أبو هريرة رضي الله عنه

عناصر الخطبة

  1. نشأة أبي هريرة وإسلامه
  2. فضل أبي هريرة وبيان شيء من مناقبه
  3. قطوف من سيرة أبي هريرة رضي الله عنه (التعبدية الدعوية الأخلاقية)
اقتباس

من المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء الكفار والمنافقين والمستشرقين والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بشبهاتٍ وأكاذيب باطلة، فيصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما ..

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المؤمنون: لقد اصطفى الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، واختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمة قلوبا وأعمقها علمًا وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيّون، والقادة الفاتحون، والعبّاد الزاهدون.

ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة -رضي الله عنه-، ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية والإتقان في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين.

فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه.

عباد الله: من المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء الكفار والمنافقين والمستشرقين والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بشبهاتٍ وأكاذيب باطلة، فيصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا يزعزع إيمانهم أقاويل المبطلين، ولا تصرفهم عن محبّة أبي هريرة -رضي الله عنه- دعاوى المفترين؛ لأنّهم عالمون بفضله ومناقبه، عارفون منزلته ومكانته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما قدم من خدمةٍ عظيمة لحفظ ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم- من السنة النبوية.

ولئن كان سفهاء الأحلام وأُجراء الأقلام قد سودوا الصحائف والكتب بالنيل من حافظ الإسلام الجهبذ، فإنّ كبار النفوس والعقول من رجالات الأمة، قد ملؤوا سطورها ثناءً، عليه -رضي الله عنه-.

والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مطلوب، كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، فسمَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد إسلامه عبدالرحمن؛ لأنّه لا يجوز تسمية إنسان بأنّه عبد فلان أو عبد شيءٍ من الأشياء.

وأبو هريرة -رضي الله عنه- من قبيلة دوس، وهي قبيلة يمانيّة قحطانيّة مشهورة، فهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، معروف النسب، شريف المعدن، لكنه -رضي الله عنه- لم يشتهر باسمه وإنّما اشتهر بكنيته.

وأما سبب تكنيه بهذه الكنية فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “إنّما كنوني بأبي هريرة -رضي الله عنه-، لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي فوجدتُ أولاد هرة وحشيّة فجعلتها في كمي، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر في حجري، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس! فأنت أبو هريرة -رضي الله عنه- فلزمتني بعدُ”. وقال -رضي الله عنه-: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوني أبا هر، ويدعوني النّاس أبا هريرة”. وكان -رضي الله عنه- يفضِّل كنية النبي -صلى الله عليه وسلم- له، يقول: “لأن تكنوني بالذكر أحبّ إليَّ من أن تكنوني بالأنثى”.

أيها المؤمنون: أبو هريرة -رضي الله عنه- نشأ يتيمًا وهاجر مسكينًا، وتأخر قدومه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، ومات النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ ثلاث سنين، كانت في الملازمة اللصيقة والحرص الشديد على الصحبة وتلقي الحديث.

وقد نال أبو هريرة -رضي الله عنه- شرف دعوة النبي بالهداية لقومه، فقال -صلى الله عليه وسلم- لما قالوا له: يا رسول الله: إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها. فقال: “اللهم اهد دوسًا، وائت بهم”.

وقد خصّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه بالشرف قرناً لهم بقريش والأنصار؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “وأيم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية؛ إلاّ أن يكون مهاجرًا قرشيًّا أو أنصاريًّا أو دوسيًّا أو ثقفياً”.

وأبو هريرة -رضي الله عنه- يماني يلحقه شرف اليمن وشرف أهلها، فقد أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده نحو اليمن، فقال: “الإيمان يمانٍ هاهنا”. وقال: “الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية”. وكلّ هذا المذكور داخل في شرف العموم

أمّا شرف الخصوص -عباد الله- فحدِّث عن البحر قبل أن تغوص، فقد نال أبو هريرة -رضي الله عنه- شرف دعوة النبي له وتوثيقه؛ فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله: ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اللهم حبب عُبيدك هذا وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين”، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. إذاً فحب أبي هريرة -رضي الله عنه- كان ببركة دعائه -صلى الله عليه وسلم- له خاصة.

ولأبي هريرة -رضي الله عنه- شرف الانتساب لأهل الصفة، الذين شهد لهم القرآن، وأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالجلوس إليهم والصبر معهم، كما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾[الكهف:28]، وأهل الصفة، هم ممن لا منزل له، وأكثرهم من المهاجرين الفقراء، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطعمهم ويتفقد أحوالهم؛ وفضلهم مشهور لا ينكر، وأبو هريرة -رضي الله عنه- منهم قد حاز شرف فقرهم وفضلهم وأجرهم.

وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة -رضي الله عنه- لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتوثيقه له، وشهادة القرآن له.

فهل يأتي اليوم تافهٌ نكرة، يطعن في أبي هريرة -رضي الله عنه-؟!، هيهات -والله- أن ينالوا منه شيئاً، فوالله ما أبغض هؤلاء الأصحاب إلا كل منافق مرتاب وما أحبهم إلا كل مؤمن خلص قلبه وطاب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

عباد الله: إن الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- هو حديث عن أخلاق الإسلام وآدابه، وحديث عن صفوة رجال كانوا لهذا العلم من أوعيته وطلابه، أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين، وخرجوا من هذه الدنيا ولم يشبعوا في ليلتين.

وأبو هريرة -رضي الله عنه- أحد هؤلاء الفحول النوادر، الذين دخلوا التاريخ كما دخله الأكابر، وكيف لا يكون منهم وهو وارث العلم النبوي الشريف، الذي ضرب فيه بسهم وافر؛ حتى غدا ترجمان السنة وحافظها بلا منازع.

ولم يكن -رضي الله عنه- يندفع للعلم وكثرة الرواية، ويتأخر عن العمل به كأهل الغواية، بل ضم إليه الخشية وكثرة التعبّد، وحسن السمت والتزهد، وهذه قبسات مضيئة من سيره إلى الله -عز وجل- نستلهمها من زوامل أسفاره إلى الدار الآخرة:

أخرج البخاري وأحمد عن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة -رضي الله عنه- سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا. ويقول هو عن مسلكه في كل ليل: “إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث أنام، وثلث أقوم وثلث أتذكر أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“.

وكان -رضي الله عنه- يصوم الاثنين والخميس تطوعاً، وكان هو وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر الأولى من ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.

وكان -رضي الله عنه- أماراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، إذا رأى رجلاً ذا مال كثير يوصيه بإخراج الزكاة ويحذره من مغبة منعها، فنراه يقول: “إياك وأخفاف الإبل، إياك وأظلاف الغنم”، ثم يقول للرجل إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا وكذا، ويسوق حديثاً.

وربما دخل إلى السوق على حين غفلة، فيرى الناس يغدون ويروحون وقد ألهتهم التجارة وتشاغلوا بالدنيا، فيوقظ غفلتهم بموعظة لطيفة، من ذلك أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها فقال: “يا أهل السوق هاهنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعاً ثم رجعوا، قالوا: يا أبا هريرة -رضي الله عنه- فقد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئاً يُقسم، فقال لهم أبو هريرة: “وما رأيتم في المسجد أحداً؟”، قالوا: بلى، رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرؤون القرآن وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: “ويحكم! فذاك: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقسم”.

عباد الله: كان أبو هريرة -رضي الله عنه- ذا أخلاقٍ فاضلةٍ كريمة، ومن هذه الأخلاق العالية، التي بوأته المكانة السامية، كثرة برّه بأمه وملازمته إياها، فإنه -رضي الله عنه- لما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “للعبد المملوك المصلح أجران” قال: “والذي نفس أبي هريرة -رضي الله عنه- بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك”. قال سعيد بن المسيب: “وبلغنا أن أبا هريرة -رضي الله عنه- لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها”.

ولشدة بره بأمه تمنى إسلامها وحرص عليه؛ حتى أسلمت، أخرج مسلم عنه -رضي الله عنه- أنه قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة -رضي الله عنه-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اللهم اهد أم أبي هريرة -رضي الله عنه-“.

فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة -رضي الله عنه- وسمعت خضخضة الماء، قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله”.

ومن بره بأمه -أيضاً- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه تمرتين، قال أبو هريرة: فأكلت تمرة وجعلت تمرة في حجري، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “يا أبا هريرة لم رفعت هذه التمرة؟” فقلت: لأمي، فقال: “كلها فإنا سنعطيك لها تمرتين” فأكلتها وأعطاني لها تمرتين.

والعجب العجاب أن تجد في هذا الزمان من تجوع أمه وبطنه منفوخ من التخمة؛ يطعن في أبي هريرة -رضي الله عنه-!!.

ومن أخلاقه الكريمة -عباد الله- جوده وسخاء نفسه؛ بإكرامه للضيفان وإعتاقه للعبيد وإحسانه للموالي وكفالته الأيتام، يروى أبو داود بسند صحيح عن الطفاوي قال: “تثويث أبا هريرة -رضي الله عنه- بالمدينة، فلم أر رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد تشميراً ولا أقوم على ضيف منه”.

وأعتق من ماله الأغر بن سليك المدني بالاشتراك مع أبي سعيد الخدري الذي نزل الكوفة وصار من كبار محدثيها، وكانت له دار بالمدينة تصدق بها على مواليه إلى حسنات أخرى يضيق المقام عن عدها.

وكان -رضي الله عنه- إلى جانب هذا حريصاً على تربية أولاده، فقد ربى ابنه المحرر تربية علمية، جعلت كبار الرواة يحتاجون إليه ويروون عنه ما فاتهم من حديث أبيه، وكان يحمل ابنته على الزهد فيقول لها: “لا تلبسي الذهب، إني أخشى عليك اللهب، ولا تلبسي الحرير إني أخشى عليك الحريق”.

رحمة الله على أبي هريرة -رضي الله عنه- معلماً وهادياً، ومجاهداً وداعياً، وآمراً وناهياً، ورائحاً وغادياً.

بطاقة المادة

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية