خلق الحياء

عناصر الخطبة

  1. منزلة الحياء
  2. فضائله
  3. أبوابه الثلاثة
  4. من مظاهر قلة الحياء في المجتمع
  5. كيفية التخلُّق بخلق الحياء
اقتباس

إنَّ مِنْ مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، ومجامع الخير التي جاء الإسلام حاثَّاً عليها؛ لأنها سببٌ لكلِّ خير، وسببٌ للبعد عن كل شرّ، خُلُقَ الحياء، الذي يُعدّ من أرفع الأخلاق، وأنبل الصفات؛ وصَدَقَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: “والحياء شعبة من الإيمان”. ومع كون الحياء شعبة من شُعَب الإيمان إلا أنه يُعدّ أساساً لتحصيل الفضائل كلِّها، والبعد عن الرذائل جميعِها.

إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُهُ ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله -عز وجل-؛ فإن من اتقى الله كفاه الله ووقاه، وجعل له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين، وأوليائه المفلحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يخزنون.

أيها الإخوة المسلمون: إن الإسلام حثّ على كل خلق نبيل، ودعا لكل وصف جميل، دعا حمَلته والمنتسبين إليه إلي تكميل نفوسهم بالأخلاق الفاضلة، والنعوت الحسنة.

وفي الوقت ذاته حثّهم على الترفّع عن الدنايا، والتجافي عن الرذائل، والبعد عمّا يقبح به فعله ومقارفته من الأقوال والأفعال وسائر التصرفات، كل ذلك لأن دين الإسلام دين الأخلاق الفاضلة، تضمنت شرائعه وأحكامه ومبادئه من السمو أعلاه، ومن الحسن منتهاه، ومن الجمال غايته.

إخوة الإسلام: إن من مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، ومجامع الخير التي جاء الإسلام حاثاً عليها؛ لأنها سببٌ لكل خير، وسبب للبعد عن كل شرّ، خُلُقَ الحياء، الذي يُعدّ من أرفع الأخلاق، وأنبل الصفات، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذ يقول: "والحياء شعبة من الإيمان". ومع كون الحياء شعبة من شعب الإيمان إلا أنه يُعدّ أساساً لتحصيل الفضائل كلها، والبعد عن الرذائل جميعها.

إن العبد -أيّها الإخوة المسلمون- متى ما تخلّق بخلق الحياء تخلّقاً تامّاً استحيا أن يراه الله على معصية، فيحسن معاملة ربّه، ويستحيي من أن يراه الناس على غير الخلق السوي، وبالجملة، فإنّ مَن اشتد حياؤه أكسبه ذلك رقة في قلبه، ومراقبة لربه، وملازمة لطاعة مولاه، وبعداً عن محارمه.

ومَن تأمل التوجيهات النبوية في هذا الموضوع يلمس ويدرك كثرة الفضائل التي رتبها الشارع على هذا الخلق الجليل، يكفي أن تعلم أولا أن الحياء خير كله، وحسبك بهذه المنقبة العظمية -الحياء- أنه خيرٌ كله، يدعو إلى الخير، ويتحقق معه الخير.

وبعد ذلك فإن الحياء من الصفات والأفعال التي يحبها المولى -عز وجل-، فمن كان حيِيَّاً كان من أهل محبة الله. يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحب الحياء والستر"، وبين -صلى الله عليه وآله وسلم- مكانة الحياء في الإسلام فقال: "إن لكل دين خلُقاً، وخلق الإسلام الحياء".

ومن فضائل الحياء -أيها المسلمون- أنه سبب لدخول الجنة، فقد جاء في الحديث الشريف: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار".

هذه -أيها الإخوة المسلمون- بعض فضائل الحياء، ويكفي منها أن صاحب الحياء المتصف به منضم في جملة الصالحين، وأن فاقد الحياء معدود من جملة ذوي الفحش والبذاء، وأحسب أن كل مَن له عقل لا يرضى لنفسه إلَّا أن يكون من جملة ذوي الحياء والمروءة.

أيها الإخوة المسلمون: إن الحياء الذي نتحدث عنه ليس خلقاً من الأخلاق التي يصعب التخلّق بها، ولا وصفاً من الأوصاف التي يعذر الاتصاف بها، وإنما الحياء خلق من السهولة بمكانٍ تحصيله، من السهولة بمكانٍ تحقيقه.

يقول الجنيد -رحمه الله-: الحياء رؤية آلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. وعرَّفه بعضهم بأن الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.

ومتى رغب العبد في التخلق بهذا الخلق العظيم والاتِّصاف به فعليه أولا بمراقبة الله، وأن يعلم يقينا بإطلاع الله عليه، ونظره إليه وقربه منه، فمن أدرك هذه المعاني الجليلة وعاش بها في سره وعلانيته، وفي خفائه وظهوره، أورثه ذلك حياء من ربه، إذ لا يخطر ببال مَن اعتقد بمراقبة الله له واطلاعه عليه أن يقع فيما لا يحبه مولاه ولا يرضاه من القبائح والرذائل.

ومما يعين العبد على التخلق بخلق الحياء أن يطالع نِعَم الله تعالى عليه، وآلاء ربه المتتابعة، وخيراته المترادفة، ومننه المتلاحقة، كل ذلك في بدنه وفي حياته، في أعضائه وجوارحه ويقرن ذلك بتقصيره وتفريطه في القيام بشكر هذه النعم.

أيها الإخوة المسلمون: في عُرف البشر وذوي العقول السديدة أن من أسدى إليك معروفاً، وتابع عليك إحسانا، وأوصل إليك براً، ثم قصَّرت في شكره، فإن ذلك داعٍ للحياء منه، فكيف بواهب النعم ابتداء وانتهاء؟ كيف بالله الخالق العظيم، واهب النعم ابتداء وانتهاء؟ كيف بالمنعم المتفضل الذي يتقلب العباد كلهم في نعمه وآلائه منذ أن كان الواحد منهم نطفة في رحم أمه حتى يفارق الدنيا وهو يتقلب في نعم الله وآلائه في بدنه وسائر جوارحه وأحواله؟.

أليس الرب العظيم الجليل أحق بأن يُستحيا منه حقّ الحياء؟ خصوصاً وأن العبد مهما قام بالشكر لمولاه بلسانه وجَنانه، بأعضائه وجوارحه، مهما عمّر حياته وزمانه وعمره كله بالحياء من خالقه، لم يقم مطلقاً بمكافأة نعم الله -عز وجل- عليه؛ إذا كان شكري نعمة الله عليّ إذن في مثلها يجب الشكر، فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله، وإن طالت الأيام، واتسع العمر؟!.

أيها الإخوة المسلمون: إذا كان الحياء، هذا الخلق النبيل هو الوصف الجميل، إذا كان الحياء بهذا الشمول والعموم في انتظامه لأبواب الخير والفضائل؛ فإن الحياء تجتمع فضائله في أبوب ثلاثة: حياء العبد من ربه وخالقه، وحياء العبد من الناس، وحياء العبد من نفسه التي بين جنبيه.

أما حياء العبد من خالقه فيكون بامتثال أوامره، والكف عن زواجره، ومعرفة نعم الله، ومَن استحيا من ربه دعاه ذلك إلى إقامة كل طاعة، واجتناب كل معصية.

وأما الحياء من الناس فيكون في كف الأذى عنهم، وترك المجاهرة بالقبيح، وعدم التقصير في حق من له حق على الإنسان من قريب أو بعيد. كان حذيفة بن اليمان -رحمه الله ورضي عنه- يقول: لا خير فيمَن لا يستحيي من الناس. وقال بعض الحكماء: مَن كساه الحياء توبةً لم ير الناسُ عيبَه. وقد أحسن من قال: إذا قَلَّ ماءُ الوجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ *** ولا خَيْرَ في وَجْهٍ إذَا قَلَّ مَاؤُهُ حياءَكَ فَاحْفَظْهُ عليكَ! وإنَّما *** يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الكَريمِ حَيَاؤُهُ

وأما حياء العبد من نفسه فيكون بصيانة النفس عن الوقوع فيما حرم الله في الخلوات، وأماكن البعد عن الناس؛ فكأن بالعبد بهذا المعنى نفسين يستحيي بأحدهما من الأخرى، قال بعضهم: ليكُن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك.

أيها الإخوة المسلمون: هذه أبواب الحياء تجتمع في هذه الأمور الثلاثة: حياء العبد من ربه وخالقه، وحياؤه من الناس أجمعين، وحياؤه من نفسه التي بين جنبيه.

إخوة الإسلام: إن من سُلِب الحياء، إن من سلب هذا الخلق النبيل، خلُق الحياء، فاته خير كثير؛ لأنه حينئذٍ ليس له بفقد الحياء ما يصده عن فعل القبائح، وما لا يزجره عن مقارفة المحظور، وما لا يبعده عن الوقوع في الرذائل، أو يمنعه في التقصير في أداء حقوق الآخرين المادية والمعنوية، بل هو حينئذ يكون عبداً لهواه، عبداً لشهواته، عبداً لنفسه الأمَّارة بالسوء. ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحْيِ فاصْنَعْ ما شئت"، قال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: "إذا لم تستحْيِ فاصنع ما شئت"، أي: إذا لم يكن لك حياء فافعل ما شئت، فالله يجازيك عليه.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من أهل الحياء حقا وصدقا، في ظاهرنا وباطننا، وأن يجعلنا من أهل الحياء مع ربنا -عز وجل-، ومع الناس أجمعين، ومع أهلينا وأقربائنا وجيراننا وزملائنا، ومع الناس أجمعين، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمن علينا بالتوبة النصوح.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا كما يُحِبُّ ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

أيها الإخوة المسلمون: إن من يتأمل واقعنا يلحظ تقصيراً كثيرا في الاتصاف بخلق الحياء، إن كثيرا من الشرور والقبائح التي ترتكب في المجتمع مردها إلى انعدام الحياء وقلته، الحياء من الله، والحياء من الناس، والحياء من النفس.

إنك إذا فتشت في كثير من القبائح والشرور، في كثيرٍ من أوجُه الخلل والنقص، في كثيرٍ من المــُنْكَرَات التي تقترف، والجرائم التي يقع فيها كثيراً من الناس، فإنك ستجد مردها في الجملة إلى قلة الحياء أو انعدامه.

هل من الحياء في شيء -أيها الإخوة المسلمون- أن يسمع بعض الناس النداء للصلاة ثم لا يجيبون داعي الله -عز وجل-؟ هل من الحياء من شيء المجاهرة بالمعاصي والمنكرات؟ هل من الحياء ما نراه ونسمعه مما يحصل في أعراس المسلمين اليوم من مظاهر التبرج والسفور وتقليد الكفار والفجار؟ هل من الحياء أن يسمح الرجل لزوجته أو ابنته أن تلبس لباساً تتعرَّى به؟ أن تلبس لباساً لا يجوز لها لبسه حتى وإن كان أمام النساء؟.

هل مِن الحياء -أيها الإخوة المسلمون- أن يقطع الواحد منا رحِمَه؟ وأن يعق والديه؟ هل من الحياء أن يسيء الواحد منا إلى جيرانه وأهل حيِّه؟ هل من الحياء ما يفعله كثير من الناس من الموبقات والمنكرات؟ إن ذلك كله ليس من الحياء في شيء.

إن مما يؤسَف له أن كثيراً من الناس قد يقع في بعض المخالفات ثم يجاهر بها، وهذا -والعياذ بالله- بعد عن الحياء، واجتناب له؛ إن على كل من وقع في معصية أن يستتر بستر الله -عز وجل-، إن كثيرا من الناس اليوم لم يكفهم مجرد الوقوع في المعصية حتى جهروا بها وأعلنوها، لم يمنعهم حياؤهم من الله، ولا الحياء من الناس، ولا الحياء من النفس، ولا من ذلك كله.

قال بعض السلف موصياً ابنه: إذا دعتك نفسك إلى كبيرة فارمِ ببصرك إلى السماء، واستحْيِ ممَّن فيها، فإن لم تفعل فارمِ ببصرك إلى الأرض، واستحْيِ ممَّن فيها، فإن كنت لا ممن في السماء تخاف، ولا ممن في الأرض تستحيي، فاعدد نفسك من البهائم.

إنَّ ما نراه -أيها الإخوة في الله- من منكراتٍ وقبائحَ إنما هو إفرازاتٌ لقلة الحياء عند بعض الناس، وإلا فلو قوِيَ معنى الحياءِ في القلوب، وترسَّخَتْ حقيقتُه في النفوس، لَزالَتْ من حياتنا، أفراداً وجماعاتٍ، كثيرٌ من الأفعال والأقوال المستهجَنة شرعاً وطبعاً.

إن على كل مسلم أن يسأل نفسه عن تصرفاته وتصرفات مَن تحت ولايته، هل هي دالة على الحياء والمروءة؟ أم هي أمارة على قلة الحياء وانعدام المروءة؟ وهل يرضى الشهم الأبيّ بأن يوصف هو أو أهله بقله الحياء، أو انعدام المروءة؟!.

إن على كل مَن أراد التخلُّق بهذا الخلق النبيل أن يجاهد نفسه، ويلزمها بالحياء من ربه سبحانه، والحياء من الناس أجمعين، ويحاسبها في ذلك محاسبة دقيقة حتى تتوثق هذه الخصلة وهذا الخلق الجميل في نفسه.

أسأل الله -عز وجل- أن يمن علينا وعليكم بالهداية والاستقامة، وأن يهدينا جميعاً لأحسن الأخلاق والأفعال.

هذا وصَلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم -عز وجل- بذلك في كتابه فقال عزَّ مِن قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].