سيرة النبي-صلى الله عليه وسلم- (22) الإذن بالهجرة للصحابة

عناصر الخطبة

  1. أسباب الهجرة من مكة للمدينة
  2. أحداث هجرة الصحابة إلى المدينة
  3. موقف مأساوي في أثناء هجرة الصحابة للمدينة
  4. قصة هجرة أم سلمة وصفحة نادرة من مكارم الأخلاق
  5. فضائل عثمان بن طلحة
  6. لمحات تربوية من هجرة الصحابة الكرام.
اقتباس

خرجت أم سلمة مهاجرة إلى الله ورسوله بغير رفيق لها في هذا السفر البعيد، فحفظها الله -عز وجل- أولًا بحسن نيتها، وصلاح عملها، وصبرها في محنتها، وثباتها عند فراق أحبتها، ثم حفظها ثانيًا بمكرمات أبيها الذي كان يلقبه العرب بـ: “زاد الراكب”، فأرصد الله -سبحانه وتعالى- لها رجلًا من أكثر العرب نخوةً ومروءةً، وأنفسِهِم معدنًا، وأكرمِهم أصلًا، وهو عثمان بن طلحة الذي كان مع شركه وكفره ذا مروءة ونخوة وشهامة تأبى عليه أن يدع بنت زاد الراكب تسير وحدها في الصحراء؛ فصحبها بأفضل ما يصحب العفيف الشريف امرأة شريفة عفيفة…

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أما بعد: عباد الله! أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فالسعيد من راقب الله وأحسن تعامله مع ربه، واتبع هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فسلامة المنهج في اتباع هدي القرآن والسنة، وما أحوجنا في واقعنا المعاصر لتتبع سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والوقوف على دروسها وعبرها.

وقد كنا تحدثنا في الخطبتين السابقتين عن بيعة العقبة الثانية، وعن مواقف متنوعة ذكرها أصحاب السِّيَر قبل الاستعداد للحدث الأكبر: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد أن اشتد الأذى للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتضييق الخناق عليهم يومًا بعد يوم، إلى أن جاء الفرج من الله، فأذن الله للصحابة لهجرة، والانتقال إلى المدينة النبوية.

وبدأ المسلمون بالتفلت من بطش قريش وتنكيلهم بهم،ومع هذا الإذن بدأ العد التنازلي لعصر الاستضعاف، واقترب زمن التَّمكين والعزة والقوة، فبعد أن أتم الله نعتمه على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه رضي الله عنهم بتمكينهم من إتمام بيعة العقبة الثانية، وستر أمرهم عن عدوهم قريش حتى مكَّن الله -سبحانه وتعالى- بفضله الأنصار من الرجوع للمدينة سالمين. 

ثم أعقب ذلك الفرج الإلهي بالإذن للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، يقولُ ابْنُ إسْحَاقَ:"فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَرْبِ، وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ وَلِمَنْ اتَّبَعَهُ، وَأَوَى إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إلَيْهَا، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- : "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا" فَخَرَجُوا أَرْسَالًا [أي: متفرقين]". (سيرة ابن هشام: 1/468). 

وتحققت رؤيا نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقد جعلها ربي حقًا، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رؤيا بهذه الهجرة من قبل، كما في الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا اليَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ"رواه البخاري: 3622/7035، ومسلم: 2272).

وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ" [اللابة: الأرض ذات الحجارة السود] (رواه البخاري: 3905).

وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- ؛ أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ" (رواه مسلم: 2473). 

وسبحان من استأثر بعلم الغيب وحده لا شريك له! فقد ظنَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن الهجرةَ ستكون لليمامة، أو هَجَر، ولكنَّ اللهَ -عز وجل- أراد أن يعزَّ بها أهل المدينة، وما هو -صلى الله عليه وسلم- إلا وحي يُوحى، فقد أمر أصحابه -رضي الله عنهم- بالهجرة لكنه لم يهاجر معهم التزامًا منه -صلى الله عليه وسلم- بربانية المنهج الذي يقتضي ألا يخطو خطوةً واحدةً إلا بأمر ربه -سبحانه وتعالى- ؛ "فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة ينتظر أن يأذن له ربه -سبحانه وتعالى- في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة" (سيرة ابن هشام: 1/468). 

وإلى أن يأتي الإذن من ربه، نتوقف مع موقف وحدث إيماني إنساني مأساوي في أثناء هجرة الصحابة للمدينة، فقد كان أبو سلمة بن عبد الأسد بن مخزوم أول من هاجر إلى المدينة، واسمه: عبد الله، فهاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قد رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة من الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجرًا. فضحَّى بأهله وولده لأجل دينه: إذ تقول أم سلمة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة الهجرة: "لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ، رَحَّلَ (أي: جهَّزَ) لِي بَعِيرَهُ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ، فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَكَ هَذِهِ؟ عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ؟ قَالَتْ: فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ. قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: لَا وَاَللَّهِ، لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا. قَالَتْ: فَتَجَاذَبُوا بَنِي سَلِمَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَتْ: فَفَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي". (سيرة ابن هشام:1/ 468). 

وهكذا رحل أبو سلمة لم يثنه عن الهجرة، ولم يُضعف عزيمته فراق أحب الناس إليه؛ زوجه وولده، وصدق الله -سبحانه وتعالى- إذ يقول: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]. فكان الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من بلده، وزوجه، وولده، فمضى مهاجرًا إلى الله ورسوله متحملًا لوعة الفراق، متحديًا لهيب الذكريات. 

وبقيت زوجه أم سلمة ثابتة حتى جاء فرج الله -سبحانه وتعالى- : إذ تقول: "فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ، فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا! قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكَ إنْ شِئْتِ.قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي. قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ". (سيرة ابن هشام: 1/ 469). 

وهكذا لم تكن أم سلمة أقل صبرًا ولا ثباتًا ولا تضحية من زوجها، بل صبرت وثبتت بفضل الله -سبحانه وتعالى-، حتى نزل بها فرج الرحمن الرحيم الذي لا تنام عينه عن ضعيف ولا مسكين، لكنه يبلوهم أيهم أحسن عملاً، ويبلوهم ليمكنهم، أو ليرفع درجاتهم في جنات النعيم، فإن الحياة الحقيقية السرمدية هي حياة الآخرة، وليس الحياة الدنيا، مهما تراكمت مآسيها وآلامها. 

تقول أم سلمة: فانطلقت مهاجرةً "وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. فَقُلْتُ: أَتَبَلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّى أَقْدُمُ عَلى زَوْجِي، حَتَّى إذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ لِي: إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ؟ (وفي روايةٍ: يا بنتَ زادِ الراكبِ [لأنه يزودُ الركبانَ بالطعامِ مروءةً]؟ قَالَتْ:فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: أَوَمَا مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: لَا وَاَللَّهِ، إلَّا اللَّهُ وَبُنَيَّ هَذَا. 

قَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكَ مِنْ مَتْرَكٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يهوى بى، فو الله مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، حَتَّى إذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرَةِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنِّي إلَى شَجَرَةٍ، فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا، فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ، قَامَ إلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ فَرَحَّلَهُ [أي: أعده للركوب]، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، وَقَالَ: ارْكَبِي. فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَهُ، حَتَّى يَنْزِلَ بِي. 

فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ، قَالَ: زَوْجُكَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ– وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكَّةَ. وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ. (انظر سيرة ابن هشام: 1/470). 

سبحان الله! فقد خرجت أم سلمة مهاجرة إلى الله ورسوله بغير رفيق لها في هذا السفر البعيد، فحفظها الله -عز وجل- أولًا بحسن نيتها، وصلاح عملها، وصبرها في محنتها، وثباتها عند فراق أحبتها، ثم حفظها ثانيًا بمكرمات أبيها الذي كان يلقبه العرب بـ: "زاد الراكب"، فأرصد الله -سبحانه وتعالى- لها رجلًا من أكثر العرب نخوةً ومروءةً، وأنفسِهِم معدنًا، وأكرمِهم أصلًا، وهو عثمان بن طلحة الذي كان مع شركه وكفره ذا مروءة ونخوة وشهامة تأبى عليه أن يدع بنت زاد الراكب تسير وحدها في الصحراء؛ فصحبها بأفضل ما يصحب العفيف الشريف امرأة شريفة عفيفة، وصدق فيه قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" (رواه البخاري: 3493، ومسلم: 2638).

وسرعان ما يشرح الله -سبحانه وتعالى- صدور أصحاب هذه المعادن النفيسة للإسلام كما فعل مع عثمان بعد ذلك، وسنأتي على قصة عثمان بن طلحة مع الإسلام والمسلمين مستقبلاً، لكننا نتساءل في زماننا أين هذه المروءة وتلك النخوة، وهذا العفاف وملايين المسلمين يتضاغون جوعًا، ويموتون بالبرد والقتل، والذبح والحرق، وبالأمراض والأوبئة، أين هذه النخوة والمروءة من عفيفات سبايا ومغتصبات خبايا يصرخن بالليل والنهار وعلى مسامع الأخيار والأبرار، ثم لا مغيث ولا مجيب؟! 

فاللهم ليس لهم إلا أنت فانصرهم بنصر من عندك، ونجهم بقدرتك ورحمتك، اللهم وأصلح أحوال أمتنا، وردنا لمروءتنا وعروبتنا، ولديننا وأخلاقنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنَّا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلَّا أنت.

ثم تتابعت هجرة الصحابة على المدينة دار الإيمان، إذ تَبِعَ أبا سلمة عامرُ بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة. (انظر سيرة ابن هشام: 1/ 470). 

ثم عبد الله بن جحش بن رئاب مع أهله وأخيه عبد بن جحش، وهو أبو أحمد ضرير البصر، وكان يطوف مكة، أعلاها وأسفلها، بغير قائد، وكان شاعرًا، وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب. فأغلقت دار بني جحش هجرة. (انظر سيرة ابن هشام: 1/470). 

فمر بها عتبة بن ربيعة, والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها يبابًا [خرابًا خاوية]، ليس فيها ساكنٌ، فلما رآها كذلك تنفَّس الصعداء، ثم قال:

وكل دارٍ وإن طالت سلامتها ***يومًا ستدركها النكباء والحوب

[التوجع والحزن]

وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام، قد اجتمعوا إلى المدينة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هجرة رجالهم ونساؤهم: عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد بن جحش، وعكاشة بن محصن، وشجاع، وعقبة، ابنا وهب، وأربد بن حميرة. (انظر سيرة ابن هشام: 1/471: 472). 

وعندما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم، عدا عليها أبو سفيان بن حرب، فباعها من عمرو بن علقمة، فلما بلغ بني جحش صنيع أبي سفيان بدارهم، ذكره عبد الله بن جحش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : "ألا ترضى يا عبد الله! أن يعطيك الله -سبحانه وتعالى- بها دارًا خيرًا منها في الجنة؟" قال: بلى. قال: "فذلك لك" (انظر سيرة ابن هشام: 1/499). 

فيا له من عِوض هان فيه كل مفقود، إنها الجنة فإذ استحضر المؤمن عظيم ما عند الله عوضه الله إن صبر واحتسب، هكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه -رضي الله عنهم- هذه التربية الإيمانية الربانية على الصبر على مصائب الدنيا وآلامها باحتساب الأجر عند الله -عز وجل- .

ثم قَدِمَ المهاجرون أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا حتى اكتمل أمرهم. (انظر سيرة ابن هشام: 1/472). 

وكانت هجرة الفاروق -رضي الله عنه- فقد اتفق عمر مع عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وتواعدوا جميعًا أن يلتقوا عند التناضب [اسم شجرة أو موضع]، وقالوا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. قال الفاروق -رضي الله عنه- : فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحُبِس عنَّا هشامٌ، وفُتِنَ فَافْتُتِنَ. (انظر سيرة ابن هشام: 1/474). 

أما عمر فلم يخرج -رضي الله عنه- سرًّا كما خرج عياش، ولا كما خرج غيره من المهاجرين -رضي الله عنهم- بل خرج مجاهرًا -رضي الله عنه- ؛ كما قال عليٌّ -رضي الله عنه- عنه: ما علمت أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا إلَّا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عنه، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يديه أسهمًا، واختصر عنزته [وهي الحربة الصغيرة علَّقها عند خاصرته]، ومضى قِبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة. فقال: شاهت [قبحت] الوجوه لا يرغم [يذل] الله -عز وجل- إلا هذه المعاطس [الأنوف]، من أراد أن تثكله أمه [تفقده]، أو يُيتم ولده، أو تُرمل زوجته فيلقني وراء هذا الوادي، قال عليّ -رضي الله عنه- : فما تبعه أحدٌ ثم مضى لوجهه. (السيرة الحلبية: 2/ 29). 

فمن الَّذي سمَّى هجرة الفاروق نصرًا؟ وهل وقفت قريش مكتوفة الأيدي من هجرة الصحابة -رضي الله عنهم-، أم تتبعتهم؟ ومن الذي وقع في حيل المشركين، ومن الذي أنجاه الله -سبحانه وتعالى- منها؟ وماذا فعل الصحابة عامةً والفاروق خاصةً ابتغاء إنقاذ إخوانهم المستضعفين المأسورين الممنوعين من الهجرة بمكة؟ كل هذا وغيره سنعرفه بمشيئة الله تعالى في الخطبة القادمة.

 نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يُعلمنا ما يَنفعنا، اللهم زدنا علما وعملاً بدراسة سيرة نبينا وأسوتنا -صلى الله عليه وسلم-، واهدنا سبل السلام،وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين.   

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.