البحث

عبارات مقترحة:

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الخلاق

كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...

بَيْعُ الاِسْتِجْرَارِ


من الموسوعة الكويتية

التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا (1) .
وَالاِسْتِجْرَارُ لُغَةً: الْجَذْبُ وَالسَّحْبُ، وَأَجْرَرْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ لَهُ (2) . وَبَيْعُ الاِسْتِجْرَارِ: أَخْذُ الْحَوَائِجِ مِنَ الْبَيَّاعِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَدَفْعُ ثَمَنِهَا بَعْدَ ذَلِكَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي:
2 - الْمُعَاطَاةُ وَالتَّعَاطِي: الْمُنَاوَلَةُ وَالْمُبَادَلَةُ. وَالْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي: أَنْ يَتَقَابَضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ صِيغَةٍ، أَيْ إِنَّ الْبَائِعَ يُعْطِي الْمَبِيعَ وَلاَ يَتَلَفَّظُ بِشَيْءٍ، وَالْمُشْتَرِيَ يُعْطِي الثَّمَنَ كَذَلِكَ (4) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ وَالتَّعَاطِي هُوَ: أَنَّ بَيْعَ الاِسْتِجْرَارِ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّعَاطِي، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ فِي الاِسْتِجْرَارِ تَأْجِيل الثَّمَنِ، وَعَدَمُ تَحْدِيدِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ:
تَتَعَدَّدُ صُوَرُ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ، وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ مِنْ صُورَةٍ لأُِخْرَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
صُوَرُ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ:

3 - الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْبَيَّاعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِمَّا يُسْتَهْلَكُ عَادَةً، كَالْخُبْزِ وَالْمِلْحِ وَالزَّيْتِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا، مَعَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ وَقْتَ الأَْخْذِ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بَعْدَ اسْتِهْلاَكِهَا.
فَالأَْصْل عَدَمُ انْعِقَادِ هَذَا الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَمِنْ شَرَائِطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، لَكِنَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي هَذَا الْبَيْعِ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ (اشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَبِيعِ) وَأَجَازُوا بَيْعَ الْمَعْدُومِ هُنَا اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَالْقُنْيَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ هَذَا بَيْعَ مَعْدُومٍ،إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا عُرْفًا، تَسْهِيلاً لِلأَْمْرِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ. وَلَمْ يَرْتَضِ الْحَمَوِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ اسْتِحْسَانٌ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى قَرْضِ الأَْعْيَانِ، وَيَكُونُ ضَمَانُهَا بِالثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا، كَحِل الاِنْتِفَاعِ فِي الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ؛ لأَِنَّ قَرْضَهَا فَاسِدٌ لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ وَإِنْ مُلِّكَتْ بِالْقَبْضِ.

4 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ نَفْسُ الصُّورَةِ الأُْولَى، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عَنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَعْرِفَةِ الثَّمَنِ، أَيْ إِنَّ الإِْنْسَانَ يَأْخُذُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ الْعِلْمِ بِالثَّمَنِ وَقْتَ الأَْخْذِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَلاَ خِلاَفَ فِي انْعِقَادِهِ، لأَِنَّهُ كُلَّمَا أَخَذَ شَيْئًا انْعَقَدَ بَيْعًا بِثَمَنِهِ الْمَعْلُومِ، وَيَكُونُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي، وَالْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي يَنْعَقِدُ، سَوَاءٌ أَدَفَعَ الثَّمَنَ وَقْتَ الأَْخْذِ أَمْ تَأَجَّل.
وَمِثْلُهَا فِي الْحُكْمِ: أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْبَيَّاعِ الدَّرَاهِمَ دُونَ أَنْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مَعَ الْعِلْمِ بِثَمَنِهَا.
هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَمَا أَكَلَهُ حَلاَلٌ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الشِّرَاءَ وَقْتَ الدَّفْعِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ بَيْعًا الآْنَ بِالتَّعَاطِي، وَالآْنَ الْمَبِيعُ مَعْلُومٌ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ صَحِيحًا.5 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْبَيَّاعِ دَرَاهِمَ، وَيَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ خُبْزٍ مَثَلاً، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ.
هَذَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَمَا أَكَل فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى خُبْزًا غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولاً، وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا.

6 - الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ الدَّرَاهِمَ لِلْبَيَّاعِ دُونَ أَنْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَلاَ يَعْلَمُ ثَمَنَهَا. فَهَذَا لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ الآْخِذُ فِي الْمَبِيعِ، وَقَدْ دَفَعَهُ الْبَيَّاعُ بِرِضَاهُ بِالدَّفْعِ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ، لَمْ يَنْعَقِدْ بَيْعًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى نِيَّةِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ شَبِيهَ الْقَرْضِ الْمَضْمُونِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، فَإِذَا تَوَافَقَا عَلَى شَيْءٍ بَدَل الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الآْخِذِ (5) .

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
الصُّوَرُ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ:
7 - أَنْ يَضَعَ الإِْنْسَانُ عِنْدَ الْبَيَّاعِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَأْخُذَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ سِلْعَةً مَعْلُومَةً وَهَكَذَا. فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ السِّلْعَةَ مَعْلُومَةٌ وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ.
8 - أَنْ يَضَعَ عِنْدَ الْبَيَّاعِ دِرْهَمًا، وَيَقُول لَهُ: آخُذُ بِهِ مِنْكُ كَذَا وَكَذَا مِنَ التَّمْرِ مَثَلاً، أَوْ كَذَا وَكَذَا مِنَ اللَّبَنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. يُقَدِّرُ مَعَهُ فِيهِ سِلْعَةً مَا، وَيُقَدِّرُ ثَمَنَهَا قَدْرًا مَا، وَيَتْرُكُ السِّلْعَةَ يَأْخُذُهَا مَتَى شَاءَ، أَوْ يُؤَقِّتُ لَهَا وَقْتًا يَأْخُذُهَا فِيهِ، فَهَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ أَيْضًا.
9 - أَنْ يَتْرُكَ عِنْدَ الْبَيَّاعِ دِرْهَمًا فِي سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي كُل يَوْمٍ بِسِعْرِهِ، وَعَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعَ، فَهَذَا الْبَيْعُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لأَِنَّ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولٌ، وَذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
10 - أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْبَيَّاعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ، فَيَأْخُذَ كُل يَوْمٍ وَزْنًا مَعْلُومًا بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ، وَالثَّمَنُ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ إِلَى الْعَطَاءِ إِذَا كَانَ الْعَطَاءُ مَعْلُومًا مَأْمُونًا، فَهَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ (6) .

مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
لِبَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُورَتَانِ:
11 - إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْبَيَّاعِ مَا يَحْتَاجُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلاَ يُعْطِيهِ شَيْئًا، وَلاَ يَتَلَفَّظَانِ بِبَيْعٍ، بَل نَوَيَا أَخْذَهُ بِثَمَنِهِ الْمُعْتَادِ، وَيُحَاسِبُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ وَيُعْطِيهِ، كَمَا يَفْعَل كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ (أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ لَفْظِيٍّ وَلاَ مُعَاطَاةً.
قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَهَذَا مَا أَفْتَى بِهِ الْبَغَوِيُّ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّلاَحِ نَحْوَهُ فِي فَتَاوِيهِ. وَتَسَامَحَ الْغَزَالِيُّ فَأَبَاحَ هَذَا الْبَيْعَ، لأَِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِهِ، وَهُوَ عُمْدَتُهُ فِي إِبَاحَتِهِ.
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: قَوْل النَّوَوِيِّ - إِنَّ هَذَا لاَ يُعَدُّ مُعَاطَاةً وَلاَ بَيْعًا - فِيهِ نَظَرٌ، بَل يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ ثَمَنِ الْحَاجَةِ مَعْلُومًا لَهُمَا عِنْدَ الأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضَا لَهُ لَفْظًا.
12 - الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُول الإِْنْسَانُ لِلْبَيَّاعِ: أَعْطِنِي بِكَذَا لَحْمًا أَوْ خُبْزًا مَثَلاً، فَيَدْفَعَ إِلَيْهِ مَطْلُوبَهُ فَيَقْبِضَهُ وَيَرْضَى بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يُحَاسِبَهُ وَيُؤَدِّي مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ، فَهَذَا الْبَيْعُ مَجْزُومٌ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُعَاطَاةَ (7) .

مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
13 - مَسَائِل بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي الإِْنْصَافِ هَذِهِ الْمَسَائِل فَقَال: الْبَيْعُ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: يَصِحُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَال: هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَمِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ كَوْنُ الثَّمَنِ مَعْلُومًا حَال الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ الثَّمَنُ، وَلَهُ ثَمَنُ الْمِثْل، نَظِيرُهُ: صِحَّةُ النِّكَاحِ بِدُونِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْل (8) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي فَوَائِدِهِ عَلَى مُشْكِل الْمُحَرَّرِ (9) اخْتِلاَفَ الرِّوَايَاتِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي مَسَائِل الْبَيْعِ بِغَيْرِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَأَوْرَدَ صُورَتَيْنِ اخْتَلَفَ فِيهِمَا رَأْيُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، فَلَمْ يُجِزِ الْبَيْعَ فِي إِحْدَاهُمَا، وَأَجَازَهُ فِي الأُْخْرَى.
14 - قَال الْخَلاَّل فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ مُسَمًّى، عَنْ حَرْبٍ: سَأَلْتُ الإِْمَامَ أَحْمَدَ قُلْتُ: الرَّجُل يَقُول لِرَجُلٍ: ابْعَثْ لِي جَرِيبًا مِنْ بُرٍّ، وَاحْسِبْهُ عَلَيَّ بِسِعْرِ مَا تَبِيعُ. قَال: لاَ يَجُوزُ هَذَا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ السِّعْرَ.
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قُلْتُ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ: الرَّجُل يَأْخُذُ مِنَ الرَّجُل سِلْعَةً فَيَقُول: أَخَذْتُهَا مِنْكَ عَلَى مَا تَبِيعُ الْبَاقِيَ، قَال: لاَ يَجُوزُ، وَعَنْ حَنْبَلٍ قَال عَمِّي: أَنَا أَكْرَهُهُ، لأَِنَّهُ بَيْعُ مَجْهُولٍ، وَالسِّعْرُ يَخْتَلِفُ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.
فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ لاَ يُجِيزُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْبَيْعَ.
15 - أَمَّا رِوَايَتَا الْجَوَازِ فَهُمَا: قَال أَبُو دَاوُدَ فِي مَسَائِلِهِ: بَابٌ فِي الشِّرَاءِ وَلاَ يُسَمَّى الثَّمَنُ. سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَبْعَثُ إِلَى الْبَقَّال، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَال: أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِذَلِكَ بَأْسٌ، قِيل لأَِحْمَدَ: يَكُونُ الْبَيْعُ سَاعَتَئِذٍ؟ قَال: لاَ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا كَانَ وَقْتَ التَّحَاسُبِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: صِحَّةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ، أَيِ السِّعْرِ الْمَعْهُودِ بَيْعُهُ بِهِ. وَعَنْ مُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُل يَبْعَثُ إِلَى مُعَامِلٍ لَهُ، لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَيَمُرُّ بِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ فَيُخْبِرُهُ، فَيَقُول لَهُ: اكْتُبْهُ. وَالرَّجُل يَأْخُذُ التَّمْرَ فَلاَ يَقْطَعُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ يَمُرُّ بِصَاحِبِ التَّمْرِ فَيَقُول لَهُ: اكْتُبْ ثَمَنَهُ؟ فَأَجَازَهُ إِذَا ثَمَّنَهُ بِسِعْرِ يَوْمِ أَخْذِهِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ بِثَمَنِ الْمِثْل وَقْتَ الْقَبْضِ لاَ وَقْتَ الْمُحَاسَبَةِ، سَوَاءٌ أَذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَمْ أَطْلَقَ لَفْظَ الأَْخْذِ زَمَنَ الْبَيْعِ. وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ هَذِهِ هِيَ مَا اخْتَارَهَا وَأَخَذَ بِهَاابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ. يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَصُورَتُهَا: الْبَيْعُ مِمَّنْ يُعَامِلُهُ مِنْ خَبَّازٍ أَوْ لَحَّامٍ أَوْ سَمَّانٍ أَوْ غَيْرِهِمْ، يَأْخُذُ مِنْهُ كُل يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ عَنْ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ. فَمَنَعَهُ الأَْكْثَرُونَ، وَجَعَلُوا الْقَبْضَ فِيهِ غَيْرَ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ قَبْضٌ فَاسِدٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَقْبُوضِ بِالْغَصْبِ، لأَِنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، هَذَا وَكُلُّهُمْ إِلاَّ مَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ يَفْعَل ذَلِكَ، وَلاَ يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا، وَهُوَ يُفْتِي بِبُطْلاَنِهِ، وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلاَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمُسَاوَمَتِهِ لَهُ عِنْدَ كُل حَاجَةٍ يَأْخُذُهَا قَل ثَمَنُهَا أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ شَرَطَ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول لَفْظًا، فَلاَ بُدَّ مَعَ الْمُسَاوِمَةِ أَنْ يَقْرِنَ بِهَا الإِْيجَابَ وَالْقَبُول لَفْظًا.
16 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَهُوَ عَمَل النَّاسِ فِي كُل عَصْرٍ وَمِصْرٍ: جَوَازُ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا (يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ) وَسَمِعْتُهُ يَقُول: هُوَ أَطْيَبُ لِقَلْبِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسَاوَمَةِ، يَقُول لِي: أُسْوَةً بِالنَّاسِ، آخُذُ بِمَا يَأْخُذُ بِهِ غَيْرِي، قَال: وَالَّذِينَ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهُ، بَل هُمْ وَاقِعُونَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَلاَ إِجْمَاعِ الأَْمَةِ وَلاَ قَوْل صَاحِبٍ وَلاَ قِيَاسٍصَحِيحٍ مَا يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الإِْجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، كَالْغَسَّال وَالْخَبَّازِ وَالْمَلاَّحِ وَقَيِّمِ الْحَمَّامِ وَالْمُكَارِي، فَغَايَةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْل، فَيَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِثَمَنِ الْمِثْل فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَلاَ تَقُومُ مَصَالِحُ النَّاسِ إِلاَّ بِهِ (1) .
__________
(1) المغني 3 / 560، ومجلة الأحكام العدلية م (105) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(3) ابن عابدين 4 / 12، والمدونة 4 / 292، وأسنى المطالب 2 / 3، والمحرر 1 / 298.
(4) البناية شرح الهداية 6 / 197.
(5) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 12، 13، والبحر الرائق 5 / 279، وأشباه ابن نجيم ص 364.
(6) المنتقى شرح الموطأ للباجي 5 / 15 ط السعادة، والمدونة 4 / 292.
(7) المجموع 9 / 150، 151، ومغني المحتاج 2 / 4، وأسنى المطالب 2 / 3، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 216، 217.
(8) الإنصاف 4 / 310.
(9) النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر 1 / 298، 299.

الموسوعة الفقهية الكويتية: 43/ 9