عالم الجن (3) استخدام الجن في الأمور المباحة

عناصر الخطبة

  1. وقفة مع قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
  2. استعانة الإنس بالجن
  3. ذهاب بعض الناس للسحرة والتحذير من ذلك
  4. حفظ لله للمؤمنين من الشياطين
  5. التوبة من الذهاب إلى السحرة ومفاسد الاستعانة بالجن
  6. علاج المسحور والمصروع بالرقية الشرعية وشروط ذلك
اقتباس

إن انقاذ المسلم المصروع من الجن من أعظم القربات وأجل الطاعات، وذلك لأن الشيطان ظالم له قد اعتدى عليه، وهو واجب على من يستطيع ذلك، كإنقاذ من اعتدى عليه من بني جنسه بدون حقٍّ سواء بسواء؛ لقول…

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله ربّ النّاس، ملك النّاس إله النّاس، وأعوذ به من شر الجنّة والنّاس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبينا محمّداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واستنّ بسنّته من الجن والناس.

أمّا بعد:

فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله، فاتقوه وأطيعوه، واعلموا أنكم ملاقوه.

أيها المؤمنون: يقول ربنا -عز وجل-: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ﴾ [البقرة: 102].

قيل: هاروت وماروت رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت.

وقيل: ملكان، ويكون هذا من باب البلاء والفتنة، وهما لا يعلّمان من أحد حتى يخبراه أن السحر من الكفر، ويقولان له: لا تَكفُر، وعلى هذا فلا يجترئ على السحر إلا كافر.

وقوله عز وجل: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ [البقرة: 102] أي: يتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرّفون به فيما يتصرّفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والإتلاف".

روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجئ أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، قال: ثم يجئ أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت" [رواه مسلم: 2813].

ولا بد أن يعلم المسلم أنّ الشيطان لا يمكن أن يخدم الإنسان إلا بعد أن يتنازل عن أشياء كثيرة، يتنازل عن دينه، وعن شرفه وعرضه، يتنازل عن مبادئه وأخلاقه، يتنازل عن ماله وجاهه، يتنازل عن أهله وولده، وقد يتقرب من يريد خدمة الجنّ له بأشياء كُفريّة أو منافية للعقل والدين كوضع القرآن في الحَمّام، ووضع الأطعمة في المراحيض، وربما طلبوا منه أن يسجد لهم أو يفعلوا به الفاحشة.

أيّها المؤمنون: إنّه لما قلَّ الخوف من الله عند بعض النّاس لجؤوا إلى السحرة والمشعوذين والكهنة والعرَّافين؛ لتحقيق بعض مآربهم، أولئك الذين باعوا دينهم بدنياهم، فلابد أن يعلم كلّ مسلم أنّه بمجرد أن يذهب إلى هؤلاء لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً، فمن صدّقهم فقد كفر بما أنزل على محمد، استعانوا بأعدائهم على إخوانهم، استعانوا بالشياطين على أبرياء المؤمنين، وعلى كلّ مسلم أن يكون على ثقة عظيمة كبيرة بربّه -عز وجل-، فهو الحافظ وهو الشافي والمعافي: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80]، فمن كان مع الله كان الله معه وحفظه من شياطين الجن والإنس، فالمؤمن الصالح تهرب منه الشياطين وتخاف منه وأعوانه الملائكة، وإخوانه مؤمنو الإنس والجن.

روى أبو يوسف في الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن مجاهد أنّه قال: "إن الشيطان يتقيكم كما تتقونه، فإذا رأيتموه فلا تهابوه فيركبكم، ولكن شدوا عليه فإنه يهرب" [انظر: الآثار (2/ 95)].

ولابّد أن يعلم المسلم أنّه كلما كان العبد أقرب إلى المعصية والفجور كانت الجِنّ والشياطين منه أقرب، قال الله -عز وجل-: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)﴾ [الشعراء: 221 – 222].

أيها المؤمنون: إن المؤمن الصالح ولو تمكّنتْ منه الشياطين يوماً من الدهر فسيجعل الله له مخرجاً؛ أخرج البيهقي -رحمه الله- بسند صحيح من طريق قتادة: "أنّ رجلاً من الأنصار خرج يصلّي مع قومه العشاء فسَبَتْهُ الجِنّ فَفُقِد، فانطلقتْ امرأتُه إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- فقصّتْ عليه القصة فسأل عنه عمر قومَه، فقالوا: نعم خرج يصلّي العشاء ففُقد فأمرها أن تتربّص أربع سنين فلما مضت الأربع سنين أتتْه فأخبرته، فسأل قومها فقالوا: نعم فأمرها أن تتزوّج فتزوجتْ فجاء زوجها بعد زمن يخاصم في ذلك إلى عمر -رضي الله عنهم- فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته؟! فقال الرجل: إنّ لي عذراً يا أمير المؤمنين، فقال: وما عذرك؟ قال خرجت أصلّي العشاء فسَبَتْني الجِنّ فلبثْتُ فيهم زماناً طويلاً فغزاهم جِنٌّ مؤمنون، أو قال: مسلمون فقاتلوهم، فظهروا عليهم فسبوا منهم سبايا فسبوني فيما سبوا منهم، فقالوا: نراك رجلاً مسلماً ولا يحل لنا سبيك فخيّروني بين المقام وبين القفول إلى أهلي فاخترت القفول إلى أهلي فأقبلوا معي، أما بالليل فليس يحدثونني، وأمّا بالنّهار فعصار ريح أتبعها، فقال عمر -رضي الله عنهم-: فما كان طعامك فيهم؟ قال الغول وما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما كان شرابك فيهم؟ قال: الجرف وهو ما لم يخمر من الشراب، ثم خيّره عمر -رضي الله عنهم- بين الصداق وبين امرأته" [رواه البيهقي في سننه: 15437].

أيها المؤمنون: إنّ بعض المسلمين إذا ابتُلي بالمسّ أو السّحر لجأ إلى فعل الحرام بالذهاب إلى السحرة والمشعوذين وهذا حرام لا يجوز؛ لأنّ الله لم يجعل شفاء أمّة محمّد -صلى الله عليه وسلم- فيما حرم عليها، ومن فعل ذلك خسر دنياه وأخراه، ووجب عليه التوبة والرجوع والندم وسكب الدموع، فإنَّ فكّ السحر بالسحر لا يجوز، بل لا يجوز الاستعانة بالجِنّ على معرفة مكانه ولو كان من المسلمين، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "الاستعانة بالجن المسلم في العلاج لا تجوز، ورد ذلك لأسباب منها:

أولاً: لو كانت الاستعانة بالجنّ المسلم جائزة ما ادّخرها الله عن رسوله محمّد -صلى الله عليه وسلم- يوم سحرتْه يهود، ولا عن أصحابه ومنهم من أصابه الصَرَع، ومنهم من أصابتْه العين، ومنهم من تناوشتْه الأمراض من كل جانب.

ثانياً: الاستعانة بالجنّي المسلم تجعل قلب الراقي يتعلّق بهذا الجنّي وهذا يفتح عليه باب الاستعانة بغير المسلم.

ثالثاً: أن الجنّ أصل خلقته من النّار، والنّار خاصيّتها الإحراق فيغلب على طبعه الظلم والاعتداء وسرعة التقلب والتحول من حال إلى آخر، فقد ينقلب من صديق إلى ألدّ الأعداء، ويعذّب صاحبه وهو قد عرف نقاط ضعفه، وقد سُئل الشيخ عبدالله بن جبرين -رحمه الله-: هل للمعالج أن يستخدم جنّياً مسلماً في معرفة إذا كان الشخص به مسٌّ أو غير ذلك؟

فأجاب بقوله: "لا أرى ذلك فإن المعتاد أن الجنّ تخدم الإنس إذا أطاعوها ولابّد أن تكون الطاعة مشتملة على فعل محرّم أو اقتراف ذنب.

فما أجمل اللجوء إلى الله -أيّها المؤمنون- والدعاء والتضرع، والإكثار من قراءة القرآن، ولا بأس ولا حرج من الذهاب إلى راقٍ يرقي بشرط أن تكون رُقيته رُقية شرعيّة مع حسن الظنّ بالله، وتعلق القلب به، وما أولئك الذين يرقون ويقرؤون إلا عبيد لله فقراءُ له، وقد جعلهم الله سبباً للشفاء، فإيّاك نعبد وإياك نستعين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أمّا بعد:

فإن انقاذ المسلم المصروع من الجن من أعظم القربات وأجل الطاعات، وذلك لأن الشيطان ظالم له قد اعتدى عليه، وهو واجب على من يستطيع ذلك، كإنقاذ من اعتدى عليه من بني جنسه بدون حقٍّ سواء بسواء؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه" [رواه البخاري: 6551، ومسلم: 2580].

وهو من أعمال الأنبياء الصالحين، وينبغي لمن لا يحسن إخراج الجنّ ألا يتعرض لذلك لكي لا يؤذَي وإن أراد ذلك، فعليه أن يحترز بالأذكار كآية الكرسي والمعوذتين وقل هو الله أحد، والصلاة والدعاء، وترك الذنوب والمعاصي، ويحرم استخدام الرقيّة غير الشرعيّة، وإنْ انصرف الجنّي بها.

والرقية الشرعية لابد من توفر ثلاثة شروط فيها هي:

1 – أن تكون بكلام الله -تعالى- وبأسمائه وصفاته، أو ما جاء في السنّة من الأدعية.

2- أن تكون باللسان العربيّ أو بغيره إذا عرف معناه.

3 – وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها.

وهذه الشروط قد انعقد عليها إجماع أهل العلم والمعرفة.

ومن أراد الشفاء -بإذن الله- من المسّ والسّحر، فليعلم أنه يواجه عدواً ولابّد له من أمرين:

أولهما: أن يكون معه السّلاح.

ثانيهما: القوة في استخدام هذا السّلاح.

فينبغي على المسلم المصاب بالسّحر أو المسّ أن يكون قوي اليقين يحسن التوكل والتوجه إلى الله مستخدماً التعوذ الصحيح.

أيّها المؤمنون: إن للقرآن تأثيراً عجيباً في دفع شياطين الإنس والجنّ، ومن أعظم ذلك أن تقرأ عليهم آية الكرسي، فهي أعظم آية في كتاب الله تدفع الشياطين وتزعجهم وتبطل أحوالهم، فإن صدق قارئُها تحقق أثرها، قال الذهبّي في السير: "عن عباس الدوري أنه سمع يحيى بن معين يقول: كنت إذا دخلت منزلي بالليل قرأت آية الكرسي على داري وعيالي خمس مرات، فبينا أنا أقرأ إذا شيء يكلمني كم تقرأ هذا؟ كأنّه ليس إنسان يحسن يقرأ غيرك؟ فقلت: أرى هذا يسوؤك؟! والله لأزيدنّك، فصرت أقرأها في الليلة خمسين أو ستين مرة" [انظر: سير أعلام النبلاء (11 / 87)].

قلت: يوجد في هذا الزمن من المسلمين من لا يقرأها في الشهر مرّةً واحدةً وأمّا الأولاد فعليهم السلام، فمن منّا يعوّذ أولاده؟ كأن يقول: أعيذكم بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة، أو أعوذ بكلمات الله التامّات من شرّ ما خلق، كما كان يفعل رسولكم -صلى الله عليه وسلم- بالحسن والحسين.