قصة شعيب عليه السلام

عناصر الخطبة

  1. صور لفساد أهل مدين وانحرافهم
  2. تأثير نعمة الإيمان والصلاة على شعيب والمؤمنين معه
  3. العقوبات التي حلت بقوم شعيب جزاء انحرافهم
  4. ما ترشد إليه القصة مما ينبغي أن يتحلى به الدعاة [القدوة-الإخلاص]
  5. أهمية التزام المجتمع بالأخلاق في المعاملات والمبايعات
  6. منهج شعيب في الدعوة القوية الشاملة بلا مهادنة ولا مداهنة
  7. نماذج من سير الصحابة والتابعين والأئمة المعاصرين ساروا بسيرة الأنبياء هذه
اقتباس

ومواجهة شعيب -عليه السلام- لقومه بانحرافاتهم ليست رأياً شخصياً ارتآه، أو اجتهاداً اجتهدَه، فهو عبد الله ورسوله، ليس له من الأمر شيء؛ إن هذه المواجهة أرادها الله تعالى -ونبيُّ الله ينفذ أوامر ربه التي يأمره بتبليغها لعباده- هي منهج رباني خالد لا يعتريه غموض، ولا تكتنفه تناقضات؛ وبعد آلاف السنين ما زلنا نقرأ فقَرات هذا المنهج ..

أيها المسلمون: قال الله -عز وجل- في كتابه العزيز، فيما قص علينا من قصة شعيب -عليه السلام- في سورة الأعراف: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِين) [الأعراف:85-93].

شعيب -عليه السلام- كان يسمى خطيب الأنبياء، لفصاحته وبلاغته وحسن تأديته؛ وهو أحد أربعة أنبياء عرب هم: هود وصالح وشعيب، ومحمد -صلى الله عليهم-.

أرسل اللهُ -عزَّ وجَلَّ- شعيباً إلى أهل مدين، وأهل مدين قوم عرب سكنوا مدينتهم التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز، قريباً من بحيرة قوم لوط، وتقع مدين في ممر قوافل التجارة، وكان هذا الموقع يعطيها أهمية كبيرة، ويميزها عن غيرها من المدن القريبة منها.

وكان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل، ويُخِيفون المارَّة، ويعبدون الأيكة، وهي شجرة، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص، فبعث الله فيهم رجلاً منهم هو رسول الله شعيب -عليه السلام-، فدعاهم إلى عبادة الله الواحد لاشريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة، من بخس الناس أشياءهم، وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، وحذَّرهم عاقبة الظلم، مؤكداً لهم أن ما يبقى من المال الحلالِ خيرٌ لهم من المال الذي يجمعونه من الحرام: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ) [هود:84-86].

ومن ضلال أهل مدين أيضاً أنهم كانوا يقعدون على الطرق، يرصدون الناس الذين يأتون إلى شعيب ليصدُّوهم عن سبيل الله، وكانوا يعيبون رسالته، ويهدِّدون المؤمنين، فكان شعيب -عليه السلام- يستنكر منهم ذلك، ويذكّرهم بأن الله كثّرهم بعد قلة، وأغناهم بعد فقر، ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين﴾ [الأعراف:86].

ومن صور انحرافهم –أيضاً- الاستهزاء، فقد كان القوم يستهزئون بكلام شعيب -عليه السلام-، كانوا يقولون له :هل صلاتك هذه التي تصليها هي التي أثّرت في نفسك، فجعلتك مرشداً لنا، تدعونا إلى ترك ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام، وتحثنا على الامتناع عن التصرف في أموالنا كما نريد؟ (قالوا يا شعيب أصلاتُكَ تأمرُكَ أنْ نتْركَ ما يعبدُ آباؤنا، أو أنْ نفعلَ في أمْوالنا ما نشاء، إنَّكَ لَأَنْتَ الحليمُ الرشيدُ؟) [هود:87].

إن أثر الصلاة كان واضحا في شعيب -عليه السلام-، فقد لاحظ قوم شعيب تأثير الصلاة عليه وعلى أتباعه، وكيف أنها غيّرت أوضاعهم، وأدّت بهم إلى التحرر من عبادة غير الله، وترك الغش في المكاييل والأوزان.

نعم، لقد غيرت الصلاة نفسية أتباع شعيب، لأن الصلاة تهدف إلى صنع ضمير نقيٍّ في الإنسان، فتحرك فيه مشاعر التقوى والمراقبة، وتذكّره على الدوام بيوم القيامة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].

وقد أثّرت الصلاة في شعيب وأتباعه، وجعلتهم ينكرون على مجتمعهم أفعالهم، لأنهم كانوا يصلُّون الصلاة الحقيقية، كما أرادها الله -عز وجل- ، فالذي يجعلنا لا ننكر على من حولنا ما نراه من فساد سلوكهم، هو أن صلاتنا- نسأل الله السلامة والعافية- حركات، خالية من الخشوع والطمأنينة، صلاة جوفاء، النقص والخلل فيها كثير، ولهذا تجدهم لا ينتهون عن معاصيهم، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45].

كم نحن في حاجة إلى هذه الصلاة! الصلاة التي بها يتوجه الإنسان إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فيتحرر من كل المعبودات الباطلة، ومن كل فساد استشرى وصعب علاجه! كم نحن في حاجة إلى الصلاة التي تعصمنا من الخطايا وتنهانا عن الفحشاء! وتنقلنا من هذا العالم المائج بالفتن والأوزار إلى رحاب الله.

أيها المسلمون : لقد بدأ شعيب -عليه السلام- بما بدأ به إخوانه من الأنبياء: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وربط مشكلات عصره بالعبودية: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) [هود:84] فبغير هذا الطريق لا يكون هناك إصلاح ولا عدل ولا مساواة بين الناس؛ ومثل هذه المسألة ينكرها العلمانيون ومن سار على نهجهم، فيتساءل العلمانيون عن علاقة الصلاة والصيام وعبادة الله بغلاء الأسعار والاحتكار والبطالة والرشوة؟!.

إن الذين حُرموا نعمة الإيمان يفكرون بمثل هذه الأفكار، ويرون أنهم قادرن على تحقيق العدالة الاجتماعية بما يمارسونه من قوانين ومبادئ لا علاقة لها بالإيمان والإسلام! وربما نجح بعضهم في حل مشكلة غلاء الأسعار حيناً من الزمن، ولكن هذا النجاح يكون على حساب أمور أخرى تُعَدُّ أشَدَّ خطَراً وأكثر ظلماً من غلاء الأسعار، كالاستبداد والبطش والإرهاب.

ماذا كان جواب نبي الله شعيب -عليه السلام- عندما قال له قوم: ﴿يا شعيب! أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا﴾؟ رد عليهم شعيب -عليه السلام-: (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود:88-90].

نقف قليلاً عند قول شعيب -عليه السلام- في قول الله عز وجل : ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب﴾ [هود:88] أكد شعيب -عليه السلام- لقومه أنه لا يفعل ما ينهاهم عنه، فهنا درس عظيم للمصلحين والمربين والآباء، والدعاة والوعاظ، بأن يراعي كل منهم سلوكه أشد المراعاة، يراعي كل كلمة وتصرف يصدران منه، فالسلوك يؤثر أكثر من الكلمات، فمهما صدرت من المصلح مواعظ تستهوي العقول، فلن يكون لها الأثر الفعّال في نفوس مستمعيها إذا لم يكن قائلها هو أول العاملين بمضمونها، وأول المؤتمرين بأوامرها ونواهيها.

ولهذا نجد أن الله عز وجل ذم قوماً أمروا الناس بالبر ولم يلزموا أنفسهم به فقال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:44]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كبر مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3)﴾ [الصف:2-3].

فلننتبه لهذا الأمر سواء كنت أباً في بيتك، أو مُصلحاً وداعية في مجتمعك، بألاّ تصدر منك أفعالٌ تخالف أقوالك، لأن الناس يتأثرون بالقدوة أكثر من غيرها، خصوصاً الآباء، فإذا كنت تريد -أيها الأب- من ولدك ألا يدخن مثلاً، فلا تتعاطى الدخان أمامه، وإذا كنت تريد من ولدك ألا يكذب، فتنبه ألا يصدر منك كذب ولو عن طريق المزاح، وإذا كنت تريد من ولدك أن يكون محافظاً على وقته، مُجِدَّاً في دروسه، فلا يرى أباه من الذين يسمُرون ويلهون إلى آخر الليل، لأنه من الطبيعي أن يتأثر الولد بوالده، فماذا لو كان هذا الأب من الذين لا يستحقون أن يُقتدى بهم؟ ماذا نتمنى بعد ذلك من أولادنا؟ فهل لنا من عبرة وعظة من نبي الله شعيب -عليه السلام- في قول الله عز وجل: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه﴾.

وأما الشطر الثاني من الآية: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْت﴾ ففيها درس آخر للدعاة والمصلحين في أن تكون رغبتهم في الإصلاح لوجه الله، بعيدة عن أي غرض دنيوي، أو منفعة ذاتية، وهكذا كانت أهداف الأنبياء في مراحل التاريخ، وهذا ما جعل الفوز حليفها، وهذه هي الطريق التي يجب أن يسلكها المصلح والداعية ليصل إلى النجاح.

فالإصلاح المجرد من أي غاية، ومن هوى النفس، هو الذي يكتب له في النهاية النجاح والفوز، لأن ذلك هو رسالة الحق، والحق دائماً هو المنتصر، وأما الغايات والأهواء الخاصة فكثيراً ما تفضح نفسها فتنكفىء، ويكون الخسران مآلها؛ وكيف لا تنتصر الحقيقة وهي التي مصدرها خالق الكون ومدبره؟ وهذا ما أشارت إليه الآية في ختامها: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب﴾.

أيها المسلمون: لنرجع إلى القصة، فقد هدد أكابر القوم شعيباً -عليه السلام- بإخراجه ومن آمن معه من القرية أو أن يعودوا في ملة القوم، فكان رد شعيب -عليه السلام- واضحاً لا لبس فيه: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين) [الأعراف 88: 89]

وعاد قومه يهددونه بالرجم، ويذكرون له أنه لم يمنعهم من ذلك حتى الآن إلا مجاملة عشيرته، وهو ليس ذا عزة ومنعة تحول بينهم وبين أن يقتلوه، وإنما هي المجاملة وحدها: (قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ؟ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا! إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط) [هود 91: 92]

عند ذلك جاء الأمر الإلهي بهلاك أهل مدين، جزاء عصيانهم، فنجَّى الله شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منه سبحانه، وأهلك الذين كفروا، فأخذتهم صاعقة شديدة، صاحَبَتْها زلزلة قوية، جعلتهم منكَبِّين على وجوههم صرعى، وانتهى أمرهم، وزالت آثارهم، حتى كأنهم لم يقيموا في ديارهم، قال الله تعالى : (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُود) [هود 94: 95]

وعوقبوا أيضاً بالظلة، وأهل مدين هم أنفسهم أصحاب الأيكة الذين ذكَرهم الله تعالى في كتابه، كما حقق ذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله-، فسلط عليهم أيضاً إضافة إلى ما سبق من العذاب حراً شديداً ضاقت به أنفاسهم، فخرجوا إلى البريّة لعلهم يستروحون هواءً بدل الذي هم فيه، فأرسل الله عليهم سحابة أظلتهم، وهو الذي سماه الله في كتابه بيوم الظلة، فاستبشروا خيراً من هذه السحابة، واجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فراحت ترميهم بشهب وصواعق حتى أهلكتهم وكان يوماً شديد العذاب، شديد الهول.

(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم) [الشعراء:176-191].

رأى شعيب -عليه السلام- ما نزل بقومه من العذاب والهلاك فأعرض عنهم وقال : ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِين﴾ [الأعراف:93]

أيها المسلمون: من التوجيهات المهمة التي تطالعنا بها قصة شعيب الدعوة إلى الأمانة والاستقامة في البيع والشراء، وترك الغش بالمكاييل والأوزان، والنهي عن الإفساد في الأرض، لأن ذلك يؤدي إلى سخط الله، والتعرض إلى العقوبة الشديدة، كما فعل الله بقوم شعيب الذين أهلكهم جزاء فسادهم؛ أما حذَّر شعيبٌ قومَه بقوله: (وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيط * وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين) [هود 84: 85]

إن أكثر الدول المتقدمة تحرص أشد الحرص على ضبط المكاييل والأوزان، ومراقبة السوق؛ وتُعرّض المتلاعب للعقوبة الشديدة؛ والإسلام كان له السبق دائماً في إقرار الأنظمة الصالحة للمجتمعات البشرية.

إن مسألة المكيال والميزان، والبيع والشراء، مسألة تستحق الوقوف، لأنها قضية لا تتعلق بالبائع والمشتري وحدهما، بل إن آثارها لتعود على المجتمع كله، فإن أي مجتمع لا يُوفّى فيه المكيال والميزان، ولا يلتزم كلٌّ من البائع والمشتري بأحكام الله تعالى، فإن المجتمع كله مهدد بالخطر، وعقوبة الله تعالى، كما سمعتم ما حصل لقوم شعيب، عندما لم يوفوا المكيال والميزان.

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: واجه شعيبٌ -عليه السلام- قومه بانحرافاتهم كلها دون خوف أو ضعف، وانحرافات قومه كانت لها صور وأشكال متعددة، من عبادة غير الله من الأصنام والأوثان والأهواء، وغيرها من الآلهة، إلى سوء المعاملة في البيع والشراء، وبخس الناس أشياءهم، إضافة إلى الفساد في الأرض، بكل ما تعنيه كلمة فساد من ظلم وبغي وعدوان على الأنفس والأعراض والأموال، ناهيك عن الصدِّ عن سبيل الله، حيث كانوا يجلسون في الطرقات يحذِّرون المارة من شعيب، ويتوعدون المؤمنين، ويتهددونهم.

وشعيب -عليه السلام- كان حكيماً عاقلاً، كان يعرف العقلية التي يفكر بها الملأ من قومه، كان يعلم أن ما يدعو إليه يعني سقوط النظام الفاسد، وكان يعلم بأن مواجهة الملأ بواحدة من هذه الانحرافات كافٍ لتأليب الرأي العام ضده، والسعيِ الجادِّ لنفيه من مدين أو قتله.

ومع كل هذه الأخطار المتوقعة فلقد كانت دعوة شعيب -عليه السلام- منذ بدايتها قويةً شاملة، ليس فيها هوان ولا تردد، ولا مجال فيها للمساومة وقبول أنصاف الحلول وأرباعها.

ولم يقل شعيب -عليه السلام-: فعلت وُسْعِي وكفَى، ولا بأس من مهادنة الملأ طالما تركوني ومن آمن بدعوتي نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، فلهم دينهم ولي دين.

لم يقل: كان من الأفضل مواجهتهم منذ بداية الدعوة بتطفيف الكيل والميزان، فإن استجابوا واجهتهم بمشكلة أخرى، وبمثل هذه المرحلية أحقِّقُ فوائدَ أكثر، وتكون معارضتُهم أخفَّ وطأةً، وأقل حِدَّة.

ومواجهة شعيب -عليه السلام- لقومه بانحرافاتهم ليست رأياً شخصياً ارتآه، أو اجتهاداً اجتهده، فهو عبد الله ورسوله، ليس له من الأمر شيء؛ إن هذه المواجهة أرادها الله تعالى، ونبي الله ينفذ أوامر ربه التي يأمره بتبليغها لعباده، وهي منهج رباني خالد لا يعتريه غموض، ولا تكتنفه تناقضات؛ وبعد آلاف السنين ما زلنا نقرأ فقَرات هذا المنهج في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!.

وسار الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المجددون على هذا المنهج، فواجهوا أقوامهم بانحرافاتهم، فلقد حاول الصحابة، وفي طليعتهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- إقناع أبي بكر الصديق بعدم قتال المرتدين، وكان معظم أهل الجزيرة قد ارتدوا، فأبَى الصدِّيق -رضي الله عنه-، وبيّن للصحابة أهمية الأدلة التي يعتمد عليها، وأكّد أنه لا بد من مواجهة المرتدين بما يستحقون، وكان الحق مع أبي بكر، وأدرك الصحابة جميعاً صحة أدلة الصديق، فانعقد إجماعهم على وجوب قتال المرتدين الذين امتنعوا عن دفع الزكاة.

وواجه الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- أهل الحل والعقد من بني أمية بأخطائهم وانحرافاتهم، فعزل الولاة والقادة الظالمين، ورد المظالم إلى أصحابها، ومنع سياسة التبذير والترف، وكان يعلم أنه سوف يصطدم مع أبناء عمومته وأقرب أقربائه، ومع ذلك اختار ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون من بعده.

وواجه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله المأمون بانحرافاته، ورفض السكوت عن إنكار المنكر، وآثر السجن والتعذيب والنفي والتهديد بالقتل، ولم يقبل ما قبله غيره من علماء عصره من الرُّخص، وكان -رحمه الله- وهو مكبّل بالقيود في السجن أقوى من المأمون وجيشه وقوات أمنه! لقد دحض -رحمه الله- أباطيلهم، وفنّد شبهاتهم، وأخيراً، أخذ الله المأمون والمعتصم والواثق وقادة أهل الاعتزال، ونصَر الله بالإمام أحمد السنة، وقمع البدعة والمبتدعين.

وواجه صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- الرافضة الباطنيين بانحرافاتهم، لقد كانوا عوناً للغزاة الصليبيين، ومعاول هدم داخل الصف الإسلامي، ودعاة فتنة وإرهاب، وحاولوا قتل صلاح الدين، ولكن الله نجّاه ومكّنه من قهرهم، ومن القضاء على ممالكهم، ونجح صلاح الدين في تحرير القدس وما حولها، وهزم الصليبيين بعد أن هزم عملاءهم.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فواجه مشكلات وانحرافات كثيرة في عصره، منها التعصب المذهبي، وتقديس الرجال، وواجه غلاة الصوفية، وواجه الرافضة وعموم الباطنيين، كالدروز والنصيريين، وواجه أهل الاعتزال والفلاسفة، وواجه احتلال التتار لبلاد المسلمين، فلم يهادن جهة من الجهات المنحرفة، ولا تراجَع عن حق يدعو إليه، رغبة أو رهبة.

وفضلاً عن ذلك كله فقد حقد عليه كثير من علماء عصره، وكثر حسّاده الذين كانوا يتسابقون في التزلف للسلطان، وكانوا لا يخجلون من الكذب عليه، ورميه بما ليس فيه، وكان يشفق عليهم، ويعفو عنهم عند الاستطاعة، وكان يترفع عن الصغائر، ويزهد في ملاذ الدنيا ونعيمها، ودخل السجن مرات، ومات فيه، وكان يراه من نعم الله عليه؛ وحقق ابن تيمية انتصاراتٍ رائعةً بسيفه مع التتار والباطنيين، وبقلمه مع أعداء الإسلام، ومع أصحاب البدع والأهواء، وأعز الله به عقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة.

وواجه الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- قومه بانحرافاتهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبْذ كل ما يعبدون من دونه من أوثان وأصنام لا تضر ولا تنفع، ودعاهم أيضاً إلى التمسك بالكتاب والسنة، والبعد عن التعصب المذهبي الذميم، فطاردوه، واضطر إلى كثرة التنقل من مكان إلى آخر خوفاً من بطش أعدائه، وأخرجوه من قريته، وحاولوا قتله أكثر من مرة فما زاده كيدهم إلا ثباتاً على الحق، واستمساكاً بالمنهج الذي يؤمن به، ويدعو إليه؛ وبعد جهاد طويل يسر الله له من ينصره ويأويه، فكان رحمه الله من أكبر المجددين في عصره، ونصَر الله به الحق، وأهلك خصومه.

أيها المسلمون: هذه نماذج فقط من سِير من اقتفى أثر أنبياء الله ورسله من المجددين والمصلحين، لقد كانوا جميعاً يواجهون أقوامهم بانحرافاتهم، وكانوا جميعاً ينطلقون من منهج واضح، وكانوا يقدمون لمجتمعاتهم البديل الصحيح بكل حزم وشجاعة، ولسنا مخيرين في قبول هذا المنهج أو رفضه، لأن الله تعالى أنزله، وأمرنا باتباعه، ولا يشذ عنه إلا هالك.