الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - أركان الإيمان |
من معجزاته القاطعة، وحججه الساطعة: هذا القرآن الذي تحدى الله به أفصح الأمم، وأعظم العرب والعجم، مع عظم محادتهم له ومشاقتهم، تحداهم بمثله، وتحداهم بعشر سورٍ منه، وتحداهم بسورة من مثله، وتحداهم كلهم عن بكرة أبيهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بعث رسوله بالآيات الواضحات، وأيده بالأنوار الساطعات، وأشهد أن لا إله إلا الله، أنزل عليه آيات بينات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أيده بالمعجزات، والحجج والآيات، والسلطان والخوارق، والآيات اللامعات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه، أهل البر والخيرات.
إخوة الإسلام: اتقوا القدوس السلام تفوزوا بدار السلام، وتخرجوا من هذه الدنيا براحة وسلام.
عباد الله: التعرف على نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفة سيرته، وتدارس أحواله، وبيان أخلاقه وآياته ومعجزاته، من أعظم الوسائل لاتباعه وتصديقه، ومحبته وتوقيره، وطاعته وإجلاله، والاستجابة له، والشوق إلى لقائه، فبقدر ما تعرف وتعلم، بقدر ما تحب وتتبع وتنعم، ومن تقوية محبته، وتعزيز مودته، معرفة معجزاته وآياته التي خصه الله بها، وأظهر الله على يديه منها، فمعجزاته أنوار تشرق على القلوب، وبصائر تحدق بصلاح العيوب، تزيد الإيمان، وتقوي محبة واستقامة، وقوة وثباتًا، وما من نبي إلا وأظهر الله على يديه خارقة، ومعجزة فارقة، وكرمة ظاهرة، وآية باهرة، ومن ذلكم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
صلى الإله على الحبيب المصطفى | ما شع نور الشمس في الأكوانِ |
في جنة الفردوس خير مكان | يا رب أكرمنا برؤية وجهه |
الله جمع لرسوله أنواع المعجزات، وألوان الآيات الباهرات، من الخوارق والبينات الواضحات، كالأمور الغيبية، والسماع والرؤية، وكأخباره عن الأنبياء وأممهم، وأمور الآخرة، وكالأمم الماضية، والأمم الحاضرة، والأمم المستقبلة، ومن ذلك: إسراؤه ومعراجه، وكذا انقياد الشجر وتسليمه وتكليمه، ففي مسلم عن جابر -رضي الله عنه وأرضاه- قال: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلنا واديًا أفيح، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر فلم ير شيئًا يستتر، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أحدهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "انقادي عليّ بإذن الله"، فانقادت معه كالبعير المخشوم الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ ببعض أغصانها، فقال: "انقادي عليّ بإذن الله"، فانقادت كذلك، حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما فلاءم بينهما حتى جمع بينهما، فقال: "التئما عليّ بإذن الله"، فالتأمتا عليه، ثم افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق وأنا أنظر.
وأنطق الله له الجماد، وسلم عليه الحجر والشجر والوتاد؛ ففي مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "إني لا أعرف حجرًا بمكة يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لا أعرفه الآن".
وقال علي: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله".
ومن معجزاته القاطعة، وحججه الساطعة: هذا القرآن الذي تحدى الله به أفصح الأمم، وأعظم العرب والعجم، مع عظم محادتهم له ومشاقتهم، تحداهم بمثله، وتحداهم بعشر سورٍ منه، وتحداهم بسورة من مثله، وتحداهم كلهم عن بكرة أبيهم: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء: 88]، والمعجزة الخالدة، والهداية الصالحة، والحجة الدامغة، والثمار اليانعة، من تمسك به نجا، ومن تخلى عنه هلك وهوى.
كفى وحسبك بالقرآن معجزة | دامت لدينا دواماً غير منصرم |
الله أكبر ما قد حاز من عبرٍ | ومن بيان وإعجاز ومن حكم |
والله أكبر إذ أعيت بلاغته | وحسن تركيبه للعُربِ والعجمِ |
كم قد تحدى قريشًا في القديم وهم | أهل البلاغة بين الخلق كلهمِ |
بمثله وبعشرٍ ثم واحدة | فلم يروموه إذ ذا الأمر لم يرمِ |
الإنس والجن لم يأتوا لو اجتمعوا | بمثله ولو انضموا لمثلهمِ |
أنّى وكيف ورب العرش قائله | سبحانه جل عن شبه له وسمي |
ومن المعجزات، والآيات الباهرات: انشقاق القمر: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَر) [القمر: 1]، فلما سأل أهل مكة أن يريهم آية، أراهم شق القمر، فانشق القمر فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا فأشهدوا".
ومنها: حنين الجماد وبكاؤه ومفارقته لما اعتاد؛ ففي الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله؟ ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: "إن شئتم"، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل فضمها إليه، تأن أنين الصبي الذي يُسكن، قال: "كانت تبكي على ما كانت مما تسمع من الذكر عندها".
وفي رواية: "فلما صنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا من ذلك الجذع صوتًا كصوت العشار، وهي الناقة الحامل، حتى إذا جاء فوضع يده عليها فسكنت".
الله أكبر! الله أكبر! وسبحان الله! جذع شجرة سُمع بكاؤه وحنينه؛ لحزنه وفراقه، وبعده وانقطاعه عن الذكر والحق، وسيد الخلق!
وفي بعض الروايات: "فخار الجذع كخوار الثور، حتى ارتجّ المسجد حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنزل فالتزمه وهو يخور، وقال: "لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة"، ثم أمر به فدفن".
وكان الحسن البصري إذا حدَّث بهذا الحديث بكى، ويقول: "يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إليه، أفليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه".
وقال المطلب بن وداعة: "لا تلوموه فإن رسول الله لم يفارق شيئًا إلا وجد" أي حزن عليه.
وقال الشافعي: "ما أعطى الله نبيًا ما أعطى محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدًا حنين الجذع حتى سُمع صوته، فهذا أكبر من ذلك".
فسبحان من أعطى نبيه دلائل نبوته، مما يدل على كرامته وصدقه، وعلو منزلته ورفعته، واصطفائه وخلته، أطرقت لسماع صوته الرؤوس، وبكت العيون، وحنت له القلوب، وسمعت صوته الجدران، وذرفت له العينان.
حنّ جذع إليه وهو جماد | فعجب أن تجمد الأحياء |
وألقى حتى في الجماد حبه | فكانت لإهداء السلام له تهد |
وفارق جذعًا كان يخطب عنده | فأن أنين الأم إذ تجد الفقد |
يحن إليه الجذع يا قوم هكذا | أما نحن أولى أن نحن له وجدا |
إذا كان جذع لم يطق بعد ساعة | فليس وفاءً أن نطيق له بعدا |
فيا حامداً معنى بصورة عاقلٍ | أَمالك مـن قلب شهيدٍ ولا سمع |
يحن إليه الجذعُ شوقاً وما لنا | أَلسنا بذاك الشوقِ أولى من الجذعِ |
الجذعُ حن إليك يا خير الورى | كيف النفوس إليك لا تشتاق؟! |
صلى عليك الله ما لاحت لنا | شمس وما اهتزت هنا أوراقُ |
ومنها: تسبيح الطعام، وتكثير القليل، ونبع الماء من بين يدي أصابعه؛ ففي الصحيح: عن ابن مسعود قال: "كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفًا، كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فقلّ الماء، فقال: "اطلبوا فضلة من ماءٍ"، فجاؤوا بإناءٍ فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: "حي على الطهور المبارك، والبركة من الله"، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل".
وعن أنس -رضي الله عنه وأرضاه- قال: "أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من أصابعه، فتوضأ القوم، قال: وكانوا ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة".
وعن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "عطش الناس يوم الحديبية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين يديه ركوة، فتوضأ، فجهش الناس نحوه فقال: "ما لكم؟" قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة".
وعن البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- على شفير البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر، فمكثنا غير بعيد، ثم استقينا حتى روينا".
وعن أنس بن مالك قال: "قال أبو طلحة لأم سُليم: لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندكِ من شيءٍ؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصًا من شعيرٍ، ثم أخرجت خمارًا لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي، ولاثتني بعضه ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهبت به فوجدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرسلك أبو طلحة؟" فقلت: نعم، قال: "بطعام؟" قلت: نعم، فقال رسول الله لمن معه: "قوموا"، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سُليم قد جاء رسول الله بالناسِ وليس عندنا ما نطعمهم؟ فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه، فقال رسول الله: "هلمّ يا أم سُليم ما عندكِ؟"، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ففت، وعصرت أم سُليم عكة فآدمته، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه ما شاء أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة"، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة"، فأكل القوم كلهم، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً.
وعن جابر -رضي الله عنه وأرضاه-: أن أباه توفي وعليه دين، قال: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: إن أبي ترك عليه دينا وليس عندي إلا ما يخرج نخله ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكي لا يفحش عليّ الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر فدعا ثم آخر ثم جلس عليه، فقال: "انزعوه"، فأوفاهم الذي لهم وبقي مثل ما أعطاهم".
وفي حديث أبي قتادة الطويل في تلك الغزوة: "ثم دعا بميضأة كان معي فيها شيء من ماء، فتوضأ منها وضوء دون وضوء، قال: "وبقي منها شيء من ماء؟" ثم قال لأبي قتادة: "احفظ علينا ميضأتك، فسيكون لها نبأ" الحديث إلى أن قال: "فانتهينا إلى الناس حين امتدّ النهار وحمي كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله: هلكنا عطشنا؟ فقال: "لا هُلك عليكم"، ثم قال: "أطلقوا لي غمري"، قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصب، وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أَن رأى الناس ماءً في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحسنوا الملء كلكم سيروى"، قال: ففعلوا، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصب وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم صب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: "اشرب"، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، قال: "إنّ ساقي القوم آخرهم شرباً"، فشربتُ وشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتى الناس الماء فشبعوا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكرم نبيه، فشرح صدره، ورفع ذكره، وأظهر صدقه، وأيد شرعه، ونصر عبده.
ومن بركته وإكرامه لنبيه، وما ظهر من صدقه ومعجزته: ما وقع في قصة أم معبد، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما مر بها طلب لبنًا أو لحمًا يشترونه، وكانوا مرملين مسنتين، فلم يجدوا عندها شيئًا قط، فنظر إلى شاة في كسر الخيمة خلفها الجهد عن الغنم، فسألها: هل بها من لبن؟ فقالت: هي أجهد من ذلك، فقال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟" فقالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، فدرت واجترت، ودعا بإناء يشبع الرهط، فحلب حتى ملأه وسقى القوم، حتى رووا ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى وغادره، فجاء أبو معبد فلما رأى اللبن قال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب حيال ولا حلوبة بالبيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك، فقال: صفيه؟ فوصفته له، وذلك في طريق هجرته صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك سُمع الأبيات المشهورة، ومنها:
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها | فإنكمو إن تسألوا الشاة تشهد |
دعاها بشاة حائلٍ فتحلّبت | له بصريح ضرة الشاة مزبد |
فغادره رهنًا لديها لحالبٍ | يدرُ لها في مصدر ثم مورد |
فسبحان الذي أعطاه وأكرمه! وسخر له وأجلّه!
ومن ذلكم في حديث أبي هريرة أنه قال: "والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لاعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد وقعت يوم على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "أبا هر!"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق"، ومضى، فاتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبنًا في قدح، فقال: "من أين هذا اللبن؟" قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: "أبا هر؟"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق إلى أهل الصفة فادعوهم لي"، وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهلٍ ولا مالٍ، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بد؟ فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: "أبا هر!"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم"، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح فأعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح حتى انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، فقال: "يا أبا هر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت"، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "اقعد فاشرب"، فقعدت فشربت، فما زال يقول: "اشرب"، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا، قال: "فأرني؟" فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى وشرب الفضلة صلوات الله وسلامه عليه".
هذا ما تيسر في هذه الخطبة، وفي خطبة قادمة يأتي ما تيسر من معجزاته وآياته صلوات الله وسلامه عليه، والله أعلم.