العبادة وقت الفتن

عناصر الخطبة

  1. معيار التأثر بالفتن
  2. ميزة العبادة وقت الفتن
  3. أسباب النجاة من الفتن
اقتباس

أعظم شيء للنجاةِ من الفتنِ العبادةُ وقت الفتنة، فقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- ورواه مسلم: “العبادة في الهرج كهجرة إلي”… قال: الحافظ ابن رجب… وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه، ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:101]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال تعالى مبيناً أن البلاء سنة جارية في هذه الحياة، نسجتها العنكبوت في أولها: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3]، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران:179]. إذن؛ بالفتن يتميز الناس.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن ظهور هذه الفتن فقال -كما ثبت في البخاري وعند غيره-: "يقبض العلم -أي من علامات الساعة-، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج. قيل: يارسول الله! ما الهرج؟ قيل: بيده وهو يحركها كأنه يريد الذبح" رواه البخاري، كذلك في صحيح البخاري في كتاب الفتن، بدأ في هذا الكتاب بقوله -عز وجل-: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال:25]. إذن، الفتن إذا استشرت يمكن أن تعم. أسأله -سبحانه وتعالى- أن يكفي بلادنا وبلاد المسلمين من شرر الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

لذلك حذيفة -رضي الله عنه- مستودع سر النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاك معياراً رائقاً وجميلاً، هل أنت ممن تستشرفه الفتن؟ هل ممن ثبت قلبه عند الفتن؟ ذكر -رحمه الله تعالى- كما رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، ذكر حذيفة: "إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؛ فلينظر، فإن كان رأى حلالاً كان يراه حراماً فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حراماً كان يرى حلالاً فقد أصابته الفتنة".

التلون والتقلب والتغير هذه هي مشكلة كبيرة جداً في حياة الناس، كل يوم له رأي؛ لأنه ينعق بما لا يسمع، يردد كالببغاء، لا يفهم ولا يفيء إلى منهج يحاكم إليه ما يرى وما يسمع وما يعايش.

لذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلا: إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا، وقد عاش الصحابة بعد وفاته مباشرة فتنة الردة في خلافة الصديق، ثم انكسر الباب وماجت الأمة بالفتن إلى يومنا هذا. أسأله -سبحانه وتعالى- أن يسكن أحوال المسلمين.

إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا. ما الحل؟ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، هذه استعارة إمعان بالتمسك، النواجذ هي أقوى الأسنان في مسك الشيء، ولا تتصور أن تمسك السُّنة بالسن، إنما هو تشبيه من أجل التمسك، واعتصموا بحبل الله، فاستمسك بالذي أوحي إليك؛ والسُّنة.

إخوة الإسلام: والقرآن قد أوضح أيما توضيح المخرج من الفتن ، ونحن نعيش عصر الفتن ، أسأله -سبحانه وتعالى- أن يكفي المسلمين شر الفتن.

أعظم شيء للنجاة من الفتن العبادة وقت الفتنة، فقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".

سبحان الله! العبادة في الهرج، والهرج هو القتل، والتغير، وكثرة الآراء، وكثرة تغير الأمور، وانكفاف الناس على الأخذ من ذاك وذاك، قال: الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- أحد أئمة السلف في شرح هذا الحديث "العبادة في الهرج كهجرة إلي": وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه، ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤمناً به، متبعاً لأوامره، مجتنباً لنواهيه".

فالناس شغلوا بالأخبار والتحليلات، حتى تضاعف عدد المتابعين لها، حتى إن أحد المواقع الإخبارية الشهيرة تضاعف من يشاهدونه هذه الأيام إلى 25مرة! أي: 2500%!، فالعبادة في مثل هذه الظروف يعدل الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تشبه الهجرة الأولى التي هي أكمل الهجرات. أسأله -سبحانه وتعالى- أن يرزقني وإياكم أجر المهاجرين.

لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى محلل سياسي؟ إلى قناة إخبارية؟ فزع إلى الصلاة -صلى الله عليه وسلم-. لا يتصل بالشاشة، يتصل بخالق الكون -سبحانه وتعالى-، يستمد منه العون، والنظر السديد، والتعبد له -سبحانه وتعالى-، والانطراح بين يديه، لذا قال -عليه الصلاة والسلام- من حديث مسلم برواية أبي هريرة: "بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا، ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا". فبادروا بالأعمال.

قال العلماء في شرح هذا الحديث -والحديث رواه مسلم- قالوا: الفتن تتسارع. ما الحل؟ المسارعة في الطاعات، الفتن ظلام لا تُري الإنسان الأشياء، الصلاة العبادة نور للإنسان في الفتن، فليفزع الإنسان إلى كتاب الله، يفزع إلى الصلاة، يفزع إلى الدعاء، يستمد من الله العون -سبحانه وتعالى-، "بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا و يمسى كافرا، ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا" يبيع دينه ولو بدينار أو دينارين، ويقتل مسلماً متعمداً؛ لماذا خفَّت الديانة؟ خف التعبد، قل العلم، كثر الجهل، الاستجابة لعبودية الدينار، تعس عبد الدينار، تعس وانتكس! وأي تعاسة عندما يراق دم امرئ مسلم.

لذلك صح عنه -عليه الصلاة والسلام- من حديث أم سلمة في صحيح البخاري قالت: "استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! وماذا فتح من الخزائن؟! أيقظوا ‏صواحبات الحُجَر (يعني قيام الليل). لما تكلم عن ظهور الفتن الحالَّة، الفزع ‏والليل يرخي سدوله إلى المناجاة إلى الدعاء، أيقظوا ‏صواحبات الحجر، فرب ‏ كاسية ‏ ‏في الدنيا عارية في الآخرة ‏"

سبحان الله! ماذا فتح من الفتن، أيش الحل؟ أيقظوا. أيقظوهم لماذا؟ لنظر آخر الأخبار؟ أيقظوهم حتى يتصلوا بالله -سبحانه وتعالى-.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومن أجَلِّ العبادات وقت الفتن الدعاء"، بل اختصر النبي -صلى الله عليه وسلم- العبادة في الدعاء، الدعاء هو العبادة، مُخُّها، روحُها، كما جاء في الحديث بأن "الدعاء مخ العبادة" لا يصح سنداً، لكن يصح معنى، والأفضل منه: "الدعاء هو العبادة"؛ لذلك صح عنه -صلى الله عليه وسلم- كما رواه مسلم: "تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن". ما تدري من أين وكيف تأتيك الفتن، تعوذوا بالله، والعوذ هو الاعتصام واللجوء إلى الله -سبحانه وتعالى-. نسأل الله أن يقينا ويقي بلاد المسلمين شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

وعلَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى في صلاتنا ونحن في عبادتنا أن نُدعو في الصلاة بهذا التعوذ، وقد أوجبه بعض العلماء كالحنفية، والصحيح أنه سنة مؤكدة: "أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".

لذلك يخبر أبو هريرة يقول: "تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاء كدعاء الغريق"، أرأيت مثل الغريق يقول بصوت المستغيث: يا رب! يا رب! الغارق في الفتنة، الغارق في الآراء، يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، لا ينفع معه إلا الدعاء الذي يشبه دعاء الغرق، أنت غارق في آراء كاسدة، في تصورات ساذجة، أنت غارق في استطالة كلامك في قضايا كثيرة.

لذلك العلماء ينبغي الرجوع إليهم، الرجوع إليهم وقت الفتن: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83]، وولاة الأمر تحتمل معنى الأمراء والعلماء؛ والعلماء الصادقون، والأمراء الصالحون، هم أقدر الناس على تصور الفتنة وكيفية التعاطي والتعامل معها؛ إذاً، أيصح أن نردها لمحلل سياسي؟! أو لفاسق تاريخه ملوث بالعمالة والكفر؟! ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.

وهؤلا العلماء هم المأخوذ عليهم الميثاق، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران:187]، فالناس بحاجة للبيان أشد من الطعام والشراب، فهؤلاء أصحاب العلم الصادق والإيمان الصادق، هم الذين يرجع لهم، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام:90]. إذن، اطلب العلم حتى تستنير، وإن لم تستطع أن تدخل في جزئيات العلم ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:43، الأنبياء:7].

ومما يسبب النجاة من الفتن -وهو داخل في العمل الصالح- تربية النفس على الإيمان بالله -عز وجل-، والإيمان باليوم الأخر، ما الفرق بين هذا والعلم، العلم "ممكن يكون نظري" معلومات، قرص مدمج محشو بالمعلومات، لكن تطبيق هذه المعلومات يحتاج إلى ضخ معانٍ إيمانية، يحتاج إلى تطبيق السيرة النبوية، لذلك العلم بالله -عز وجل- وبأسمائه وصفاته وما أنزله من أحكام قدرية وشرعية من أسباب النجاة من الفتن، لذلك قال: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ "إيمان نقي ما لبس ببدع وضلالات وتهاون" الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ "أولئك فقط" لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82]. "يا رب تجعلني" وإياكم منهم.

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39)﴾ [النازعات:37-39]، تطغي بالآراء، وتطيش بالسهام، ويرتمي في الفتن ولا يتأنى؛ ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾ [النازعات:40-41].

كذلك مما يسبب النجاة من الفتن هو العمل الصالح وتطبيق العمل، لذلك تعوذ النبي -عليه الصلاة والسلام- من علم لا ينفع، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)﴾ [النساء:66-68]، فعلوا ماذا؟ ما يوعظون به، ما قال تعلموا! بل فهموا وأدركوا ففعلوا، ترجموه إلى واقع، وأحيوه في الشارع، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ ثبات عند الفتن ولا تلجج، ﴿وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)﴾.

كذلك مما ينجي من الفتن الخوف منها، والفرار منها، فقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- من حديث أبو هريرة في البخاري "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به"، يعني يعتصم به، ملجأ من الفتن، إذا فالقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي الذي يقلب الناس على أمور لا يدرك أبعادها.

إذن الخوف من الفتن والبعد عنها هو مما يسبب النجاة منها. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما أجمل التقوى لفظاً ومعنى! تطبيقاً وأثراً! ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(3)﴾ [الطلاق:2-3]، لا اله إلا الله! ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:128]، معهم يكلؤهم ويرعاهم ويسددهم، تقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ماذا تقصد وماذا تريد من هذا الأمر؟ أريد أن تعلم بأن الله مطلع عليك، ليست التقوى صياماً فقط وسجوداً وعمرة والارتماء في الكعبة في الإجازة… الارتماء في السنة، الارتماء عند الأدلة، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقني وإياكم التقوى.

كذلك الذكر: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]، ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(144)﴾ [الصافات:143-144]، الذي يسبح ويذكر الله، لا ينساه الله، أما الذي لا يذكره يكون في بطن الفتنة إلى البعث، ويتخبط في ظلمات رحم الفتنة، لكن من يذكر الله فالله يذكره وينجيه.

عجبا لهؤلاء الغافلين لا يوجد عندهم متسع للذكر وقراءة قرآن، ويوجد عندهم متسع لمتابعة الشاشات ومطالعة التحليلات، كيف يذكرهم الله وهم منهمكون في النظر إلى شاشات ملوثة بالفسق. أسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعلني وإياكم من الذاكرين الله كثيراً.

لذلك يأتي بعد الذكر والتقوى: التوكل، ولا يتوكل على الله إلا من اتقاه وعرف قدره، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3]، ما يكفيك الله؟! ما يسعك الله؟! توكل عليه. والتوكل أصله الاعتماد والاستناد، لا يعتمد على شيء آخر، يفعل الأسباب لكن يعتمد على مسببها ولا يعتقد أن هناك أمراً يحدث شيئاً ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم:4]، لا قوة جهة معينة، ولا تخطيط جهة معينة، فإذا كان أهل الباطن يمكرون فاستنجدوا بخير الماكرين. أسأله -سبحانه وتعالى- أن يرزقني وإياكم حقيقة التوكيل.

لذلك ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]، نعم الوكيل! نعم الوكيل!.

كذلك من أسباب النجاة من الفتن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف:165]، الذين ظلموا يدخل فيهم الساكت الصالح، الذي لا يتمعر ولا يتقطع قلبه حسرات لهذه، يقضي وقته في النكات التافهة والضحك، ولا نقول لا نضحك وقت الفتنة، لكن هناك فرق أن تكون حياتنا عبثا وبين أن تكون جدا يتخلله شيء من المرح الذي يشجعنا على مواصلة الجد وقت الفتنة.

لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يشبِّه المجتمع بسفينة، من حديث النعمان بن بشير: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا (انظر لخُرَّاق السفن هؤلاء كيف يصنعون ويدمرون المجتمع) فإذا تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"

من السهل إدراك سفينة تغرق، وتصور حالة الهلع والموت، لكن مَن يدرك مجتمعا يغرق، وصنابير الفساد والفتن والدماء تنهال عليه؟ أسأله -سبحانه وتعالى- أن ينجي إخواننا في مصر من هذه الفتنة، وأن ينجي بلاد المسلمين من كل فتنة.

الرفق؛ حتى أنه عقد البخاري في صحيحه "باب الرفق في الأمر كله"، في كل شيء، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، فالرفقَ الرفقَ!.

التأني؛ وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج بن عبد القيس كما رواه مسلم في صحيحه: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" أي: عدم الغضب وعدم الاستعجال. فقال أشج فرحاً مستبشراً يريد أن يعرف مصدر هاتين الصفتين، أهما خصلتان تخلّقتُ بهما؟ أو هما خصلتان جبلني الله عليهما؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بل هما خصلتان جبلك الله عليهما" قال الحمد لله.

نعمة الحلم والتأني والرفق نعمة عظيمة، بعض الناس متعجل فلا يتأنى ولا يسأل علماء، ولا يتبصر ولا يقرأ ولا يبحث في السنة. "فيك خصلتين يحبهم الله ورسوله: الحلم والأناة"؛ لذلك قال -عليه الصلاة والسلام-، حديثا عظيما -وكل السنة عظيم- رواه مسلم في صحيحه يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس"، الروم هم النصارى، داهية العرب في نفس الرواية يفسر لنا لماذا هذا البقاء في الروم مثل ما تراهم أكثر الناس الآن، سيبقى هذا الأمر إلى قيام الساعة كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- "تقوم الساعة والروم أكثر الناس".

يقول عمرو بن العاص -رضي الله عنه- داهية العرب قال : لأن الروم فيهم خصالا أربعا، منها أنهم أحلم الناس عند الفتنة. كما ترى الصليبيين يتعاملون مع الفتنة كيف يلعبون على الأوراق! لا يدفعوا في جهة معينة، كيف يوازنون الأمور! كيف يجتمعون! كيف يخططون! كيف يستفيدون من الفرص! كيف يقطفون الثمار.

أنهم أسرع الناس بعدُ إفاقة من مصيبة، انظر: فاقوا بعد الحرب العالمية وانتظموا وشكلوا قوة، كيف قامت دول، كيف اتحدوا! تقوم الحروب في العالم الإسلامي وتطحن دولا في كل منطقة وهم لا حروب بينهم بالكامل، إلا الحرب العظمى التي طحنتهم ثم استفادوا منها.

والعلماء قالوا كلام عمرو بن العاص ليس معناه الثناء على الروم، لا! بقدر ما هو توصيف لحال الروم، هذا خبر كوني قدري.

والمسلمون يجب أن يستفيدوا من الدروس حتى من غيرهم، ويتعاطوا مع الفتن، ويتعاملوا معها بطريقة خلاقة مبدعة.

أسأله -سبحانه وتعالى- أن ينصر المجاهدين المخلصين في مصر، ويحقق آمالهم، ويجمع كلمتهم على الحق، ويحقن دمائهم، ويزيل الطغاة المنافقين، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام.

 

بطاقة المادة

المؤلف سعد بن ناصر الغنام
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية