الله -عز وجل-.

صلاة الاستسقاء لا تكون من رُوَّاد المساجد؛ لأن رُوَّاد المساجد هم صمَّام الأمان للأمة جميعاً, إن صلاة الاستسقاء تكون من ولي الأمر إلى أصغر واحد, مع الأطفال والبهائم, أن يخرجوا جميعاً, فيلتقي العاصي مع الطائع, ويلتقي البعيد مع القريب من الله -عز وجل-, ليعلن الجميع توبتهم إلى الله -عز وجل-.

انظروا -أيها الإخوة- إلى آثار ظلمنا لأنفسنا, القحط مع الغلاء, والقحط مع الابتلاء, والغلاء مع عدم الوجود, فقر مع الابتلاء مع الأسقام والأمراض والأوجاع, مع قهر الأعداء, لماذا -أيها الإخوة-؟ يخاطبنا مولانا: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) والصورة عكسية, في كل يوم نزداد معاصي ومخالفات, وفي كل يوم يزداد عدد الفاجرات والمتبرجات, وفي كل يوم يزداد عدد المرابين, ويزداد عدد المنافقين, ويزداد عدد المرتشين, ويزداد عدد الراشين, ويزداد عدد الكاذبين, ويزداد عدد المدخنين, ويزداد عدد شاربي المخدرات, ويزداد عدد شاربي الخمر, وفي كل يزداد العصاة عصاة -والعياذ بالله-, والله يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) لماذا نتوب -أيها الإخوة-؟ في كل يوم يزداد عدد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل, وفي كل يوم يزداد عدد الذين يسرقون من الأموال العامة, من الكهرباء والمياه والهاتف, وفي كل يوم يزداد عدد الإساءة للأموال العامة ولا ترعى كما ينبغي أن ترعى تلك الأموال العامة؟ ما السر في هذا -أيها الإخوة- مع أننا نجني ثمار هذا الظلم وهذا التعدي وهذه المعاصي؟

السر في هذا -أيها الإخوة- هو إمهال الله, ونحن كلنا يعلم ويحفظ بأن الله يُمهل ولا يُهمل, كلنا يعلم بأننا جميعاً حاكمين ومحكومين في قبضة الله, وكلنا يعلم أننا جميعاً تحت قدرة الله -عز وجل-, وطالما أن الجميع في قبضة الله وفي قدرة الله -جل في علاه-, فمن مظاهر رحمته: أنه لا يعجِّل العقوبة, بل يُمهل, عسى أن تتوب -يا عبد الله-: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾ [النساء: 147] يريد الله منك تائباً عبداً مصطلحاً مع الله؛ لأن الله قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].

ومن تكريم الله لك: أن خلق جنة عرضها السماوات والأرض ودعاك إليها, ولكن عندما يصرُّ العبد على المعصية فمن مظاهر رحمة الله: أنه يُمهل هذا العبد عسى أن يتوب ويرجع إلى الله -عز وجل-, ولكن الإمهال مع طول الأمل -ولعلك أن تحفظ هاتين الكلمتين- إمهال من الله وطول أمل منك حجباك عن توبتك لله -عز وجل-, وإلا لو كان الله -عز وجل- يعاجلنا بالذنب بإنزال العقوبة مباشرة لما رأيت عاصياً, وعند ذلك لا يتحقق الاختبار؛ لأن الاختبار والابتلاء من الله أن يمهلك الله -عز وجل- من أجل أن تتوب من تقصيرك في فعل الأوامر ومن جرأتك على معصية الله عسى أن تتوب إلى الله, فإذا ما أصرَّ العبد أمهله الله, ويعطيك مولانا بين الحين والآخر صورة من صور الانتقام, ترى عبداً ظلم فأخذه الله مباشرة.

حدثني بعضهم بأن قضية رُفعت إلى القاضي, والقاضي يعلم علماً يقينياً أن صاحب الدعوى مظلوم, ولكن الظالم جاء بشاهد زور, وما أكثر شاهدي الزور في زماننا -أيها الإخوة-, دخل الرجل, والقاضي محكوم بحسب الظاهر, لا يحكم من خلال ما يعلم بالحقائق, إنما يحكم من خلال الظاهر, فجاء شاهد الزور ووضع يده على كتاب الله, وأقسم يميناً بالله ألا يقول إلا الحق, فما قال كلمة حق أبداً, وإنما قال الكذب, فما خرج من باب مكتب القاضي حتى وقع مغشياً عليه, وما هي إلا لحظات حتى مات هذا العبد واسودَّ وجهه.

يعطيك الله -عز وجل- بين الحين والآخر صوراً من أجل أن تتوب, انظر إلى شارون هذا العبد المجرم, والعاقل من اتعظ بغيره, والأحمق الذي لا يتعظ إلا بنفسه, لماذا لا نتوب -أيها الإخوة- وواقعنا يدعونا؟ واقعنا الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأسروي وواقع الأمة جملة وتفصيلاً يدعو الأمة أن تتوب إلى الله, أين التائبون لله -عز وجل-؟ لماذا لا نتوب؟ طول الأمل مع إمهال الله -عز وجل- لنا, مع أننا لو عرفنا ثمرات التوبة لأسرعنا إلى التوبة بكل نفس من أنفاسنا, فما هي ثمرات هذه التوبة؟ وما هي آثار هذه التوبة في حياة الأمة على مستوى الأفراد والجماعة؟ نتحدث عنه إن أحيانا الله -عز وجل- في الأسبوع القادم, ولكن من الآن نعلن توبتنا إلى الله, ونقول كما علمنا سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت, أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي, فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" [رواه البخاري].

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

أقول هذا القول، وكل منا يستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.