العربية
المؤلف | عبدالله بن عبده نعمان العواضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن مَن أحب شيئاً أكثر من ذكره؛ فالذي فطر الإنسان وخلقه، وتفضل عليه ورزقه، وصوّره فأحسن صورته، وهداه وبين له محجّته، .. أفلا تحب النفوس مَن هذه بعض عطاياه ومننه على الإنسان؟!...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً حمدا، والشكر له شكراً شكرا، أحمده -تعالى- على كماله وجلاله، وأشكره على جزيل عطائه، وسابغ نواله. وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُالله ورسوله، وحبيبه وخليله، خير من عبد ربه وذكرَه، وحمد فضله وشكره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأسوةِ المقتدين، والهداة المهتدين، وسلّم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فبتقوى الله صلاح العمل، وغفران الزلل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: إن مَن أحب شيئاً أكثر من ذكره؛ فالذي فطر الإنسان وخلقه، وتفضل عليه ورزقه، وصوّره فأحسن صورته، وهداه وبين له محجّته، وفضلّه وكرّمه، وعلّمه وفهّمه، أرسل له رسله وأنزل عليهم -من أجله- كتبه، وجعل ما في الأرض مسخراً لخدمته، وحفظهُ بالمعقبات من ملائكته من بين يديه ومن خلفه، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة، لا يستطيع المخلوق عدها ولن يبلغ حصرها؛ أفلا تحب النفوس مَن هذه بعض عطاياه ومننه على الإنسان؟! بلى.
إن المؤمنين الصادقين أحبوا الله حباً حقيقياً، قال الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)[البقرة:165].
ومن علامات حبهم له: أنهم يكثرون من ذكره على كل حال: في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فيجدون في ذكره -تعالى- أنسهم وراحتهم؛ كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28].
ويلقون فيه حصناً حصيناً، وحرزاً أميناً من كل عدو، وفي مقدمة الأعداء: الشيطان الرجيم وأعوانه؛ ففي حديث الحارث الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -جل وعلا- أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإن عيسى قال له: إن الله قد أمرك بخمس كلمات تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن؛ فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم قال: فجمع الناس في بيت المقدس حتى امتلأت، وجلسوا على الشرفات فوعظهم، وقال: إن الله -جل وعلا- أمرني بخمس كلمات أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن"، وذكر منهن: "وآمركم بذكر الله؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه؛ فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله"(رواه أحمد، وهو صحيح).
ولا عجب أن الذاكرين الله -تعالى- موصفون بالحياة، والغافلين عن ذلك موصوفون بالموت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت "(رواه البخاري)؛ فالغافلون أدركهم الشيطان فأمات أرواحهم وقلوبهم؛ ولهذا فإن الذاكرين يعيشون حياة حقيقية ملؤها السعادة واليقين، وتحفها الطمأنينة والراحة، وأفعالهم بيضاء لصفاء قلوبهم بذكر الله -تعالى-، أما غيرهم -ممن يعيشون الغفلة- فأموات في صورة أحياء، وأشباح بلا أرواح، ليس لهم من الحياة إلا حركة الأجسام التي عشعشت فيها الغفلة وفرّخت فيها العناءَ والكآبة؛ ولذا فأعمالهم مظلمة؛ نتيجة سواد قلوبهم، وما صلاح الظاهر إلا بصلاح الباطن، وما فساده إلا بفساده.
ولا ريب أن القلب يصدأ، وصدأه بالغفلة والذنب، وجلاؤه بالذكر؛ فإذا صدأ تغير وانتكس، فتغيرت الجوارح بتغيره، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)[الكهف:28].
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- أمر عباده المؤمنين بذكره ذكراً كثيرا، فإذا فعلوا ذلك أثنى عليهم ورحمهم، واستغفرت لهم ملائكته، فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)[الأحزاب:41-43].
بل الذاكر مذكور عند الله حينما امتثل الأمر؛ كما قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ)[البقرة:152]. وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما قول النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم".
وهذا الذكر جزء يسير من الشكر لله -تعالى- على نعمه؛ ولهذا ذكر بعد آية الأحزاب-الآنفة الذكر- الآمرةِ بالذكر نعمَه عليهم بالثناء عليهم، ودعاءِ ملائكته لهم، وإخراجِهم من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان. وفي آية البقرة جُعلت آية الذكر جزاءً لنعمته عليهم بإرسال محمد -عليه الصلاة والسلام- لهدايتهم وإرشادهم فقال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ)[البقرة:151-152].
فمن لم يذكر الله فقد جحد نعمه وما شكرها، ومن ذكره فقد شكرها وما كفرها.
عباد الله: إننا نجد نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- دائم الذكر لله -تعالى- على كل أحيانه؛ قياماً بشكر الله، وتقرباً إلى مرضاته؛ فلا يفتر لسانه وكل جوارحه عن ذكر الله، يقرأ القرآن ويصلي، ويكبر ويحمد ويهلل ويسبح، ويحوقل، ويبسمل، ويستغفر، ويحسبل، أي: يقول: حسبي الله، ويدعو ويبتهل قائماً وقاعداً وعلى جنبه، في حال يقظته وعند منامه واستيقاظه، في صباحه ومسائه، في سفره وحضره، وعند دخوله وخروجه من البيت والمسجد والخلاء، وعند لبسه وخلعه لثوبه، وعند أكله وشربه وعطاسه ووضوئه، وفي كل أحواله سرائها وضرائها، -صلى الله عليه وسلم-.
إخواني الكرام: إن ذكر الله -تعالى- عبادةٌ من العبادات، ولكنها عبادة ميسرة لا صعوبة فيها، ولا موانع تمنع عنها، ولا مقدار يضبطها فلا تزيد عليه، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً)[الأحزاب:41]: "إن الله -تعالى- لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر؛ فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال: (يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آلعمران:191] بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال".
إنه قد يستطاع منعُ العبد من عبادة من العبادات، إلا ذكر الله فهو حر بلا قيود.
وقد يقتصر في أداء بعض العبادات على جارحة معينة، وعضو محدد أو على الظاهر فقط أو على الباطن فحسب، ما عدا ذكر الله؛ فإنه يؤدى بالقلب، ويؤدى باللسان، فذكر القلب نوعان: أحدهما: -وهو أرفع الأذكار وأجلها- التفكر في عظمة الله وجلاله، وجبروته وملكوته، وآياته في سماوته وأرضه.
والثاني: ذكره بالقلب عند الأمر والنهي، فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهى عنه سبحانه وتعالى. وأما ذكر اللسان مجرداً فهو أضعف الأذكار، ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث.
ومع هذا اليسر -عباد الله إلا أن الغافلين والمستصعبين لهذه العبادة الفاضلة كُثر.
وهناك نوع آخر من الغفلة، وليس الغفلة عن الفعل، ولكنه الغفلة حال الفعل؛ فما أكثر من يذكر الله -تعالى- بلسانه ويغفل عنه بقلبه! فالقلب بذلك خالٍ من التعظيم والإجلال، وقد يكون مملوءً بالفساد والظلام، والجوارحُ ملطخة بالخطايا والآثام؛ ولهذا قلّت آثار الذكر الحسنةُ على من هذه صفته من الذاكرين، فصارت الأذكار -خصوصاً التي لها مناسبة- تؤدى أذكاراً جوفاء، لا معاني لها ولا تفكر فيما تحويه من القيم والعمل.
معشر المسلمين: إن ذكر الله -تعالى- عبادة لها مكانتها العظيمة بين العبادات، وقربة كبيرة لها أهميتها بين القربات؛ فالذكر أولُ كثيرٍ من الأعمال وختامُها؛ فالوضوء -الذي هو مفتاح الصلاة- مبدوء ببسم الله، ومختوم بالشهادتين والدعاء، والصلاة تفتتح بالتكبير وهو من أعظم الذكر، وتختم بالدعاء والاستغفار، قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) النساء:103].
وفي صلاة الجمعة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة:9-10]، وهو ختام الصيام، قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185]، وهو ختام الحج أيضاً، قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)[البقرة:200].
والذكر أول دخول الدنيا، وآخر شيء منها، فمن السنة عند خروج الجنين مولوداً حياً: أن يؤذن في أذنه، ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، كما قال ذلك نبينا -عليه الصلاة والسلام-.
وهو أيضاً ختام الأعمال الفاضلة المتنوعة في الأيام الأُوُل من ذي الحجة قال تعالى: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ)[البقرة:203]، وهي أيام التشريق، والذكر كذلك مفتتَح النهار وختامه قال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)[طه:130].
ومن ذلك: أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ؛ فالنهار والليل مبدوآن بالذكر ومختومان به، والليل والنهار هما عُمر الإنسان في هذه الدنيا.
أيها المسلمون: إن ذكر الله -تعالى- له فضل عظيم يعود على الذاكر في الدنيا والآخرة؛ فهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى، قال: "ذكر الله -تعالى-"، فقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله(رواه أحمد والترمذي، وهو صحيح).
وذكر الله مرجع كثير من شرائع الإسلام، ومفتاح لكثير من أبواب الخير فيه؛ فعن عبد الله بن يسر -رضي الله عنه- أن أعرابياً قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله -عز وجل-"(رواه الترمذي، وهو صحيح)، وبذكر الله الفلاح والفوز والانتصار على العدو، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ)[الأنفال:45].
وبذكر الله حصول تأييد الله وتوفيقه للعبد الذاكر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -عز وجل-: "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت شفتاه"(رواه أحمد، وهو حسن).
وبذكر الله الراحة والنشاط، وبالغفلة عنه الكآبة والكسل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدة يضرب عليك ليل طويل، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"(متفق عليه).
عباد الله: مما يدل على فضل ذكر الله -تعالى-: أن أحب الأعمال إلى الله أن يأتي الموت ولسان المرء رطب بذكر الله؛ فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله"(رواه الطبراني، وهو صحيح). ولا يوفق لذلك إلا أهل الذكر الدائم المستمر، الذين عُمِرت قلوبهم به، وواظبت ألسنتهم عليه.
أيها المسلمون: إن أهل الذكر ذوو رتب عالية عند الله، ونصيبهم من الأجر من أوفر الأنصبة، وتقدمهم في طريق الفضل غير مسبوق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبق المفردون" قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله، قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات"(رواه مسلم). قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "ذهب الذاكرون اللهَ بالخير كله".
وهم -وإن انغلقت أمامهم أبواب من الخير لا يجدون مفاتيحها كالمال للصدقة والإحسان- فإنهم بالذكر يدركون ذلك كله؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم. قال: "كيف ذاك؟". قالوا: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم، وليست لنا أموال. قال: "أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم، وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله؟ تسبحون في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً "(متفق عليه).
الذاكرون الله مجالسهم رياض من رياض الجنة، تغشاهم الرحمة، وتنزل عليهم السكينة، وتحفهم الملائكة، ويباهي الله بهم في الملأ الأعلى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل- إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده "(رواه مسلم).
والذاكرون الله كثيراً مستجابو الدعوة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يرد الله دعاءهم: الذاكر الله كثيرا، والمظلوم، والإمام المقسط"(رواه البيهقي، وهو حسن).
فنسأل الله أن يجعلنا من أهل ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على النبي محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها الناس: إن الغفلة عن ذكر الله أوردت أصحابها الموارد؛ فبينما يبقى الذاكرون يلهجون بذكر الله -تعالى- يُرى صرعى الغفلة مشغولين بذكر الناس: مغتابين ونمامين، هتاكين وعيّابين، ساخرين وشامتين؛ فما أحسن الذكر مَشغلةً عن معصية الله وإيذاء الناس!
وبينما الذاكرون يحييون حياة الاطمئنان، والراحة النفسية والبدنية يحيا سجناء الغفلة أسرى في التعاسة والبؤس، والأمراض والهموم؛ فما أنفع الذكر دواءً وشفاءً للأرواح والأبدان، ولكن رواده وقصاده قليلون.
وبينما الذاكرون يُحييون قلوبهم فالغافلون يميتونها، فتصير خراباً ومقابر تسكن فيها الأدواء والآفات.
وفي الوقت الذي يُصلح الذاكرون فيه دنياهم، ويعمرون أخراهم إذا بالغافلين يفسدون الدنيا، ويخربون الآخرة؛ فلا دنيا وجدوا بها راحة حقيقية، ولا أخرى حصلوا فيها على ثمر يطمئنون عند رؤيته.
عباد الله: في ذكر الله وجد الذاكرون حصناً منيعاً يحميهم من الشيطان ومس الجان وشرِّ عيون بني الإنسان الخبيثة، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله -تعالى- خنس"، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يصبح -ثلاث مرات-: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يمسي، ومن قالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يصبح "(رواه أصحاب السنن، وهو صحيح).
وقال بعض السلف: "إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟! فيقال: قد مسه الإنسي".
وأما الغافلون فما أكثر تلاعبَ الشيطان بهم، وتسلطه عليهم، قال تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ)[النحل:100].
فإلى متى يطول نوم الغفلة -يا عباد الله؟- ألم يحن وقت الاستيقاظ؟ وقد استبان النهار؟ وسار الذاكرون المجدون، وبقي الغافلون على حُمر معقرّة، أو ما زالوا على فرش غفلتهم لم ينهضوا للمسير؟!
ألم يكفِ الغافلين جراحُ غفلتهم، وسوء حالهم، وبؤس حياتهم، وانغلاق أبواب الخير عليهم؟
قال الحسن البصري: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق". هذا فيمن يعمل هذه الأشياء فكيف حال من لم يعملها؟
فيا أيها الناس: ذكرَ الله ذكرَ الله تؤجروا، وتنتجوا، وتستريحوا؛ ففي ظل ذكر الله الرَّوحُ والراحة، والعيش الهنيء والمنقلب الحسن عند لقاء الله، وإياكم والغفلةَ عن ذكر الله، ففي لفح الغفلة يُصنع العناء والشقاء ليُشقي الغافلين في الدنيا، وتبقى الغفلة بعد ذلك على أهلها حسرات وندامات يوم القيامة.
نسأل الله -تعالى- أن يعمر قلوبنا بذكره، وألسنتنا بشكره، وجوارحنا بفعل أمره وهجر زجره.
هذا وصلوا وسلموا خير الورى...