قواعد حال الفتن

عناصر الخطبة

  1. إحدى عشر قاعدة حال الفتن
  2. الصراع بين الحق والباطل والإسلام والكفر
  3. التاريخ يعيد نفسه
  4. ماذا لو فتحت الدنيا على المسلمين؟
اقتباس

إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله سبحانه: الأعمالُ الصالحة، من دعاء وذكر، وصلاة وصيام، وصدقة وغيرها، فإنَّ الأعمال الصالحة غِذاء القلب ومادة قوته، كما أنَّ الطعام والشراب غذاء الجسم ومادة قوته؛ وكان نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة ..

إن الحمد لله…

أمَّا بعدُ:

فيا أيها المسلمون: يعيش المسلمون هذه الأيام في أماكنَ شتى أيامًا عصيبة، ومصايب كبيرة، فما أن يندمل جُرح مِن جسَد الأمة الإسلامية إلا وتُصاب بجرح آخر، قد يكون أعظم مما سبق، وهذا ما يشهده الواقعُ اليوم من تطوُّرات كبيرة في مراحلِ الصراع بين الأمة وأعدائها في كلٍّ مِن: فِلَسْطين، والعراق، وأفغانستان، والصومال، وغيرها مِن بلاد الله تعالى، وفي كثير من هذه المراحل لا يملك الكثيرُ من المسلمين – سواء ممن يعيشون في قلْبِ الحدَث كما يُقال، أو ممن هم بعيدون عنها بأجسادهم ولكن مع إخوانهم بقلوبهم – إلا الصَّبْر والدعاء، إلى أن يشاء – جلَّ وتعالى – بِفَرَجٍ مِنْ عنده.

أيها المسلمون، هذه بعض القواعِد المهمة في هذا الباب؛ لعلَّها تكون عَوْنًا لنا في الصبر والتسْلِية وفي رفْع الغمَّة:

القاعدة الأولى: أن يعلمَ المؤمنُ أنَّ كلَّ ما يحصل في هذا الكون من حوادث وصراعات فهو بِقَضاء الله وقدره وبعِلْمه وإرادته ومشيئته، لا يخرج شيء من ذلك؛ كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، وأنه سبحانه قدَّر ذلك قبل أن يخلقَ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلن تموت نفسٌ قبل أجلِها المحدَّد لها؛ كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (كتَبَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقَ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)؛ رواه مسلم، فإذا علِمَ المؤمنُ ذلك وآمن به انشرحتْ نفسه، ولم يجزع أو يتسَخَّط، ورضي بقَضاء الله وقدره، وانشغل بعبادة ربه وتحصيل معاشه بنفسٍ مطمئنة، عكس مَن لم يؤمن بذلك فتجد الهلَع والخوف قد استولى على قلبه؛ فلا يجد للحياة طعمًا، بل يصل به الأمر إلى الوفاة أو محاولة قتْلِ النفس للتخلُّص من الحالة التي يعيشها.

القاعدة الثانية: أنَّ الصِّراع والاختلاف سُنّة ربَّانية ماضية، وهذا الصِّراع قد يكون بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو صراع دائمٌ ومستمر، ولن ينتهي إلا عندما يترك أهل الإسلام دينهم؛ كما قال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217]، وقد يكون الصراعُ أيضًا بين أهل الحق أنفسهم، أو بين أهل الباطل أنفسهم؛ نتيجة الاختِلاف في المواقف أو الأطماع، والشواهد من التاريخ على ذلك كثيرةٌ في الماضي والحاضر، وخير شاهد ما حدَث في الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية، والله سبحانه قد يولِّي بعض الظالمين بعضًا، ويكون في ذلك الخير والفرَج للمؤمنين؛ كما قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]، ولهذا ينبغي للمؤمن ألا يستغرب حُدُوث مثل هذه الصِّراعات والأزمات، بل يؤمن بأنها سُنَّة جارية.

القاعدة الثالثة: أنَّ ما أصاب المؤمنين مِنْ تسلُّط الأعداء عليهم وتقتيلهم وهدم بيوتهم وتهجيرهم من ديارهم، قد يكون بسبب أنفسهم كما قال سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30]، وإذا كان الصحابة – رضي الله عنهم – لما هُزموا في معركة أُحد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تساءلوا فيما بينهم عن سبب الهزيمة؛ فأَنْزَل الله سبحانه قوله: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم﴾ [آل عمران: 165]، وكان الذنب الذي بِسَببه هُزموا هو مخالفة الرُّماة لأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونزولهم من الجبل؛ فعلينا أن نحذر من الذنوب والمعاصي، فهي سبب الهزيمة والضَّعْف والوهن، ولن ننتصر على عدونا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدوِّنا الداخلي، وغيَّرنا مِن حالنا وأقْبَلْنا على طاعة ربِّنا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

القاعدة الرابعة: من أعظم ما يجب على المؤمن التوكلُ على الله في الرخاء والشدة، واللُّجوء إليه عند المِحَن والأزمات، وطلب الفرج منه، فهو الناصر والمعين؛ ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]، والثقة بنصره وعدم الخوف من كثرة العدو وقوته: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173 – 174]، ولنا في سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خير برهان، فهو لم ينتصر في معاركه الكثيرة مع الكُفَّار بكثرة جيْشِه وأسلحته، ومن كان الله معه فليبشر بالنصر والتمكين؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].

القاعدة الخامسة: إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله سبحانه: الأعمالُ الصالحة، من دعاء وذكر، وصلاة وصيام، وصدقة وغيرها، فإنَّ الأعمال الصالحة غِذاء القلب ومادة قوته، كما أنَّ الطعام والشراب غذاء الجسم ومادة قوته؛ وكان نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة، وقد أمر الله – سبحانه وتعالى – بالاستعانة بالصلاة في سائر الأحوال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153]، وأمر عند مُلاقاة العدو بالإكثار من ذكره، وبيَّن أنه سبَب الفلاح والنصر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].

القاعدة السادسة: إنَّ النَّفس البشَرية جُبلت على حب الحياة وكراهية الموت والقتْل، وهذا لا تثريب فيه على الشخص، ولكن إذا وقعت الحروب والأزمات فعلى المؤمن ألا يجزع مِن ذلك، ويعترض على قضاء الله وقدره، فقد يكون في باطن ذلك الخيرُ والفرَج وبداية النصر، وقد لا نُدرك ولا نعلم هذا الخير؛ لقُصُورنا البشري كما قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، ولَمَّا عقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صُلْح الحديبية مع المشركين، وكان من بنود الصُّلح أن يرجِع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه فلا يدخلوا مكة، أصاب أصحابه – رضي الله عنهم – حزنٌ شديد، وشقَّ ذلك عليهم، ثم إنَّ الله فتح بعد ذلك مكة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث نقض المشركون الصُّلح، فلننظر كيف أنَّ هذا الصلح الذي كرهه الصحابة – رضي الله عنهم – أصبح خيرًا بعد ذلك، وصار سببًا لفتح مكة!

القاعدة السابعة: أن يعلم المؤمن أن الباطل مهما استفحل وانتصر على الحق في أحوال، فإن ذلك لا يعدو أن يكون مرحليًّا ووقتيًّا، وأن النصر في النهاية هو للحق وأهله، وهذه حقيقة شرعيَّة، وإرادة كونيَّة قدرية، يجب أن نؤمن بها ونثق بوعد الله – عز وجل، وأن يدعونا ذلك للتفـاؤُل وقت الأحداث، وأن وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر قد قرب بزوغ فجره، وأن ظلمة الباطل قريبًا ما تنقشع، فهو سبحانه لا يخلف الميعاد: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 – 173]، وكان – صلى الله عليه وسلم – إذا اشتكى إليه أصحابه – رضي الله عنهم – ما يلاقونه مِن عذاب وشدة من المشركين دعاهم للصبر وعدم الاستعجال، وبشَّرَهم بانتصار الدين، وغلبة أهله؛ فكان يقول: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين)؛ رواه الإمام أحمد، إلا أن هذا التفاؤُل وانتظار الفرج يجب أن يصحبه عمل جادٌّ، وبحثٌ في الأسباب والعلاج، أمَّا التفاؤل دون ذلك فهو عجز وخَوَرٌ، ولننتظر عند ذلك أن يحلّ بنا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38].

القاعدة الثامنة: إنَّ أعظم فرصة للدعاة إلى الله تعالى وللعاملين بحقل التربية والتعليم اغتنامُ أوقات الأزمات والحوادث؛ لِنَشْر رسالتهم في المجتمع، فإن النفوس يومئذٍ أقرب ما تكون إلى الخير، وتحتاج إلى مَن يُنير لها الطريق، وأن يقوم الداعية والمربي بربط ما يقع ويحدث بالسُّنَن الإلهية الكونية، والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان في أشدِّ الظروف بل في أعظم مصيبة يُصاب بها أهل الإسلام، وهي قُرب مفارقته – صلى الله عليه وسلم – للدنيا، ومع ذلك لم يمنعه من القيام بالدعوة إلى الله حيث كان يقول وهو يعالج سكرات الموت: (الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)، رواه الإمام أحمد.

إن عدم قِيام الدعاة والمربين برسالتهم وقيادة المجتمع سوف يجعل المجتمع يموج كما يموج البحر، تتلاطمه هواة أقلام الصحف والمجلات، ومقدِّمو القنوات الفضائية والتحليلات الإخبارية، إنَّ الداعية والمربِّي البصير مَن يسعى إلى أن يُحوِّل المحنة إلى منحة، والخوف من المستقبل إلى الثقة به، وأن يوظفَ ما لديه من إمكانيات التَّوْظيف الإيجابي لتحقيق رسالته.

القاعدة التاسعة: إنَّ مُتابعة الأحداث والتعايُش معها والتأثُّر لأحوال المسلمين ينبغي ألا يكون مانعًا للمؤمن من السعي في عمارة الكون وتحصيل رزقه ومصالحه، ولا يعتبر هذا تعلُّقًا بالدنيا، وعدم اهتمامٍ بأحوال المسلمين، والنبي – صلى الله عليه وسلم – وجَّه إلى عمارة الأرض حتى آخر لحظة من عمر الدنيا، إذ يقول – صلى الله عليه وسلم -: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)؛ رواه الإمام أحمد.

إن الواجب على أهل الإيمان خصوصًا وقت الأحداث المبادرةُ والسعي بأخذ أسباب القدرة والنصر المادية والمعنوية؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، وألا يكون موقفهم موقفَ المتفَرِّج الذي ينتظر ويستجدي وسائل النصر من غيره، بل أحيانًا من عدوه!

القاعدة العاشرة: أن نظرية المؤامَرة يجب ألا تكون مصاحبة لنا في كل حدث نعايشه؛ بحيث تكون هذه النظرية عقدة ملازمة لنا مع كلِّ حَدَث، فإن الاختلافَ بين البشر أمر فطري وسنّة ماضية، وتعارض المصالح بينهم أمر موجود حتى بين الأصدقاء أنفسهم، وخَيْرُ شاهِدٍ على ذلك ما وقَع في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي قُتِل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، فقد كانت نتيجة اختلاف على الأطماع وسيادة بين الدول الغربية، كما أنَّ الصِّراع بينهم قد يكون فيه مصلحة لأهل الإسلام وفرج لهم، ولهذا لما وقع القتال بين الدولتين العظيمتين الكافرتين الروم وفارس في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وانتصر الروم؛ فرح الصحابة – رضي الله عنهم – بذلك لكون الروم أقرب للحق، فهُمْ أهل كتاب!

القاعدة الحادية عشرة: في زمن الفتَن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتصبح حديث المجالس، وتتعلَّق بها القلوب من دون تثبُّت، مع أن مصدرها قد يكون تحليلاً إخباريًّا عبر قناة إعلامية، والتي أصبحتْ أكبر مصدر لها لجذب أكثر عدد من المتابعين. إن الإشاعة ونقل الأخبار بمجرد سماعها وعدم التثبُّت منها قد يترتَّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهَد معلوم، ويكفي لبيان أثر ذلك مثال واحد: فقد حدَث زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما أُشيع خبر مقتله – صلى الله عليه وسلم – في غزوة أُحُد، فكان مِن أثر ذلك أن قعد بعض الصحابة – رضي الله عنهم – عن القتال، والإسلام جعل منهجًا واضحًا عند سماع الأخبار ونقلها، وهو التثبُّت والتبيُّن منها، بل جعل من يحدِّث بكلِّ ما سمع كذّابًا، كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع)؛ رواه مسلم.

وهذا المنهج لا يتغيَّر؛ سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن؛ حفاظًا على أمن المجتمع وسلامته.

نسأل الله – عز وجل – أن يحفظَ بلاد المسلمين مِن كُلِّ مكروه.

نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة النبيِّ المصطفى الأوَّاب، أقول قولي هذا وأستغفر الله الغفور الوهَّاب لي ولكم ولسائر المسلمين مِن كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا، وتوبوا إليه إنَّه كان توَّابًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله…

أمَّا بعدُ:

فيا أيها المسلمون: لقد أخبر عليه الصلاةُ والسلام بما يكون في الأمَّة بعده إلى قيام الساعة مِن تفرُّق واختِلاف، ونِزاع وشِقاق، ينشأ عنه فتَنٌ عظمى ومحنٌ كبرى، يوقد نارَها ويُذكي جذوتَها أعداءٌ مُتَربِّصون، وكفرةٌ حاقدون أو جهلةٌ قاصرون مُنحَرفون عن منهج الحقِّ والعدل، فتتأجَّج نار الفِتَن في الأمة، وتشتدَّ ضَراوتها، ويسْتَشْري ضررُها، ويتفاقَم خطرُها، ويَجلّ خطبها، وتلتبس عندئذ كثير منَ الحقائق، وتختلط كثيرٌ من المفاهيم، وتختلّ الموازين، ويهلك بسببها خلْقٌ كثير، ويحتار جرَّاءها ذَوو العُقُول والبصائر، وهكذا شأن الفِتَن إذا عظُمَتْ في الأمة.

معاشر المسلمين: إنَّ المُدافعة بين الإسلام والكفر ضَرورية لحياة الشُّعوب وبقائها، وكلُّ شعب فَقَدَ استشعار المُدافَعة فَقَد الحياة ولا محالة، فأكلتْه شُعُوب الكفر، وطحنه تنازُع البَقاء، وذهب أقسامًا بين أشتات المطامِع والأهواء، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران: 140].

أيها المسلمون، يخطئ كثيرًا مَن يَظُنُّ أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر، كانت بدعًا في تاريخهم الطويل، كلا، فالأمرُ ليس كذلك، بل إنَّ أمر المسلمين قد يعلو تارة، وينحدر أخرى، بمقدار قُربهم مِن ربهم وإحيائهم لسُنَّة الجهاد في سبيل الله؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (مَن لم يغزُ أو يجهز غازيًا، أو يخلف غازيًا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)؛ رواه أبو داود وابن ماجه بسند جيد. والقارعة: هي الداهية.

لذا فقد هبط أمر المسلمين في قرون مضَتْ، حتى اغتُصب الحجر الأسود بضعَ سنين، فما عاد إلى موضعه إلا بعد مِحَنٍ وشدائد.

أيها المسلمون، إنَّ الناظر في واقع العالم اليوم، إنْ كان ذا لُبٍّ وبصيرة، فإنَّه لن يتمالك من قوة الفهم إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس، فها هو التاريخ يُعيد نفسه، تتغيَّر مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتِّساع، حتى أصبحتْ مُتمركزة في معسكرات الكفر؛ بحيث لا تفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سَيْطروا على المسلمين في قرون مضت لا يتجاوز سيوفًا ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يُحَرِّك ساكنًا، حتى يأتي ذلك الرجُل فيقتله، كما حدَث ذلك عندما سقطتْ حاضرةُ الخلافة بغداد في يد التتار المُجْرمين!

فنقول: إن كان ذلك هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين، فإن أسلوبهم في هذا العصر ينطلق مِن محاور متعددة، أورثتْ لدى المسلمين جُبنًا وخَوَرًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، انطلقوا يغزونهم في عدَّة ميادين، تمثلتْ في إذكاء التخلُّف العلمي، والتخلُّف الاقتصادي والصحفي، والتحدي الثقافي في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية والإعلامية، وإثارة الحروب الأهلية والنعرات الطائفية، ومع ذلك بقيتْ أساليب العصور الوسطى حين يُطْلب من بعض الدول أن تقف موقف المتفرج حتى يفرغ لها لتعاقب.

معاشر المسلمين، إنَّ أهل الكفر هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية، أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبيًّا عندهم مَن يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو القوانين الخاصة أو العامة، أو باسم المدَنية والإنسانية، وصار المغبون حقًّا هو ذلك الضعيف المهزول الجاثي على رُكبتيه المهزولتين، أمام تلك القوى الكافرة الظالمة يستجديها حقَّه، ويسألُها إنصافَه ويطلبُ إليها بمدْمَعه لا بمدفعه، ويناديها باسم المدنية وباسم الحُقُوق الإنسانيَّة، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة لا تذكر العدالة ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم، أما الضعيف العاجز عن المدافعة، فما له عندهم إلا التلويح بالعصا الغليظة، والقصف والسحق كما هو حاصل اليوم في العراق وفي عددٍ مِن بُلْدان المسلمين.

كَمْ في العِراقِ وَكَمْ في القُدْسِ ذُو شَجَنٍ *** شَكَا فَرَدَّدَتِ الأصْداءُ شَكْوَاهُ بَنِي العَقِيدَةِ إنَّ القَرْحَ مسَّكُمُ *** وَمَسَّنا نَحْنُ في الإِسْلامِ أَشْبَاهُ شَعْبٌ يُقَتَّلُ وَالدُّنْيَا تُشاهِدُهُمْ *** كَأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ مَا كَانُوا فِيهِمْ مِنَ البُؤْسِ والتَّشْرِيدِ مَلْحَمَةٌ *** خَوْفٌ وَجُوعٌ وَتَقْتِيلٌ وحِرْمَانُ صَوْتُ اسْتِغاثَتِهِمْ يَكْوِي الفُؤَادَ وَمَا *** مِنْ مُنْقِذٍ أَوَمَا للنَّاسِ آذَانُ؟!

كل ذلك أيها المسلمون مِصْداقٌ لقول المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن تتداعَى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)، قيل: أوَمِن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: (لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)؛ رواه أبو داود وهو صحيح.

هجمت على المسلمين الدُّنيا فتنافسوها، فقلبت موازين الحياة عندهم نسوا قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]، ونسوا قول الله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ [آل عمران: 175]، وقول الله – عز وجل -: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران: 160].

ألا ما أحوجَ الأمّةَ أن تدرُس أسبابَ النَّصر والهزيمة بِمَنْظورٍ جديد ورأيٍ سديد وموقف رشيد، وأن تدقِّق في المقاصد والغايات لاعتلاء شرفِنا السامق ومجدِنا الشامِخ – بإذن الله، وحذارِ حذار من اليأس والقنوطِ والإحباط، وإلى مزيدٍ من التفاؤل والاستِبْشار، فالنصرُ للإسلام وأهله، والقوة لله جميعًا؛ ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].

اللهم…