خطبة عيد الفطر لعام 1433هـ

عناصر الخطبة

  1. ما أرق نسمات العيد
  2. هنيئًا للمحسنين ولا قنوط ولا يأس للمذنبين
  3. سعة الأمل في رحمة الله وإحسان الظن به
  4. العالم يموج بالفتن
  5. طريق الإصلاح الحقيقي
  6. فنون مناقشة العقول المتخمة بالأفكار المتناقضة
  7. آلام الأمة المحمدية
  8. من أعظم معاني العيد
  9. يوم العيد يوم للتصافي والتصالح والتزاور والتحاب والتواد
اقتباس

إن من أعظم معاني العيد: جمع القلوب، ورأب الصدع، وصفاء النفوس، والعيد فرصة ومناسبة سعيدة للتسامح، والعفوُ ومراجعةُ النفس، وهذه صفة للنفوس الكبيرة، وبيننا الآن أزواج متخاصمون، وإخوان متهاجرون، وأقارب وأرحام لا يتزاورون حتى في العيد السعيد، فندائي في هذا اليوم السعيد لكل متخاصميْن: تسامحا وتصالحا؛ فـ”لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ ..

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.. الله أكبر عدد قطر الأمطار، الله أكبر عدد ورق الأشجار، الله أكبر ملء القفار والبحار، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الحمد لله عدد خلقه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، ورضا نفسه. الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على الصفي المصطفى، والخليل المجتبى، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم واقتفى.

عباد الله: ما أروع هذا الصباح، وما أرق هذه النسمات، وما أجمل هذه البسمات، ولِمَ لا نبتسم ونفرح، واليوم يوم عيد، فيا لله كم مقبول منا الآن، وكم من معتق منا من النيران، كم منكم من صام إيمانًا واحتسابًا فغُفرت له الذنوب، وكم من قائم إيمانًا واحتسابًا فانقشعت الغيوم عن القلوب، يا الله ما أعظم هذا الصباح!! وهنيئًا لكم بهذا الانشراح فقد صمتم وقمتم رمضان ففزتم بالقبول والجنان، أبشروا في يوم يرضى به الله، أبشروا -عباد الله- في يوم يباهي بكم الله، أبشروا -إخوة الإيمان- فاليوم توزع جوائز رمضان، فأبشروا وأملوا، وأحسنوا الظن بربكم، فهذا هو يوم الجزاء، يوم إعطاء الأجير أجره، يوم الوفاء، يوم يقول الله -عز وجل- لملائكته: "يا ملائكتي: ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟! فيقولون: إلهنا أن توفيه أجره، فيقول: إني أشهدكم أني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني ورضيت عنكم". رواه ابن حبان والبيهقي.

فيا لها من بشارة إن كنا هذا الصباح ممن قيل لنا: "انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني ورضيت عنكم". (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر 17- 18]، فأبشروا يا من تنافستم وصمتم وقمتم رمضان، أبشروا فربكم كريم، يعطي الجزيل، ويغفر الذنب العظيم: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].

فاللهم رحمتك نرجو في هذه اللحظات، فعبادك بزينتهم حضروا بين يديك، قلوبهم وجلة، ونفوسهم منكسرة، واثقون بمغفرتك، طامعون بجنتك، يا رب: أنفس وأنفاس اجتمعت هذه الساعة، ترجو رحمتك وتطمع بالقبول، وتعترف بالتقصير، وتخشى عذابك، فرحماك رحماك بنا، وتقبل اللهم منا، وارض اللهم عنا، وأعطنا برحمتك ولا تحرمنا.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

إخوة الإيمان: ها أنتم تشاهدون وتسمعون العالم كله من حولنا يموج، حرب وقتل وثورات، ونكبات مالية وفتن واضطرابات، وبلادنا -بفضل الله- تنعم بالأمن والأمان، والسلامة والإسلام، ورغد العيش والاطمئنان: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ [العنكبوت67]، إنها آيات القرآن يا أهل الإيمان ﴿أوَلَمْ نُمَكّن لّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ رّزْقاً مّن لّدُنّا وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 57]، فاشكروا الله كثيرًا، واحذروا فجاءة نقمته، احذروا تحوّل عافيته، احذروا زوال نعمته، فليس بيننا وبين الله نسب، بل إيمان وتوحيد: ﴿الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، والظلم هنا الشرك كما فسره النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعضوا بالنواجذ على نعمة الإيمان والتوحيد ونبذ الشرك، وتواصوا بها، فوالله لا نعلم غيرها سببًا لنجاة سفينتنا، ولهذا التكاتف والتلاحم بين الراعي والرعية.

فلنأخذ بأسباب النجاة ونتواصَ بها، ومن أهمها: العدل والإيمان، ورد المظالم واحترام حقوق الإنسان، فالظلم وبخس الناس حرياتهم وحقوقهم آثاره السيئة تعم أمن ورخاء الجميع، فمَن للمظلومين؟! ومَن يرحم الضعفاء من عامة الناس من الغلاء ولهيب الأسعار؟! ومَن لوضع حد للفساد والمفسدين، مَن يُعين المرضى والمنكسرين؟! مَن يقف بوجه المحسوبيات والرشاوي التي عمّت وطمّت؟! مَن ينتصر للمظلومين؟! مَن ينتصر لشباب الوطن المساكين الذي يحلمون من سنين بقطعة أرض انتهبها الهوامير من أحلامهم؟! مَن يُخطط ويفكر بإيجاد مشاريع آمنة للاستثمار بدل أكل أموال الناس بالباطل من الهوامير المسعورة، وغير ذلك مما يحتاج الناس والمجتمع لإصلاحه حقًا!!

فهيا لنتعاون ونتناصح ونبذل المستطاع لإصلاح سفينتنا قبل أن تغرق، هيا بعيدًا عن النجوى وملء الصدور وإيغار النفوس، فشتان بين من عرف حاجات الناس وحقيقة الإصلاح وسعى لها، وبين من ظن الإصلاح مجرد شعار لبيانات أو مقالات، أو ظن الإصلاح تبعية وتقليدًا وانفتاحًا، فاحذروا -معاشر المسلمين- فليس كل من امتطى صهوة الإصلاح مصلحًا، ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220].

فإن أردنا أن نعيش بأرضنا بسلام وأمن وإيمان فلنكن عونًا بصدق وإخلاص ومناصحة لولاة أمرنا، ولنسعَ ونعمل لبناء وطن شرفه الله بالحرمين الشريفين، وبمنبع رسالة التوحيد، ليكون وطنًا إسلاميًّا حضاريًّا نظيفًا يسوده العدل والحرية وإعطاء الحقوق وإنصاف المظلوم، فالإصلاح الحقيقي قدوةٌ ومسؤوليّةٌ، وتفاعلٌ وجديةٌ، وليس مجردَ دندنات إعلامية، أو تغريدات تويترية.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

أمة الإسلام: منذ أكثر من عام والأحداث تتوالى، والمتغيرات تتسارع، ثورات متتالية، وسقوط عروش وفراعنة، وهلاك طغاة وجبابرة، وآثارها السياسية والاجتماعية تتفاعل وتتسارع على مدار الساعة، زاغت فيها عقول وأبصار، وفيها عظات واعتبار لأولي الأفكار والأبصار، وحديثها يطول، لكن أحداث الساحة اليوم بين طياتها بشائر، وهي فرصة كبيرة للأخذ بزمام المبادرة، فأين المصلحون حقًّا؟! بل أين الملايين من الطاقات والمواهب والمتخصصين؟!

أيها المسلمون: لنغتنم الفرصة، فالأوضاع تقول: إما أن نكون أو لا نكون، فماذا نحن فاعلون؟! فتعالوا -أيها الجادون- لنستثمر ما في العيد من معانٍ لإعادة البناء، ولعل أعظم المعاني: أن نحافظ على الأصل الأصيل الذي هو: الاجتماع والائتلاف وإن فات بسببه شيء من الفروع، فكفانا تنازعًا وافتراقًا، فإن ما يجري من أحداث ونوازل في الأمة الآن فرص للاستثمار تحتاج لمبادرات من عقول كبار، فالعاقل الذي يعرف خير الخيرين فيأتيه، وشر الشرين فيتركه، فالأحداث امتحان لحقيقة الإخلاص والإيمان، ففي الآية التاسعة والسبعين من آل عمران، يقول الرحمن: (مَا كَانَ الهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطيّبِ) [آل عمران: 79]، فهي السنة الربانية في تمايز الصفوف والنفوس، فأظهرت الأحداث المؤمن الصابر من المنافق الفاجر، وفي الوسط بينهما يحتار الكثير من مرضى القلوب المتذبذبين حتى يُنعم الله على من يشاء منهم بشفاء القلب والرجوع للصف، ويهلك من هلك عن بيّنة: ﴿مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطيّب﴾ [آل عمران: 179]، إذًا فالأحداث ابتلاء أظهر المخفي وأبان عمن في قلبه مرض، مرض أطماع وأهواء، أو مرض شهوات أو شبهات، أو مرض تنطع أو تمييع.

فيا أيها المهتزون: اثبتوا، يا أيها المضطربون: استعينوا بالصبر والصلاة، واعزموا لأي اتجاه بوصلتكم: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141]. فتأملوا آيات القرآن، وأنصح نفسي وإخواني في هذه الأوقات بكثرة تدبر قصص الأنبياء وأحداثها، فقد رسمت المخرج للطريق الصحيح، فوالله كأنها حية تسعى في واقعنا، فخذوا العبرة وسيروا على هداها إن أردتم حقًّا النجاة واليقين، وسلامة المعتقد والدين: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89)﴾ [المؤمنون: 84- 89].

لـك فـي البرية حكمة ومشيئة *** أعيت مذاهبـها أولي الألباب إن شئت أجريت الصحاري أنهرًا *** أو شئت فالأنهار موج سراب

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

أيها المسلمون: إن فهم حقيقة التكبير تقود للتعظيم، الذي يقود لسلامة المعتقد وصحة المنهج والثبات في زمن الاضطرابات الفكرية والمنهجية، والتي تتزايد وللأسف لتطفو على السطح وتتضح وتظهر بتوجس عبر مواقع التواصل الاجتماعي من تويتر وفيس بوك ونحوه، تُذكيها جلسات وشبهات وفلسفات في الزوايا والخبايا، حتى سمعنا وقرأنا وجلجلت بالآفاق عن البعض تشكيكه بمسلّمات الدين، وهمزه بثوابت العقيدة، بل وصل عند البعض التشكيك بوجود الله الكبير العظيم وبوحدانيته، والسخرية بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- وبسنته!!

يا الله!! عقول نابتة من مجتمعنا، وأفكار ناشئة من حاراتنا ومنتدياتنا، ووالله كم تأخذني الدهشة في سكوت الأخيار والعلماء والعقلاء عن هذا الموضوع رغم خطورة الأفكار وجرأتها في ذات الإله سبحانه، ثم لم نسمع معالجة لهذه الفتنة حتى الآن سوى الصخب والسباب ولغة الشدة والتهديد والعتاب، ما يزيد الطين بلة ويصب النار على الزيت، ويزيد الفُرقة والتنازع، حقيقة لم نر وللأسف حتى الآن مشروعًا مجتمعيًّا فكريًّا يتصدى لهذه الأفكار برفق وفكر ومطارحة وإقناع، فكثير من العقول متخمة بأفكار متناقضة، وهم أولادنا وبناتنا ولهم حقوق علينا، فأين البرامج والخطط التي أُعدت لحلحلة هذه الأفكار، بعلم وفكر وحوار؟! وأين معالجة الهوى ورغبات النفس المريضة بطرق ووسائل إيمانية محببة رفيقة شفيقة بهؤلاء، فمن رجع فالحمد الله، ومن عاند وكابر فلنلزمه أحكام الشريعة وحدودها.

لقد غفونا طويلاً عن هذه الأفكار يوم كانت مجرد نوازع إلحادية وأفكار فلسفية تُذكيها وتغذيها ثورة علمانية على مبادئ الإسلام وثوابته، باسم الحوار واحترام الآخر تارة، وباسم الحرية الإعلامية والصحفية تارة، وباسم الفن والأدب والثقافة تارة، وباسم الانفتاح والتحضر وحرية الرأي تارة أخرى، وكلها مسميات معسولة، عناوين خلابة ساحرة منبعها الحكمة والوسطية والأدب والحضارة، لكن لا يمكن أبدًا أن يُقبل لبس الحق بالباطل، فإلى متى سيستمر سكوت الصالحين والقادرين من العلماء والمفكرين، والعقلاء والغيورين ممن يملكون العلم والوعي في الدين، ومع قدرتهم على الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، بل وإبداعهم في عرض الحجة الدامغة والدليل الحسي القاطع، إلى متى سكوتكم؟! فتأخير البيان عن وقت الحاجة خيانة لأمانة العلم، فكيف والمساس هنا بالعقيدة، كيف والضحايا تتزايد، شباب بأعمار الزهور يترنحون على جنبات الطريق: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187].

فهيا لنقوم بالبيان، هيا لاستيعاب هؤلاء المتأثرين المشككين قبل فوات الأوان، هيا لنصبر على جدالهم بحب، ولتتسع صدورنا لشبهاتهم برفق قبل أن تتلقفهم عقول فتزيد الطين بلة، اللهم فاشهد، اللهم إني بلغت.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر.

معاشر المسلمين: إن من أعظم معاني العيد: جمع القلوب، ورأب الصدع، وصفاء النفوس، والعيد فرصة ومناسبة سعيدة للتسامح، والعفوُ ومراجعةُ النفس، وهذه صفة للنفوس الكبيرة، وبيننا الآن أزواج متخاصمون، وإخوان متهاجرون، وأقارب وأرحام لا يتزاورون حتى في العيد السعيد، فندائي في هذا اليوم السعيد لكل متخاصمين تسامحا وتصالحا؛ فـ"لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ". رواه أحمد وأبو داود.

ندائي لكل أقارب وأرحام لا يتزاورون في هذا اليوم السعيد: كونوا كبارًا وتواصلوا وتسامحوا، وخيركم الذي يبدأ بالسلام؛ فـ"مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ". كما عند أبي داود.

هيا فخيركما الذي يبدأ، تسابقا وبادرا، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف يؤتيه أجرًا عظيمًا: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]، ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]، فهيا لعل الله أن يغفر لكما، أن يتقبل منكما، أن تنالا جائزةً عظيمة في هذا اليوم فيعتقكما من النار.

هيا يا كل قريب وصديق للمتهاجرين: كن عونًا للإصلاح بينهما، ابذل سعيك وجهدك، فإصلاح ذات البين أعظم العبادات وأعظم أجرًا، خاصة اليوم، فأتمم إحسانك، واختم رمضانك بمثل هذه العبادة العظيمة، واستعن بالله ولا تعجز، فهجر المسلم لأخيه أمر عظيم.

ولنتق الله عباد الله، ولنحرص على استثمار هذه المناسبة لجمع الكلمة، وتوحيد الصف، فلا تهاجروا ولا تدابروا، بل تواصلوا وتزاورا، وتعلموا -أيها الكبار- من الصغار، فالصغار في العيد كالفراشات يطيرون، يفرحون، يبتسمون، ويلعبون، يتخاصمون ويغضبون، وفي لحظة يتصافون ويضحكون، صفاء قلوبهم كصفاء ثيابهم بل أصفى، نظرتهم للدنيا كبراءة عيونهم بل أنقى، فهلاّ تعلمنا من مدرسة الصغار، هل يتعلم منها الكبار معنى العيد السعيد، قناعة ورضا، وابتسامة وصفاء، وحب وإخاء، وفرح ولقاء.

ألا فاتقوا الله عباد الله، تصافوا، اهنَؤوا بعيدكم، واشكروا الله على ما هداكم، اللهم في هذه اللحظة صفِّ نفوسنا، وطهر قلوبنا، واجمع بين كل متهاجريْن، واجمع بين قلبيهما على خير، وألف بينهما، اللهم اجمع القلوب على الألفة والمحبة، والتناصح والتغافر، إنك على كل شيء قدير، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر ما أشرق قلب بالإيمان وأزهر، الله أكبر أضعاف ذلك وأكثر.

أيها المسلمون: تدخلون الأسواق وتشترون، وتتبضعون من كل شيء وتحملون، أفلا تتفكرون، فالناس ينسجون وأنتم تلبسون، والناس يُنتجون وأنتم تركبون، والناس يزرعون وأنتم تأكلون، أفلا تتقون الله وتشكرون، فقد ابتلاكم بالعافية لينظر أتشكرون وتتركون المعاصي وتستغفرون؟! اشكروا الله حق شكره، اشكروه حقيقة الشكر بفعل الخيرات وترك المنكرات، فإن الشكر ترك المعاصي، فعظموه في هذا العيد: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

ومن تعظيمه: اجتناب مجالس اللهو المحرم من غناء ماجن، فالبعض يظن أن العيد بدونه ليس له معنى، فاتقوا الله واجتنبوا الغناء فهو منبت للنفاق ومفسد للأخلاق، ومعصية للخلاق، أطفأ نور الإيمان، وحلّ محل القرآن، وأصاب القلوب بقروح وجروح، وأفقدها لذة الروح، جردها من عبادة الواحد المعبود، وأذلها بعبادة الوَتَر والعود.

فيا سامع الغناء: إياك والعناد، أو القول بغير علم أو رشاد، شتان بين أن تعصي الله وأنت معترف بالضعف والتقصير، وفي قلبك ندم وتكدير، وبين أن تعصي الله ثم تحاول أن تحل ما حرم، فتلوي أعناق النصوص وأقوال أهل العلم لموافقة هواك. ثم هب أخي أن الناس كلهم أفتوك بالجواز والتحليل، وهب أنه لم يأتِ فيه النص والدليل؟! ارجع إلى عقلك، إلى الاستنباط، إلى التعليل، ألست ترى آثاره باليوم والأمس، أليست أوضح من أشعة الشمس، سبحان الله!!

يقولون: اختلف العلماء في حكم الغناء، ولو ترك هؤلاء حظوظ النفس والهوى، ونظروا نظر العقلاء، ماذا يُحدث في النفوس، يُشعلها حربًا ضروسًا، أليس يُشغل قلب من أقبل عليه؟! أليس يفتن قلب من استمع إليه؟!

يا سامع الغناء: ألم تعلم أن آلافًا من أهل الطرب والألحان، اجتمعوا على مصباح الإيمان، ليطفئوه برقية الشيطان، فتنبه قبل فوات الأوان، تنبّه قبل أن تنقل من اسم ما زال إلى خبر كان، والعاقل لا ينظر للهالك كيف هلك، وإنما للناجي كيف نجا، فاتق الله في سمعك، فحسبك قول الله: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].

أقف هنا ولا أُطيل في المسألة، فوالله لو لم يكن في الغناء إلا أنه يُشغل عن الله، وعن ذكر الله، لكفى به مصيبة، فكيف وهو من أعظم أسباب الغفلة وقسوة القلب؟! وأخيرًا: أجب نفسك بصراحة: أتحب أن يُختمَ لك بالغناء والألحان، أم بالأذكار والقرآن؟!

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

أيها الآباء، أيتها الأمهات: قبل أن يتدفق منكم نهر الحنان، بقبلة العيد لثمرة فؤادك الآن، تذكر أطفال سوريا وبورما وفلسطين، فصغارنا في العيد: ثوب جديد، وألعاب ونشيد، وبين أم وأب وعيش رغيد، يلعبون بالألعاب النارية، وصغارهم في العيد: تلعب بهم المدافع والصواريخ النارية، خوف شديد، وجوع فريد، وهمٌّ بعيد، وجروح وصديد، وقتل وتشريد، نحن نقول لصغارنا: عيد سعيد، ولسان حال الصغار هناك يقول:

غِبْ يَا هِلالْ.. إنِّي لأَخْشَى أَنْ يُصَيبَكَ حينَ تَلْمَحُنَا الخَبَالْ. قالُوا ستجلبُ نَحْوَنَا العِيدَ السَّعيدْ.. عيدٌ سَعيدْ؟! والأرضُ مَا زَالَتْ مُبَلَّلةَ الثَّرَى بِدَمِ الشَّهِيدْ.. والحَرْبُ مَلَّتْ نَفْسَهَا وَتَقَزَّزَتْ مِمَّنْ تُبِيدْ.. عيدٌ سعيدٌ في قُصُورِ المُترَفِينْ.. عيدٌ شقيٌّ في خِيَامِ اللاجِئِينْ.. هَرِمَتْ خُطَانَا يا هِلالْ.. وَمَدَى السَّعَادَةِ لَم يَزَلْ عَنَّا بَعِيدْ.. غِبْ يَا هِلالْ.. لا تأتِ بالعِيدِ السَّعيدِ مَعَ الأَنِينْ.. أَنَا لا أُريدُ العِيدَ مَقْطُوعَ الوَتِينْ.. أتَظُنُّ أنَّ العِيدَ فِي حَلْوى وأَثْوَابٍ جَدِيدَةْ؟! أتَظُنُّ أنَّ العِيدَ تهنئةٌ تُسطَّرُ فِي جَريدَةْ؟! غِبْ يا هِلالْ.. واطلعْ عَلَينَا حِينَ يَبْتَسِمُ الزَّمَنْ.. وتَمُوتُ نِيرَانُ الفِتَنْ.. اطلُعْ عَلَينَا بالشَّذَى.. بالعِزِّ بالنَصْرِ المُبينْ.. اطلعْ عَلَينَا بالْتِئَامِ الشَّمْلِ بَيْنَ المُسلِمِينْ.. هَذَا هُوَ العِيْدُ السَّعيدْ.. وسواهُ لَيْسَ لَنَا بِعِيْدْ.. غِبْ يا هِلالْ.. حتَّى تَرَى رَايَاتِ أُمَّتِنَا تُرَفْرِفُ فِي شَمَمْ.. فُهناكَ عِيدٌ.. أيُّ عِيدْ.. وهُناكَ يَبتَسِمُ الشَّقِيُّ مَعَ السَّعِيدْ.

ونحن نقول -ثقة بالله وتفاؤلاً-: لا تغب يا هلال، بل سيجمع الله لنا بين عيدين: عيد الفطر وعيد النصر، مهما كانت الأحزان والآلام، في سوريا أو بورما أو فلسطين أو في أي مكان من بلاد الإسلام، بل سيجمع الله لنا بين عيدين: عيد فطر وعيد نصر، وسنكبر تكبيرتين: تكبيرة العيد وتكبيرة النصر.

لا يفزعنك هول خطب دامس *** فلعـل في طياته ما يسعد لـو لم يمد الليل جنح ظلامه *** في الخافقين لما أضاء الفرقد

فلن يغتالوا فرحة عيدنا، ففرحة العيد في قلب المسلم لها طعم خاص لا تفسدها الآلام والأحزان، فرحة العيد في سوريا تحرك المزيد من الأمل وتشع صبرًا وقوة، فرحة العيد تسكن الألم وتبعث الأمل، ألا ترون كيف هم يباركون بالعيد ويفرحون به تحت أزير الطائرات وأصوات المدافع، فلن يغتالوا فرحة عيدنا وإن كنا نتوجع، وإن كنا ندمع، فإننا نطمع، بأن الله يجمع، عيد فطر وعيد نصر، وليس ذلك على الله بعزيز، بل نثق بأنه قريب قريب، فالأحداث مثيرة، والبشارات كثيرة، وإن لم يكن هذا ولا ذاك فنحن بين حسنيين: إما النصر أو الشهادة، فَلِمَ لا نفرح فكلاهما عيد لنا وفرحة وبشارة!! إنهم لا يعرفون روعة وحلاوة عقيدتنا، فقسمًا بربنا، لن يغتالوا فرحتنا، إنها عقيدتنا، فليصنع الأعداء ما شاؤوا: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: 59]، فاللهم عجّل بالفرج لهم، واشف صدور المؤمنين بنصر مبين، اللهم عجل بوعدك وموعدك يا رب العالمين.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

معاشر النساء: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ"، وصلاحكن صلاح للبيوت والأولاد، بل صلاح للأسر وللمجتمعات، فاحذرن دعاة التبرج والسفور، وتعاونّ في مجالسكن على البر والتقوى، وتناصحن بالمعروف، واتقين الله في أنفسكن، واحفظن حدوده، وارتقين بالهمة والهم، والفكر وفن تربية الأولاد والبنات، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله.

نسأل الله لكن العون والتوفيق، اللهم احفظ نساء المسلمين، ومن أرادهن بسوء فاجعل تدبيره تدميرًا عليه، اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان يرجون ثوابك وفضلك، ويخافون عذابك، اللهم حقق لنا ما نرجو، وأمَّنا مما نخاف، اللهم تقبل منا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم تقبل منا رمضان، وتقبل منا الصيام والقيام، وسائر الأعمال، اللهم اجعلنا ممن نال أجر ليلة القدر. اللهم إن قلوبنا تشقق، ودموعنا تدفق على فراق شهرنا، فاجبر اللهم كسر قلوبنا، وأعده علينا أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن بصحة وعافية، وأمة الإسلام في عزة وتمكين.

عباد الله: اتقوا الله، وتمتعوا بما أباح لكم من الطيبات، واشكروه عليها، فإن العيد السعيد عبادة وتوحيد، وشكر لرب مجيد، العيد السعيد ابتسامة وصفاء، وحب وإخاء، ولقاء وتجديد، الشكر سبب لدوام النعم، وكفره سبب لزوالها، فاشكروه فحافظوا على صلاتكم، وأتبعوا رمَضان بستٍّ من شوّال، فهو كصيام الدّهر، وأكثروا من الاستغفار لترقيع الغفلة والتقصير، اللهم اغفر لنا تقصيرنا، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في سوريا وبورما وفلسطين، وفي كل بلاد المسلمين، اللهم آمن خوفهم، واربط على قلوبهم، واحفظ دينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.

اللهم فرج هم المهمومين، وكن للأرامل واليتامى والمساكين، والمحصورين والمشردين، اللهم رُدَّ عنهم كيد الكائدين، وعدوان الغاشمين، واقطع دابر الفساد والمفسدين، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم ألف بين قلوبهم وقلوب رعيتهم، واجمع كلمتهم على التوحيد يا رب العالمين.

معاشر الإخوة والأخوات: من القلب أزفّ إليكم أجمل التهاني بالعيد السعيد، فعيد سعيد، وكل عام أنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.