نظرات في سورة يس

عناصر الخطبة

  1. مقدمة السورة
  2. المقطع الأول دليل تاريخي يعرض موقف الأنبياء
  3. المقطع الثاني دليل عقلي
  4. المقطع الثالث دليل تربوي
  5. القرآن كنز مشحون بالهدايات
اقتباس

إن ما في القرآن من حكمة وما فيه من استقامة دليل على أن صاحبه ليس كاذبًا، إنه مرسل من لدن العلي القدير ليأخذ بنواصي الناس إلى الحق… وليصف أساس القصة يعطي شيئًا من الحقائق التي نحتاج إليها، فإن الرسالة التي انفردت بالعموم زمانًا ومكانًا هي رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أما الرسالات التي سبقته فهي رسالات محلية موضعية، يرسل النبي من الأنبياء إلى قرية، بل يرسل عدد من الأنبياء إلى قرية واحدة في هذه السورة؛ إذ نجد اثنين…

الخطبة الأولى: 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فسنتدبر الآن سورة من سور القرآن الكريم، نشرحها على طريقتنا في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، هذه الطريقة التي نرسم بها صورة مجملة للسورة تبين ملامحها وتستكشف الخيوط التي تشد أولها إلى آخرها وآخرها إلى أولها، وتبيِّن لنا المحور الذي تدور عليه السورة كلها.

والذي نبدأ تدبره هذه الساعة -مستعينين الله جل جلاله- سورة يس، وهى سورة تستغرق نحو خمس صفحات في المصحف، وهى تتكون -بعد دراسة عميقة لها- من مقدمة تتناول الرسالة وصاحبها، وثلاثة فصول تستوعب الأدلة على صدق هذه الرسالة.

أما المقدمة فقد بدأت بقسم: (يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ). وهناك علاقة بين المقسم به والمقسم عليه، فالقسم هنا قسم بقوة الدليل على صدق القضية، قسم بوضوح الحجة على وجاهة صاحبها الذي جاء بها، قسم بما في القرآن على أن الذي تنزل عليه القرآن مرسل حقًّا من عند الله -جل شأنه-.

هذه العلاقة مطردة في كثير من أقسام القرآن، يراها من يراها، وتغيب عمن تغيب عنهم.

عندما فسَّر الشيخ محمد عبده -رحمه الله- سورة الضحى -وكانت السورة قد نزلت بعد فتور الوحي وانقطاعه أمدًا طال أو قصر- قال: اختار الله القسم بهذين الوقتين: ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)﴾، إشارة إلى أن وقت الضحى وقت تألق للنور فهو يشبه ساعات الوحي، وأن وقت الظلمة بالليل وقت وحشة وسكون فهو يشبه انقطاع الوحي.

وترى ذلك أيضًا في قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)﴾، فإذا كانت السورة تتحدث عن معراج النبي إلى ربه فإن هبوطه بعد استغراقه في التجلي الإلهي يشبه عودة الكوكب المنطلق إلى مكانه في الأرض مرة أخرى.

قال تعالى: (يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ). إن ما في القرآن من حكمة وما فيه من استقامة دليل على أن صاحبه ليس كاذبًا، إنه مرسل من لدن العلي القدير ليأخذ بنواصي الناس إلى الحق، وليصف أقدامهم على الطريق القويم، وليجعل منهم ناسًا أهدى طريقًا، وأقوم قيلاً، وأشرف غاية، وأهدى سبيلاً، وتنزل القرآن من الله -جل شأنه- الموصوف بالعزة والرحمة لتنضح هذه المعاني على الأمة التي تحمل الرسالة على الرسالة نفسها، كأن الرسالة من لدن العزيز الرحيم تقدم للبشر ما يحتاجون إليه من كرامة وعزة، وتقدم أيضًا لهم ما يفتقرون إليه من رحمة وسكينة.

وذاك ما يسَّره الله للعرب، وكانت العرب يومئذ أمة ما ورثت عن آبائها إلا الجاهلية الطامسة، وما أخذت عن آبائها إلا الحيرة والوثنية: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(7)﴾. والناس أمام دعوات الإصلاح ورسالات الحق فريقان: بعضهم مرن يحسن أن يتدبر ما يعرض عليه، وأن يستبين وجه الصواب فيه، وأن ينخلع من تقاليده التي كبلته ليذهب مع الدين الجديد حيث يذهب به.

وهناك ناس آخرون يعيشون في عالم من السدود والقيود كأنهم رُمِىَ بهم في سجن ضيق، فأبصارهم مهما تحركت لا تعدو السدود التي حولهم من يمين ويسار ومن فوق ومن تحت: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)﴾.

ولقد تضمنت السورة بعد هذه المقدمة ثلاثة فصول تعرض الدلائل التي تشرح الصدور، والبراهين التي تقيم العِوَج وترتفع بالنفس الإنسانية إلى مستوى اليقين العاقل والإيمان الواعي:

أما الفصل الأول فدليل تاريخي يعرض موقف الأنبياء وموقف الناس من دعواتهم.

وأما الفصل الثاني فدليل عقلي يحرك الفكر الخامد وينظم له المقدمات التي يعرف بها ربه.

وأما الفصل الثالث فدليل تربوي يعتمد على الآخرة، وأنها حق، وأن ما يعقبها من ثواب أو عقاب ينبغي أن يلتفت الناس إليه حتى لا تستبد بهم خرافة طائشة أو مقالة ضالة.

الدليل الأول: دليل يتصل بالماضي قريبه وبعيده.

الدليل الثاني: دليل يتصل بالحاضر المعاصر الذي نعيش فيه.

الدليل الثالث: دليل يتصل بمستقبل الإنسانية وما أعده الله للأخيار والأشرار جميعًا.

وبذلك تكون السورة -في فصولها الثلاثة بعد المقدمة- قد تعرضت للزمن كله: ما مضى وما ينتظر وما نعيش فيه.

بدأ الدليل الأول بقوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ(15)﴾.

أساس القصة يعطي شيئًا من الحقائق التي نحتاج إليها، فإن الرسالة التي انفردت بالعموم زمانًا ومكانًا هي رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أما الرسالات التي سبقته فهي رسالات محلية موضعية، يرسل النبي من الأنبياء إلى قرية، بل يرسل عدد من الأنبياء إلى قرية واحدة في هذه السورة؛ إذ نجد اثنين من الدعاة إلى الله بُعث بهما معًا إلى قرية واحدة، فلما كُذِّبَا قال الله: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾، فكان جواب أهل القرية: لستم مرسلين، أنتم ناس لا تزيدون علينا ولا تنقصون، لا صلة لكم بالسماء، ما تقولونه دعوى مرفوضة: ﴿…مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾، كان رد المرسلين على هذا التحدي أو هذا التصدي: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(17)﴾.

وظيفة الرسل: التعليم، تعليم الجاهل، وظيفة الرسل: التبليغ، تبليغ الذاهل، وظيفة الرسل: تغيير النفس الإنسانية تغييرًا يجعلها تعرف الحق وكانت تجهله، تعرف الله معرفة صحيحة وكانت إما عاجزة عن هذه المعرفة وإما تعرفه معرفة فيها خطأ وصواب.

لكن كثيرًا من الناس -خصوصًا خدم الباطل المنتفعين من الأوضاع الجائرة المرتزقين من المظالم القائمة- هؤلاء لا يدعون كلمة الحق تمضى إلى آذان المستمعين لأنهم يخشون أن يصحو النيام وأن يعتدل المنحرفون، ولو كان أهل الباطل يطمئنون إلى ما عندهم لتركوا أهل الحق يقولون ما لديهم، ولكنهم لا يطمئنون إلى ما عندهم، ولذلك سرعان ما قالوا لأهل الحق: ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾، تشاءمنا منكم، ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا﴾ عن البلاغ ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، كان جواب المرسلين: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾.

ويعرض القرآن الكريم هنا مثلاً لجندي مجهول، لم يذكر القرآن اسمه لأنه يريد أن يستبقي هذا الاسم عند الله حتى يكون نموذجًا للناس الذين يحبون أن يعملوا بعيدًا عن الضوء زاهدين في الشهرة راغبين عن الهتاف وعن التفاف الجماهير. رجل مجهول الاسم، ولكنه عند الله معروف المكانة رفيع الدرجة. رجل مجهول الاسم ولكنه في حماسه للحق وفي إيمانه بالدين وفي تأييده للمرسلين تحرك من أقصى المدينة لينصر الرسالة التي شعر بأن الحق فحواها وأن الهدى معناها: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)﴾، هؤلاء ناس ما يطلبون من أحد ثمنًا على موعظة تلقى أو نصيحة تؤدى أو حق يعلم. ثم يتحدث عن نفسه فيقول: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25)﴾.

هذا حوار أداره الرجل بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، واستحياه القرآن ليسمعه أهل مكة قديمًا ولتسمعه البشرية على امتدادها مع تاريخ الحياة فوق هذه الأرض، حتى يكون للتوحيد أساسه الحقيقي.

ما الذي يربطني بغير الله -كما يقول الإمام زين العابدين- إنها لمأساة أن يدعو فقير فقيرًا وأن يتعلق محتاج بمحتاج.

أنت فقير، تعلَّقْ بالغني، أنت محتاج، تعلَّقْ بمن لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل أحد، هذا المعنى هو الذي أودعه النبي في حديثه الصحيح: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

إذًا فلتسقط الآلهة كلها، وليبقَ على عرش القلوب المؤمنة الإيمان برب العالمين وحده، لا تتجه إلا إليه، ولا تعبد إلا إياه، هكذا تعلم الناس من هذا الدليل: ﴿إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾.

قيل في روايات التاريخ: إن أهل القرية قتلوا الرجل ورفضوا ما عنده، وبداهة كانت المسافة بينه وبين الجنة مسافة الانتقال من الحياة إلى الموت، في لحظه واحدة ينتقل إنسان من شارع ما في شوارع القاهرة، من حارة ما في إحدى القرى، من مساحة ما في إحدى الميادين، ينتقل من دنيا مغبرة إلى جنة عرضها السماوات والأرض يمرح فيها ويستريح: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27)﴾.

هل احتاج القتلة إلى جيش يؤلف وتُعبَّأ قواه لينتقم منهم؟! لا، هم أهون على الله من هذا: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32)﴾.

هذا هو الفصل الأول من السورة، وهو مع المقدمة يستغرق نحو صفحتين، وتبقى من السورة ثلاث صفحات تضمنت فصلين آخرين: الفصل الأوسط حديث معاصر ترك الماضي فلم يتحدث عنه ولم يتحدث أيضًا عن المستقبل، إنما قال للناس: أَلاَ يفكر أحدكم في الأكل الذي يتناوله، كيف نبت؟! ومن الذي صنعه له؟! إن الرغيف يقع في يديك فتمزقه كي تلتهمه، أفكرت كيف كان هذا الرغيف حبوبًا في سنابل القمح أو حبوبًا في كيزان الذرة أو حبوبًا في سنابل الأرز؟! هل فكرت كيف انشق الوحل والطين عن الورود والرياحين؟! هل فكرت كيف تحولت التربة الهامدة إلى أشجار شامخة ونخيل باسقة وثمار تتدلى؟!

قال تعالى: ﴿وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(35)﴾.

ثم إن ولدًا لا يتكون في بطن أمه إلا من ازدواج، وإن ثمرة لا تتكون إلا من ازدواج، بل إن الذرَّة تتكون من عناصر مزدوجة، وليس هناك مَنْ تَفَرَّدَ في كيانه وتَوَحَّدَ في ذاته إلا رب العالمين: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾. هذه آية، وآية أخرى: ﴿وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)﴾.

إن أية سياحة مع علماء الفلك تجعل الإنسان يتضاءل في مكانه ويشعر بحقارته على ظهر هذه الأرض، بل ويشعر بحقارته على ظهر هذه الأرض كلها إذا قيست الأكوان بأحجامها.

إن أي دارس لعلم الفلك يعلم أن الأرض والمجموعة الشمسية كلها شيء ضئيل في كون كبير، وأن الأرض لو تبددت في الفضاء وتلاشت فلم يبق عليها كافر ولا مؤمن ما نقص الملكوت الإلهي شيئًا طائلاً: "يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا".

وآية ثالثة: ﴿وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(44)﴾.

الذي يقرأ السورة يجد أن الدليل العقلي امتد وتسلل إلى الدليل الثالث والأخير وهو الدليل الذي يسوقه القرآن الكريم ويكثر من عرض مشاهده لأمر واحد هو: نحن البشر غارقون في مطالبنا ومآربنا، فقلما نتفصى منها ونتخلص من قيودها كي نعيش في عالم الحق لحظات ترتفع بنا ونعتز بها، ولذلك يلح القرآن الكريم على البشر بوصف الجنة حتى لا يزهدوا فيها، وبوصف النار حتى لا يتجرؤوا عليها، ويلح القرآن الكريم عليهم بمشاهد البعث والجزاء، ويبين أن ذلك سوف يقع لهم وهم منغمسون في تجاراتهم أو في صناعاتهم أو في أحوالهم المعاشية، التاجران يبسطان الثوب بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه وتقوم الساعة: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ(51)﴾.

وختمت السورة بهذا الدليل على البعث وصدقه: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)﴾.

تستطيع إن كنت حافظًا للقرآن أن تغمض عينيك ثم تتأمل علام تدور سورة يس، تستطع إذا كنت غير حافظ للقرآن أن تعود إلى مصحفك ثم تقرأ سورة يس وقد عرفت كيف أن أولها تمهيد لآخرها، وكيف أن آخرها تصديق لأولها، وكيف أن هناك خيوطًا خفية تشد معاني السورة وتبيّن حقائقها، وبذلك نحسن فهم القرآن ونحسن تدبره والانتفاع به.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ﴿الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)﴾. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فالقرآن كنز مشحون بالهدايات، مليء بالخيرات، القرآن أوجد من العدم أمة كبيرة، وقد ثبت أنه يستحيل أن تقوم نهضة تشق طريقها في الحياة وتزحف نحو مستقبلها البعيد وهي راسخة وقوية ومتفائلة وناجحة إلا إذا كان لها مهاد معنوي يمدها بالقوة والأمل، وقد كان القرآن الكريم أساس انطلاق العرب من جزيرتهم التي عاشوا فيها زمنًا كما وصف القرآن في هذه السورة: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(7)﴾.

لكن هذا القرآن حوّل الغفلة إلى يقظة، حوّل الجمود إلى حركة، حوّل الموت الأدبي إلى حياة.

هذا ما يصنعه القرآن، لكن كيف يصنع القرآن هذا؟! بآيات تعلق على الجدران؟! بقراء يُستجلبون في سرادقات الموتى؟! كلا، تقول سورة يس: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.

على المسلمين أن ينشئوا علاقة جديدة بالقرآن، وأن يؤسسوا صلات ذكية بهذا الكتاب حتى يستطيعوا أن يحيوا وأن يؤدوا واجبهم وأن يعودوا سيرتهم الأولى رجالاً كبارًا وشعوبًا محترمة.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

أقم الصلاة.