من فتن الشبهات (فتنة التشكيك والإلحاد)

عناصر الخطبة

  1. اتجاه العقلاء في هذا العصر إلى الإيمان
  2. نداء الفطرة وغيره من أدلَّةِ وجود الله تعالى
  3. مخاطبة القرآن الكريم للعقل والوجدان مثبتاً وجود الله
  4. صنفا الإلحاد
  5. الحملة الإعلامية الضخمة للتشكيك في الإسلام وثوابته
  6. مسالك فتنة التشكيك والإلحاد وخطورتها
  7. أسباب ظهور فتنة الإلحاد
  8. ضرورة تصدي العقلاء العلماء لهذه الفتنة ومعالجتها
اقتباس

وها أنتم -معاشر الإخوة والأخوات- تشاهدون اليوم كيف أنه يُراد للشباب من الجنسين أن يتأرجحوا بين فتنتين، وأن يعيشوا الحيرة والتردد بين نارين: فتنة الشهوات وفتنة الشبهات، فإن كانت فتنة الشهوات فتنة قد أحرقت الكثير من النفوس، وجعلتهم عُبَّاد الملذات، فإن فتنة الشبهات تتنوع وتتشعب، فمن فتنة الغلو والتشدد والتكفير، إلى فتنة الإلحاد والتشكيك، وهي فتنة صماء دهماء، نابتة خطيرة آخذةٌ بالانتشار، تتسلل عبر صفحات الانترنت، وأفلام هولييود وقنواتها، وتُذكيها شبهات وفلسفات..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: فاشكروا الذي أوجدنا من عدم، والذي أحيانا وخلقَنا من لا شيء، اشكروا الواحد الأحد الذي يُحْيِي ويُميت، ويبعثنا للجزاء بعد إماتتنا، وله الكمال المطلق، والمجد المحقَّق، اشكروا الملك الحق المبين الذي لا يمكن أن نستغني عنه طرفة عين:

مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ *** وَمَا مِنَ اللَّهِ إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ

أيها المؤمنون: إننا في زمن يتجه عقلاء العالم وبكثرة إلى الإيمان بالله تعالى، فإن الدراسات الحديثة تؤكد أن الإسلام بات أكثر الأديان انتشارًا، وأن المسلمين الآن أكثر عددًا حتى من النصارى بشهادة الفاتيكان نفسه، وقد اهتدى بالتفكير وإعمال العقل الكثيرون من أولى الألباب ممن كانوا ملاحدة منكرين، أو ممن كانوا في فترة من فترات أعمارهم مشككين، ثم انتهوا في نهاية الأمر إلى إثبات وجود الله، ولزوم توحيده، وإلى العقيدة الصحيحة في الله وفي أسمائه وصفاته وذاته -جل جلاله-.

ومن هؤلاء من أسلم استنادًا إلى صوت الفطرة الذي يصرخ صباح مساء في أعماقه مكررًا ما قالته الرسل: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم:10]

فوا عجباً كيف يُعصَى الإلهُ *** أمْ كيف يجحدُه الجاحدُ وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ *** تَدُلُّ على أنَّه واحدُ ولله في كلِّ تسبيحةٍ *** وتحريكةٍ في الورى شاهدُ

ومن هؤلاء من اعتمد على مبدأ السببية الذي يقرر أن كُلَّ صنعةٍ لا بدَّ لها من صانع، وكل حادث لا بدَّ له من مُحْدِثٍ، وكما يدل عليه استدلال ذلك الأعرابي الأمي الذي قال كلمته الشهيرة وعجز الفلاسفة أن يأتوا بأحسن منها في باب الاستدلال والبراهين: "الأثر يدلُّ على المسير، والبعرة تدلُّ على البعير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا تدلاَّن على اللطيف الخبير؟".

فكل ما في الكون بهذا المنطق أبلغ دليل، على الخالق القدير، الذي إذا أراد شيئًا قال: كن فيكون. إنه مبدأ بدهي فطري ثابت في كل العقول السليمة. تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ *** إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ *** بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ *** بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ

أبعد كل هذا يصح إنكار الله في عقل عاقل؟! وهَبْنِي قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ *** أيعمى العالمون عن الضياءِ؟

ومن الطريف ما يُروى عَنْ الإمام أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلُوهُ عَنْ وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى، فَقَالَ لَهُمْ: دَعُونِي؛ فَإِنِّي مُفَكِّرٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أُخْبِرْتُ عَنْهُ، فقد ذَكَرُوا لِي أَنَّ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ مُوقَرَةٌ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَتَاجِرِ وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ يَحْرُسُهَا وَلَا يَسُوقُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاجَ الْعِظَامَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنْهَا، وَتَسِيرَ حَيْثُ شَاءَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسُوقَهَا أَحَدٌ. فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ ألَيْسَ لَهَا صَانِعٌ؟! فَبُهِتَ الْقَوْمُ وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ [تفسير ابن كثير].

عباد الله: إن قرآننا العظيم يُغنينا عن الطرق الفلسفية والكلامية في إثبات الله تعالى ووحدانيته، وتفرده بالربوبية والألوهية، ففيه أحسن الأدلة التي تخاطب العقل والوجدان معًا، وبكلمات قليلة وبليغة، فيقول بوضوح قاطع ودون فلسفة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾ [سورة الإخلاص]، ويقول أيضًا مستنطقًا الفطرة السليمة: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ﴾ [الطور:35]، فالحمد الله على نعمة الهداية ونعمة التوحيد، ويا عجباً ممن ينكر وجود الخالق، أو يشكك بالرسالة المحمدية، أو بالغيبيات من جنة ونار، ونعيم قبر وعذابه، ونحوه!.

ومع الانفتاح والمتغيرات كثرت الشهوات والشبهات، وتنوع الإلحاد ومسائل التشكيك، فالإلحاد باعتبار أصحابه صنفان: إلحاد فلسفي عقلاني له جذور تاريخية، وأصحابه فلاسفة ومناطقة، وإلحاد فوضوي شهواني نابت في هذا الزمان، والصنف الأول من الإلحاد باعتباره غير مؤسس على الحقائق العلمية والمسلمات العقلية لا يمت إلى العلم -وإن ادعاه- بصلة، وهو في انحسار وزوال، وكثيرًا ما تراجع أصحابه.

وأما الإلحاد الفوضوي الشهواني فإلحاد غوغائي متسرع يقوله صاحبه من غير ترو أو إعمال عقل، فهو تمرد على الإسلام وعلى قيمه ومبادئه، ويحاول صاحبه نبذه وإقصاءه، والتشكيك في ثوابته ومسلماته، ويصل إلى درجة من الإسفاف بالكلام الذي لا يقوله ربما أكبر فلاسفة الإلحاد.

وها أنتم -معاشر الإخوة والأخوات- تشاهدون اليوم كيف أنه يُراد للشباب من الجنسين أن يتأرجحوا بين فتنتين، وأن يعيشوا الحيرة والتردد بين نارين: فتنة الشهوات وفتنة الشبهات، فإن كانت فتنة الشهوات فتنة قد أحرقت الكثير من النفوس، وجعلتهم عُبَّاد الملذات، فإن فتنة الشبهات تتنوع وتتشعب، فمن فتنة الغلو والتشدد والتكفير، إلى فتنة الإلحاد والتشكيك، وهي فتنة صماء دهماء، نابتة خطيرة آخذةٌ بالانتشار، تتسلل عبر صفحات الانترنت، وأفلام هولييود وقنواتها، وتُذكيها شبهات وفلسفات، تُسطرها أقلام وعقول مأفونة، تؤدي إلى التشكيك بمسلمات الدين، وثوابت العقيدة؛ بل التشكيك بوجود الله الكبير العظيم، وبوحدانيته، وبسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وطريقته.

وإنني -والله- أقرأ في التويتر لشباب وفتيات أسماؤهم عبد الله ومحمد وفاطمة وعائشة، فأقرأ لهم كلمات لا أستطيع حتى مجرد حكايتها، كلمات يقشعر لها البدن، جرأة على الله، ونوازع إلحادية، وأفكار فلسفية، تُذكيها جرأة علمانية على مبادئ الإسلام وثوابته، تارة باسم الحوار واحترام الآخر، وتارة باسم الحرية الإعلامية والصحفية، وتارة باسم الثقافة والفن، وتارة باسم الأدب وفن الرواية، وفن القصة وفن المقال، وباسم الانفتاح والتحضر وحرية الرأي تارة أخرى، وكلها مسميات معسولة، ومواضيع نخبوية مقبولة، عناوين خلابة ساحرة منبعها الحكمة والوسطية والأدب والحضارة؛ لكن لا يمكن أبداً أن يُقبل لبس الحق بالباطل، أو كتم شيء من الحق مراعاة للخلق بدعوى الحكمة أو الوسطية؛ فإن هذا خلاف ﴿البلاغ المبين﴾ الذي أمر به رب العالمين.

فالإحصاءات تؤكد أن المقالات التي تنشر في الصحف العربية خلال أسبوع واحد تحتوي على قرابة الستين مقالاً تطعن الإسلام بعقائده بالله ووجوده، وتشكك بالقرآن وقدسيته، وتطعن بالرسول وسنته، كما تطعن برموز الملة كالصديق أبي بكر بأنه أول من بذر بذرة العنف والتكفير، وغير ذلك مما يصيبك بالغثيان وأنت تقرأ، وكل ذلك بأساليب شيطانية! وهذا ليس بالدنمارك ولا على لسان بابا النصارى؛ بل ببلاد إسلامية، ومدن هي معاقل للتوحيد الصافي! وبألسنة عربية!.

طَعنٌ خبيث دائم، وطعن مُرَكَّزٌ هادئ من قِبل تيارات وعقول إما جاهلة، وإما حاقدة، وإما متمصلحة، تُوجه سهامها ضد عقيدة الأمة وهويتها وعقول شبابها وفتياتها، حتى أصبحنا نسمع مَن يردد: (إنه ليبرالي مسلم)، ولا أدري هل هو يفهم حقيقة معنى هذه الكلمة؟ وربما ظناً منه أن الأخذ بالتيسير والتوسع بالمباحات هي الليبرالية كما يتصورها الكثير من هؤلاء، دون معرفتهم بأصل الليبرالية وخطورتها ليس بنقضها لعقيدة التوحيد فقط، بل لنقضها أصل الدين والقيم والأخلاق البتة.

وربما البعض سلك هذا المسلك كرد فعل للتشدد والغلو عند البعض الآخر، والحكم هو النقل الصريح الصحيح: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ"، إلا أن يُسر الدين مرتبط بالدليل وليس بالأهواء والآراء.

وتشتد هذا العصر خطورة هذه الفتنة- التشكيك والإلحاد- لسلوكها مسالك عدة، من أخطرها: أولاً: الهجوم المتسارع على مظاهر التدين، والأخلاق الحميدة، وأي مشروع يهدف للاعتزاز بالإسلام شريعة وتحاكماً وقيماً.

ثانياً: تبادل الأدوار بالهجوم على الرموز الشرعية والعلماء، ومحاولة إسقاطهم عن مقام القدوة، وإثارة الصخب الإعلامي حول أي موقف علمي شرعي يَجهر به العلماء الربانيون بياناً وتذكيراً للناس بحق الله ووجوب تعظيمه والتزام أحكامه وشريعته؛ وفي المقابل التواصي بنجدة المتطاولين على المقدسات ودعمهم وبحث كافة السبل لإنقاذهم حتى من مجرد المساءلة القانونية والوقوف أمام القضاء الذي هو تطهير لصاحبة.

ثالثاً: من المسالكِ التواصي بسياسة صرف الأنظار، وتشتيت الأذهان عن المشروع التغريبي الفاسد للمنطقة، والظاهر للعيان.

رابعاً: جرأة الإعلام والقنوات الفضائية الفاسدة فيما تبثه نهاراً جهاراً من استخفاف بدين المسلمين وقيمهم وأخلاقهم وأحكام دينهم، وتشجيعها للمجون وأهله، وللتفسخ والعري والفجور، وإبراز أهله كنجوم وقدوات للأجيال.

خامساً: الإصرار على بث ودعم وتوسعٍ لبرامجَ وأفلامٍ ومسلسلات مدبلجة ذات مخاطر عقدية، وأبعاد فكرية تشكيكية تتسلل لنفوس الناشئة باسم الترفيه والحب والغرام.

هذه أهم خمس مظاهر واضحة بينة ومؤثرة لبذر فتنة التشكيك في النفوس، خاصة عقول الناشئة من الأجيال الجديدة، والتي ربما تقود للإلحاد الذي قد لا يصل في أول الأمر للإلحاد الإنكاري أي "الإلحاد الكامل"، فالبذرة التي نسمع ونقرأ شنشنتها أخيراً هو ما يُسمى بالإلحاد الرافض، وهو"الإلحاد الجزئي"، يَعلم صاحبه أن الله موجود، لكن غلبت عليها شقوته وبات يتصرّف كأن الله غير موجود، فينتهك المحرّمات، ويسخر من الدين، وقد أَطلق عليه البعض: الإلحاد الكاذب، أو إلحاد فوضوي كما سبق.

ولو سألتم عن أسباب ظهور هذه الفتنة فهي كثيرة، لعلي أذكر ما يسمح به المقام فأذكر أهم سببين لظهور هذه الفتنة:

الأول: الأفكار والشبهات المتناقضة التي ترد على العقل ثم لا يكون عنده إيمان للتسليم المطلق، ولا يجد -وللأسف!- إجابات مقنعة لتناقضها.

وأما السبب الثاني: فالهوى ورغبات النفس، كحب الشهوات من غريزة جنسية ومال وعجب وشهرة وغرور وكبرياء يجد فيها المشكك ضالته، لتحقيق مراده وشهواته دون ضوابط ولا حساب ولا عتاب، والمصيبة أن يُجاهر بهذا وينافح عنه؛ بل ويحب الظهور والخروج عن المألوف بين معارفه، ليُظهر نفسه أنه الأكثر فهما وتفتحاً وجرأة على الدين.

وهذا الموضوع يحتاج لتأصيل وتفصيل من المعنيين من أهل الاختصاص والغيورين، إنما كلماتي هذه والتي أعلنتها منذ عام 1429بخطبة عيد الفطر إنما هي بمثابة حجر لتحريك الراكد من فكر خطير آخذٌ في التسرب لعقول النشء عبر التويتر والمواقع والمنتديات الليبرالية العنكبوتية، تُغذيها على مدار الساعة برامج الفضائيات المنحلة، والمقالات الصحفية المشوشة؛ فهل يتحرك الغيورون من القادرين، لاستيعاب هؤلاء المتأثرين المشككين قبل فوات الأوان؟ وهل نصبر على جدالهم وتتسع صدورنا لشبهاتهم قبل أن تتلقفهم عقول تزيد الطين بلة؟ وهل نبدد لهم شبههم وشكوكهم بطريقة حوارية علمية متينة، وبأسلوب هادئ رزين، فنداوي الجرح ولا ننكأه، ونعالج المريض ولا نزيده مرضًا، بل بكل شفقة وحب، وبكل فن تعامل ورفق، بلمسة الأب الحاني، وبكلمة المربي المشفق، وببيان العالم الناصح. بمثل هذا نكسب القلوب ونؤثر على النفوس المشوشة، فما على الرسول إلا البلاغ المبين، وعلى الله وحده هداية التوفيق.

ولا يعني هذا السكوت عن مجاهر بسخريته أو ساب وشانئ للمقدسات الشرعية، فما دام أعلن وجاهر وشوش على العامة فلا بد أن يسمع العامة بخطئه وبالإنكار عليه من العلماء الربانيين، ومن الهيئات واللجان الشرعية، كما لا بد أن يصل أمره للجهات القضائية الشرعية لتحكم بحكم الله فيه، دون افتئات عليها، ودون صخب ولا قيل وقال، فمازالت بلاد التوحيد بفضل الله ترفع راية التوحيد خفاقة، وتحتكم للشرع الحكيم.

وإنني إذ أشير لهذه المشكلة بهذه الكلمات، فإنني أدعو للمعالجة عاجلاً غير آجل، خاصة وأن أكبر سبب لهذا النوع من الإلحاد في زماننا هو القراءة غير الممنهجة في كتب الفلاسفة وغيرهم من أهل الشبه والتشكيك والإلحاد من قبل أناس غير محصنين بالعلم الشرعي، وليس لديهم قواعد وأصول يميزون بها الصحيح من السقيم، والغث من السمين، فهم حطَّاب ليل، وجمَّاع ويل، استسمنوا الورم، انقلبت وفرة المعلومات وسهولة تناقلها والوصول إليها في حقهم نقمة بسبب فقدهم للمناعة الشرعية، فكانت النتيجة أنهم جمعوا معلومات حشوا بها أذهانهم، ومن مصادر شتى غير مأمونة الجانب، كالشبكة العنكبوتية، والقنوات الفضائية والتويتر والفيسبوك وغيرها من المصادر الحديثة التي من شأنها أنها تجمع بين المتناقضات.

إذاً؛ فلنتنبه ولنحذر معاشر الإخوة: بأن القراءة الفوضوية وجمع المعلومات بطريقة عشوائية وعاطفية مع عدم امتلاك صاحبها لقواعد منهجية يحتكم إليها أوقعت البعض من شبابنا وفتياتنا في شبهات ربما دفعت البعض لشَرَك الإلحاد والتشكيك في مسلمات الدين وقطعياته.

وما أحوج الشباب من الجنسين اليوم إلى الإرشاد في كيفية الاختيار لمصادر التلقي من كتب وأشخاص ووسائل وجهات! وهذا دور منوط بالثقات من العلماء والمربين والآباء والتربويين والمثقفين في توجيه الناس وإرشادهم ماذا يقرؤون؟ وعمَّن يأخذون؟ فالقراءة المنضبطة هي القراءة المتدرجة التي يُراعى فيها الفروق الفردية والعقلية، كما يُراعى فيها المرحلة العمرية، ولا شك أن مثل هذه القراءة هي التي تقود إلى الحقيقة وإلى العلم الصحيح، والفهم السليم، بل تؤسس لسلامة المعتقد وصحة المنهج الذي يقود لتعظيم شعائر الدين، والثبات على التوحيد الخالص، خاصة في أوقات تلاطم الفتن وتتابعها.

وقبل الختام: أتساءل بدهشة: إلى متى سيستمر سكوت القادرين من أهل التخصص العقدي والفكري والعقلاء الغيورين من المثقفين على التصدي لمناقشة الأفكار الإلحادية والأطروحات التشكيكة المعلنة عبر الصحف والفضائيات، وفي المجالس والمنتديات خاصة ممن نعرف أنهم يملكون العلم والوعي في الدين، مع قدرتهم على الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، وإبداعهم في عرض الحجة الدامغة والدليل الحسي القاطع لمعرفتهم بأن الملحد أو المشوش يرفض مبدأ الإيمان القلبي بوجود الله وبالغيب لإصراره على معرفته بحواسه، كما هو معلوم.

فإلى متى سكوتكم؟ فلعل هذه المواقف والأحداث تنبهكم وتحذركم، فتأخير البيان عن وقت الحاجة خيانة لأمانة العلم، فكيف والمساس هنا بالعقيدة؟ كيف والضحايا تتكاثر؟ شباب بأعمار الزهور يترنحون على جنبات الطريق، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران:187].

فهيا -معاشر الأحبة- قوموا بالبيان، وجادلوا وحاوروا، واكتبوا وركزوا على إثارة العقل ومحاولة إشباع الفكر والتفكير والإقناع، فالكثير من هؤلاء يبحثون عمن يشبع عقولهم بإجابات مفحمة على أسئلة عقدية وشبهات فكرية تثار من حولهم حيَّرَتْهُم وأشغلتهم، فإن لم يكن أمثالكم ممن فتح الله عليهم لها؛ فمن إذاً؟! هنا لا شك سينبري الرويبضة والمتعجل والمتساهل والمتطرف فيكثر الخوض، وتزيد الفتنة علة، والطين بلة.

نسأل الله أن يصلح حال المسلمين، وأن يثبتنا أجمعين، على صفاء التوحيد، ونقاء الدين.

أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ.