فاحشة الزنا

عناصر الخطبة

  1. حرص الإسلام على طهارة النفوس وسموها
  2. جريمة فاحشة الزنا
  3. آفات مصاحبة لجريمة فاحشة الزنا
  4. أسباب الوقوع في جريمة فاحشة الزنا
اقتباس

ما أقبح جريمة الزنا، إنه يبدد الأموال، وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية، ويهلك الحرث والنسل، ويُهبط بالرجل العزيز إلى هاوية من الذل والحقارة والازدراء، هاوية ما لها من قرار، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما ارتفع، إن جريمة الزنا لطخة سوداء، إذا لحقت بتاريخ أسرة غمرت كل صفحاتها النقية، إنه قبيح لا يقتصر تلويثه على فاعله، بل…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله…

أما بعد:

أيها المسلمون: جاء الإسلام حريصاً بتشريعاته على سمو الأنفس وطهارتها، ناهيا عن مواطن الرِيَب، وأماكن الخنا، فبين الحلال، وشرّف صاحبه، ونهى عن الحرام، ووضع الحدود الزاجرة لمقارفته: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[النور: 19].

أجل لقد قضت سنة الله أن الأمم لا تفنى، والقوى لا تضعف وتبلى، إلا حين تسقط الهمم، وتستسلم الشعوب لشهواتها، فتتحول أهدافها من مثل عليا، وغايات نبيلة، إلى شهوات دنيئة، وآمال حقيرة متدنية، فتصبح سوقا رائجاً للرذائل، ومناخا لعبث العابثين، وبها ترتفع أسهم اللاهين والماجنين، فلا تلبث أن تدركها السنة الإلهية بالهلاك والتدمير: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾[الإسراء: 16].

أي مسلم يرغب أن يخان في أهله؟ وأي عاقل يرضى أن يكون سبباً في اختلاط الأنساب من حوله؟ وأي مؤمن يرضى بالخيانة والخديعة والكذب والعدوان؟ ومن ذا الذي يتبع عدوه الشيطان، ويحقق حرصه على انتهاك الأعراض، وقتل الذرية؟ وإهلاك الحرث؟.

تلكم -معاشر المسلمين- وغيرها أعراض وآفات مصاحبة لفاحشة الزنا، هذه الجريمة التي جعلها الله قرينة للشرك بالله في سفالة المنزلة، وفي العقوبة والجزاء، فقال تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[النور: 3].

ويقول في الجزاء والعقوبة وهو يقرن بين الزنا وغيره من الموبقات: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)﴾[الفرقان: 69].

أيها المؤمنون -وقاني الله وإياكم الفتن والشرور-: وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، فهو سلعة غالية، وهو مكانة عالية، وهو طريق السعادة في الدنيا والآخرة، لكنه جهاد ونية، وصبر وتضحية، وضبط لزمام النفس، وتعال عن الشهوات المحرمة.

والإيمان -بإذن الله- يحرس المرء عن الوقوع في المحرمات، وهو درع يحمي صاحبه عن المهلكات، لكن الزنا -معاشر المسلمين- يخرم هذا الحزام من الأمان، ويدك هذا الحصن الحصين، وينزع هذا السياج الواقي -بإذن الله- إلا أن يتوب.

إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء من عباده، فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان، فإن تاب رد عليه.

ولا يجتمع الإيمان مع الزنا، والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".

ويقول صلى الله عليه وسلم: "إذا زنا أحدكم خرج منه الإيمان، وكان عليه كالظلة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان".

أيها المسلمون: كم أذل الزنا من عزيز؟ وأفقر من غني؟ وحط من الشرف والمروءة والإباء؟ عاره يهدم البيوت، ويطأطئ عالي الرؤوس، يسود الوجوه البيضاء، ويخرس ألسنة البلغاء، ينزع ثوب الجاه عمن قارفه، بل يشين أفراد الأسرة كلها، إنه العار الذي يطول حتى تتناقله الأجيال؟

ما أقبح جريمة الزنا، إنه يبدد الأموال، وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية، ويهلك الحرث والنسل، ويُهبط بالرجل العزيز إلى هاوية من الذل والحقارة والازدراء، هاوية ما لها من قرار، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما ارتفع.

إن جريمة الزنا لطخة سوداء، إذا لحقت بتاريخ أسرة غمرت كل صفحاتها النقية.

إنه قبيح لا يقتصر تلويثه على فاعله، بل إنه يشوه أفراد الأسرة كلها، خصوصاً إذا صدر من أنثى.

إنه يقضي على مستقبلهم جميعاً.

إنه العار الذي يطول ولا يزول، يتناقله الناس زمناً بعد زمن.

إنه الزنا، يجمع خصال الشر كلها، من الغدر والكذب والخيانة.

إنه ينزع الحياء، ويذهب الورع، ويزيل المروءة، ويطمس نور القلب، ويجلب غضب الرب.

إنه إذا انتشر أفسد نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الأوضاع، وصيانة الحرمات، والحفاظ على روابط الأسر، وتماسك المجتمع.

بانتشاره تضمر أبواب الحلال، ويكثر اللقطاء، وتنشأ طبقات بلا هوية، طبقات شاذة تحقد على المجتمع، وتحمل بذور الشر، إلا أن يشاء الله، وحينها يعم الفساد، ويتعرض المجتمع للسقوط.

أيها العقلاء: فكروا قليلا في الصدور قبل الورود، وتحسبوا لمستقبل الأيام، وعوادي الزمن قبل الوقوع في المحظور، واخشوا خيانة الغير بمحارمكم إذا استسهلتم الخيانة بمحارم غيركم، وكم هي حكمة معلمة تلك الكلمات التي قالها الأب لابنه، حين اعتدى في غربته على امرأة عفيفة بلمسة خفيفة، فاعتدى في مقابل ذلك السقّاء على أخته بمثلها، وحينها قال الأب المعلم لابنه: "يا بني دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقّاء".

ورحم الله الشافعي حيث قال:

عفوا تعف نساؤكم في المحرم *** وتجنبوا ما لا يليق بمسلم

يا هاتكاً حُرم الرجال وتابعاً *** طرق الفساد فأنت غير مُكرّم

من يزن في قوم بألفي درهم *** في أهله يزنى بربع الدرهم

إن الزنا دين إن استقرضته *** كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

لو كنت حراً من سلالة ماجد *** ما كنت هتاكاً لحرمة مسلم

من يزن يزن به ولو بجداره *** إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

وإياكم إياكم إن تلوثوا سمعتكم، وفيما قسم الله لكم من الحلال غنية عن الحرام، وتصوروا حين تراودكم أنفسكم الأمارة بالسوء أو يراودكم شياطين الجن والإنس للمكروه، تصوروا موقف العبد الصالح حين: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾[يوسف: 23].

أجل لقد رأى الصديق -عليه السلام- برهان ربه، وصرف الله عنه السوء والفحشاء، وعده في عباده المخلصين.

في مثل هذه المواقع يبتلى الإيمان، وفي مثل هذه المواقف يمتحن الرجال والنساء، وفي مثل هذه المواطن تبدو آثار الرقابة للرحمن، وهل تتصور -يا عبد الله- أنك بمعزل عن الله مهما كانت الحجب، وأياً كان الستار؟

كلا، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو الذي يعلم السر وأخفى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك: 14].

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب

أيها المسلمون: ومستحل الزنا في الإسلام كافر خارج من الدين، والواقع فيه من غير استحلال فاسق أثيم، يرجم إن كان محصناً، ويجلد ويغرّب إن كان غير محصن.

لا ينبغي أن يدخل فيه الوساطة والشفاعة.

إن بعض الأخطاء إذا وقعت من الشخص، أو فعل بعض الكبائر، أو ارتكب بعض المعاصي، فإن المصلحة في بعض الأحيان يقتضي الستر على هذا الإنسان، والتغاضي عنه، والنظر إليه بعين الرحمة، إلا الزنا، فإن الله -جل وتعالى- نهانا أن تأخذنا بالزناة رأفة في دين الله، فقال جل وتعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النور: 2].

إن الزاني لم يرحم نفسه ولم يرحم التي أوقعها في فريسته، ولم يرحم الأسرة التي منها ولا أسرة التي زنى بها ولم يرحم، كذلك المجتمع المسلم الذي يعيش فيه وفوق هذا تجرأ على محارم الله، وخالف شرع الله، فكان لا يستحق الرحمة.

أيها المسلمون: وإذا كان ما مضى جزء من شناعة وعقوبة الزنا في الدنيا، فأمر الآخرة أشد وأبقى.

ولو سلم الزناة من فضيحة الدنيا، فليتذكروا عظيم الفضيحة على رؤوس الأشهاد، هناك تبلى السرائر، ويكشف المخبوء، وما لإنسان حينها من قـوة ولا ناصر، بل إن أقرب الأشياء إليه تقام شهودا عليه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[يس: 65].

وهل تغيب عن العاقل شهادة الجلود؟ وهل دون الله ستر يغيب عنه شيء وهو علام الغيوب؟: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ(23)﴾[فصلت: 21-23].

عباد الله: ولا يقف الأمر عند حد الفضيحة على الملأ مع شناعته، بل يتجاوز إلى العذاب وما أبشعه؛ جاء في صحيح البخاري وغيره عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- في الحديث الطويل في خبر منام النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن جبريل وميكائيل جاءاه قال: فانطلقا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب صاحوا من شدة الحر، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الزناة والزواني، فهذا عذابهم إلى يوم القيامة".

أيها المسلم: وفي يوم عظيم أنت فيه أشد حاجة إلى الظل تستظل به من حر الشمس، حين تدنو من الخليقة، والعرق يلجمك على قدر عمالك، هل علمت أن من أسباب ظل الله للعبد يوم لا ظل إلا ظله: البعد عن مقارفة الزنا؟

وتصور عظمة الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله".

أيها المسلمون: إن عذاب الله شديد، وعقابه أليم، وهو يمهل ولا يهمل، فلا تؤخذوا بالاستدراج، ولا ينتهي تفكيركم عند حدود الحياة الدنيا، فإن يوماً عند ربكم كألف سنة مما تعدون.

ولو عدنا مرة أخرى للدنيا لوجدنا من الزواجر والروادع غير ما مضى ما يكفي للنهي عن هذه الفاحشة النكراء، فالأمراض المدمرة يجلبها الزنا.

وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقبل على المهاجرين يوماً، فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن" فذكر منها: "ولم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم".

وهنا نحن اليوم نشهد نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المجتمعات التي ينتشر فيها الزنا، فما ذنب المجتمع في أن ينتشر فيه الأمراض؟!

ذنبه، أنه لم يقاوم تيار الفساد، ولم يقاوم ولم يغير الأسباب التي تؤدي إلى انتشار الزنا.

ذنبه، أنه لم يأمر بالمعروف ولم ينهى عن المنكر.

ذنبه، أنه يقاوم تيار الصلاح، ويعترض على نشاط الدعوة والاستقامة، ويمنع من كثرة الخير، وبروز الدين، فكان ذنب هذا المجتمع أن يذوق مرارة الوجع مع الزناة والزواني الذين أصابهم الزهري والسيلان، وأمراض العصر الشهيرة من الإيدز، وغيرها التي هي ولدية القاذورات.

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الخزي والعار

تبقى عواقب سوء من مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً…

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه…

أما بعد:

أيها المسلمون: وليس شيء يقع إلا وله أسباب، ومعرفتنا بالأسباب والعوامل المؤدية لفاحشة الزنى تضع أيدينا على الداء، والوقاية منها، وسد الطرق الموصلة إليها، يكمن فيها العلاج والدواء، والعاقل من وعى هذه الأسباب، وأبعد نفسه عن مخاطرها، وتأمل طرق العلاج، وألزم نفسه فيها.

وأول الأسباب المؤدية للزنا: ضعف الإيمان واليقين، فإذا ضعف هذا العامل نسي المرء، أو تناسى الوعد والوعيد، وأمن العقوبة، وتباعد الفضيحة، وقل في حسه ميزان الرقابة، وانحسر الخوف من الجليل.

السبب الثاني: النظرة المحرمة، إذ هي سهم من سهام الشيطان، تنقل صاحبها إلى موارد الهلكة، وإن لم يقصدها في البداية، ولهذا قال الله -تعالى-: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ(31)﴾[النور: 30-31].

وتأمل كيف ربط بين غض البصر، وحفظ الفرج في الآيات، وكيف بدأ بالغض قبل حفظ الفرج؛ لأن البصر رائد القلب.

وفي السنة بيان لما أجمله القران في أثر النظرة الحرام؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان، وزناهما النظر".

فاتقوا -يا عباد الله- زنا العينين، وكم نظرة محرمة قادت إلى نظرات أخرى، وقادت النظرات إلى همسات، ثم إلى مواعيد ثم إلى لقاء، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها **** فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحبا بسرور جاء بالضرر

السبب الثالث من الأسباب الداعية للزنا: كثرة خروج النساء وتبرجهن، وتكسرهن في المشية وإلانتهن القول، فهذه وتلك فواتح للشر تُطمع الذي في قلبه مرض، وقد نهى الله نساء المؤمنين عن ذلك كله حماية لأعراضهن، وصونا لغيرهن عن مواطن الريَب،قال الله -تعالى-: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾[الأحزاب: 33].

ويقول تعالى مخاطباً نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهن من باب أولى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾[الأحزاب: 32].

إن مما يؤسف له أن تملأ نساء المسلمين الأسواق العامة، وأن تظهر المرأة بكامل زينتها، وأن ينزع الحياء منها فتخاطب الأجانب، وكأنما هم من محارمها، وربما ساءت الأحوال، فكانت الممازحة والمداعبة، وتلك وربي من قواصم الظهر، ومن أسباب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.

السبب الرابع: استقدام الخدم والسائقين، تلك المصيبة التي عمت وطمت، وامتلأت بها البيوت لحاجة ولغير حاجة، واعتاد الرجال على الدخول مع النساء المستخدمات وكأنهن من ذوات المحارم، وربما تطور الأمر عند الآخرين، فجعلها تستقبل الزائرين، وتقدم الخدمة للآخرين، وليس أقل من ذلك إتاحة الفرصة للسائقين الأجانب بدخول البيوت دون رقيب.

إن أحداث الزمن وواقع الناس يشهد بكثير من الجرائم والفواحش من وراء استقدام السائقين والخدم، ولكن التقليد الأبله، والثقة العمياء، ربما حجبت الرؤية عند قوم، وأصمت آذان آخرين.

السبب الخامس من الأسباب الداعية لفاحشة الزنا؛ سماع الغناء والخنا، والعكوف على مشاهدة المسلسلات الهابطة، والنظر إلى الأفلام الخليعة، تلك التي تبثها وسائل الإعلام بمختلف قنواتها.

إن هذه المشاهد المؤذية تروض البنين والبنات على الفحش، وتذهب عنهم ماء الحياء، وإذا نزع الحياء من أمة فقد تُودّع منها.

وإني لأعجب كيف لكلمات الآباء وتوجيهات الأمهات أن تصل إلى الأولاد، وهم يستقبلون كل يوم عشرات المشاهد والكلمات التي تنسخ بالليل ما سمعوه منهم بالنهار، ويظل الشيطان بالإنسان يغريه ويغويه، حتى ينتقل به من مرحلة إلى أخرى.

أما ما تحويه هذه الدشوش من بلاء وفتنة، وما تحمله من سموم مبطنة، فتلك آخر ما يفكر فيها، وأما ما تحمله هذه المادة المبثوثة من غزو للأفكار، فهي أمور مقصودة، ومن تدمير للأخلاق مبرمجة ومدروسة، فذلك ما تغيب عن باله في سبيل اللذة الآتية، والنهم في معرفة ما لدى الآخرين.

ومن العجب: أنك لا تجد أحدا حين المناقشة يخالفك الرأي في الأثر السيئ لسماع الغناء والخنا، والنظر إلى المشاهد المثير للغرائز والعواطف، في أي وسيلة وعبر أي قناة، ومع ذلك تحس بالإصرار على الخطأ أحيانا، وتحس بالتجاهل لنتائج الدراسات العلمية لهذه البرامج على النشء مستقبلا، والقضية ضعف في اتخاذ القرار، وانشطار في القوامة بين الرجل والمرأة في البيت.

السبب السادس: السفر للبلاد الإباحية باسم السياحة في الصيف، والتردد كثيراً على البلاد التي ينتشر فيها الفساد، وتُعلن الرذيلة، أسباب جالبة لوقوع الزائر في الشراك، وإن لم يقصدها، وضعف رقابة الآباء والأمهات على البنين والبنات، وضعف التوعية في مدراس البنين والبنات عن مخاطر جريمة الزنا، كل هذه وتلك إذا وجدت، فهي أسباب من الأسباب المؤدية إلى الزنا -نسأل الله السلامة لنا ولسائر المسلمين-.

ويبقى بعد ذلك دور الجهات المسؤولة في تنفيذ الأحكام، فلا تأخذ المسؤول لومة لائم في تطبيق الحدود وإقامة شرع الله كما أمر، فالله -تعالى- يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وبعض الناس يخيفه عذاب الدنيا، ويخشى العار من الخلق أكثر من خوفه من عذاب الله، وخشيته من الفضيحة في الدنيا من الفضيحة الكبرى، وهؤلاء لا تردعهم إلا القوة، ولا يصلح معهم الضعف والمسامحة، والله -تعالى- وهو أرحم الراحمين، يقول في تطبيق الحدود على الزناة: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾[النور: 2].

اللهم رحمة…