القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والاختلاء لا يشترط فيه الخلوة عن الناس؛ فقد ترى شابا يجلس أمام والديه وإخوته، ولكنه ينظر في جواله يقلب صفحات الانترنت على مواقع إباحية وجلساؤه لا يعلمون به، وقد ترى شابا يسافر إلى بعض الدول التي تعلن الفجور، فيَفْجُر معهم؛ لأنه لا يرى فيها أحدا يعرفه، ناسيا ربه المطلع عليه...
الخطبة الأولى:
إن أخطر ما يهدد العبد يوم القيامة ذنوبه التي ارتكبها ولم يتب منها، ومما ينبغي أن نعلمه؛ أنه ليس كل ذنب يُكتبُ لك به سيئة واحدة، فهناك ذنوب تحبط لك حسنة واحدة، وهناك ذنوب تحبط لك حسنات كثيرة، وهذا ما يعرف بمحبطات الأعمال، أي أن هناك ذنوبًا تحبط لك بعض أعمالك، أو قد تحبط أعمالك كلها، وهذه الذنوب تعد من الكبائر التي يجب الاحتراز منها، وأنها من أخطر الذنوب التي تهدد الحسنات، ولذلك كان لزاما علينا أن نتعرف عليها كي نتجنبها؛ فكثير من الناس ليس عندهم علم أو اطلاع بالذنوب التي تحبط الحسنات.
وكنت قد تحدثت أول ذنب محبط للأعمال وهو الكفر بالله؛ ويندرج تحته السخرية بالدين، أو كراهية شيء من الدين.
واليوم سأتحدث عن محبط آخر للأعمال، وهو انتهاكُ محارم الله في السر والخلوة؛ فعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ، أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(رواه البيهقي وابن ماجه).
فإذا كان صاحبُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبان -رضي الله عنه- يخاف أن يكون منهم، ويحذر أن يكون من جملتهم؛ فماذا سنقول نحن، والتقصير قد ملأ حياتنا، والشهوات قد أحاطت بنا من كل جانب، ومنسوب الإيمان قد قلَّ في قلوبنا إلا من رحم الله؟ فهذا الصحابي ثوبان -رضي الله عنه- يقول: صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ، فيجيب -صلى الله عليه وسلم- بما لم يكن في الحسبان، ويخبر أنهم من المسلمين، ولهم من الأعمال الجليلة ما لهم؛ لكنهم جعلوا الله -عز وجل- أهون الناظرين إليهم عندما راقبوا الناس؛ فعملوا في الظاهر ما يخالف الباطن، ووقعوا في محارم الله، ونسوا أو تناسوا أن الله بكل شيء عليم، وأنه يعلم السر وأخفى. ومحارم الله: هي كل ما حرمه الله -تعالى- من الصغائر والكبائر.
فلماذا هؤلاء انتهكوا المحرمات في السر؟ لأنه ليس في قلوبهم من التقوى ومراقبة الله -عز وجل- ما يكفي لحجزهم عن الحرام؛ فأكلت سيئاتهم حسناتهم، وأصبحت حسناتهم هباء منثورا. وتأملوا كيف أن الله -تعالى- أراهم حسناتهم كالجبال، ثم جعلها أمامهم هباء منثورا؛ ليزيدهم حسرة.
فبعض الناس قد يظهر أو يتظاهر بالصلاح والاستقامة للملأ، ولكنه إذا اختلى بنفسه لم يراقب الله -تعالى- ولم يستح منه، فوقع في المحرمات.
والاختلاء لا يشترط فيه الخلوة عن الناس؛ فقد ترى شابا يجلس أمام والديه وإخوته، ولكنه ينظر في جواله يقلب صفحات الانترنت على مواقع إباحية وجلساؤه لا يعلمون به، وقد ترى شابا يسافر إلى بعض الدول التي تعلن الفجور، فيَفْجُر معهم؛ لأنه لا يرى فيها أحدا يعرفه، ناسيا ربه المطلع عليه.
ومن هؤلاء من تكون خلواته في مشاهدة القنوات الفضائية الفاسدة، والنظر في الإنترنت إلى مواقع الجنس الفاضح، واستعمال أسماء مستعارة للمحادثة والمراسلة مع الأجنبيات، وقد تجد لهؤلاء نصيبًا في الظاهر من الاستقامة؛ في الصلاة والصيام واللباس ومن هنا كان هذا الحديث محذِّراً لهم أن يجعل حسناتهم هباء منثورا يوم القيامة، إن لم يبادروا بالتوبة.
إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا، فَلا تَقُل | خَلَوتُ، وَلكن قُل عَليّ رَقيب |
وَلا تَحْسَبــَن اللهَ يَغْفُل ساعةً | وَلا أنَّ مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيب |
فالواجب على المسلم أن يحذر من ذنوب الخلوات؛ فالله -تعالى- قد ذم من يستخفي بذنبه من الناس ولا يستخفي من الله، قال -تعالى-: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)[النساء:107-108].
ولنعلم بأن ذنوب الخلوات مدعاة لسوء الخاتمة، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "أجمع العارفون أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن طاعة السر هي أصل الثبات".
اللهم اجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يعلم ما تخفي القلوب والخواطر، ويرى خائنة الأحداق والنواظر، المطّلع على خفيات السرائر، العالم بمكنونات الضمائر، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ مقلّب القلوب، وغفّار الذنوب، وساتر العيوب، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ القائل: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- في السر والعلن، ولنعلم أن الله -تعالى- قد يبتلي عبده فيهيئ له معصية؛ ليرى هل يخافه بالغيب؟ أم أنه لا يخشاه إلا بحضور الناس فقط؟ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[المائدة:94]؛ فانتبه -يا عبد الله- من المعصية حين تكون لوحدك؛ ولذلك كان أجر من دعته امرأة ذات منصب وجمال بعد أن اختلت به الاستظلال تحت العرش يوم القيامة؛ لأنه قال لها: إني أخاف الله.
فلنخش الله -تعالى- في السر والعلن، ولا نجعل الله -تعالى- أهون الناظرين إلينا، ولنكثر من الطاعات والعبادات في السر والخفاء، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك:12].
أيها الأخوة في الله: الخلاصة التي ينبغي أن نخرج بها من هذه الخطبة: أن نحفظ حديث ثوبان -رضي الله عنه- حفظا جيدا ونجعله نصب أعيننا، فهو حديث خطير، قال فيه صلى الله عليه وسلم: "لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ، أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا".
فالله الله في السرائر؛ فيجب على كل مسلم أن يصلح سريرته، وليكن حرصه على باطنه وسريرته، أعظم من حرصه على ظاهره (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) [الطارق:9-10]؛ فلا يكفي أن تجمع الحسنات، وإنما المهم أن تحافظ على هذه الحسنات حتى لا تذهب هباء منثورا.
إِذَا ما خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ | وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إلَى العصيان |
فَاسْتَحِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا | إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلامَ يَرَانِي |
اللهم اجعل سرائرنا خير من علانيتنا، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة..
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا..
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت..
اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا..
اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا..
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا..