القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | خالد بن عبد الله المصلح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
فمحبة الله أصل كلِّ محبةٍ صالحة نافعة راشدة، فمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- من محبة الله -جل وعلا-، وهي مقدَّمة على محبة النفس؛.. وإن ترجمة المحبة -أيها المؤمنون- ليس أمرًا نظريًّا يُقال بالألسن، ويتخلف عنه عمل القلب، محبة النبي عمل قلبي يجد الإنسان فيه انجذابًا لهذا الرجل الذي أخرجنا الله -تعالى- به من الظلمات إلى النور. تخيل لو أنك لم تعرف محمد بن عبدالله؟! كيف ستكون حياتك؟ كيف ستعرف الهدى من الضلال؟ كيف ستعرف الله كيف ستعرف الطريق الموصل إليه؟ كيف ستنجو من النار وتدخل الجنة؟
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله حق التقوى، وآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزله، واعلموا أنه لا يتحقق إيمان أحد إلا بمحبة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقد أخرجنا به الله -تعالى- من الظلمات إلى النور.
عرفنا به سبل الهداية عرفنا به طريق النجاة لم يترك خيرًا إلا دلنا عليه، ولا شرًّا إلا حذرنا منه، تركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد أخبر الله -تعالى- عن عظيم ما اتصف به من الرحمة والرأفة بالمؤمنين (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:128].
هذه هي صفاته وهذه هي خلاله، وهذه هي صفاته منذ أن قال الله -تعالى- له في محكم كتابه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 1- 4]، لم يفتأ، ولم ينفك -صلوات الله وسلامه عليه- عن دعوته لله -عز وجل- وهداية للخلق ودلالة على كل بر، وإخراج للناس من الظلمات إلى النور.
سعى لهم بكل خير وعمل كل ما في وسعه وطاقته في هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فحقه أن يؤمن به -صلوات الله وسلامه عليه-، ولا يتحقق الإيمان به إلا بتصديقه لخبره، والانقياد لحكمه، والمحبة له -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
لذلك بيَّن هذا لأمته بيانًا واضحًا ظاهرًا، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: "والله لأنت الآن أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي"، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر".
الآن كمل إيمانك، الآن أديت ما يجب عليك من حق رسولك، الآن هُديت الرشد وعرفت مراتب الحقوق في المحبة، فمحبة الله فوق كل محبة لا يضارعها شيء ولا يساويها شيء، فحبُّه ليس كحب غيره، ليس له فيه شريك -جل في علاه-، قال الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً) أي: أمثالاً (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) [البقرة:165].
ثم بعد ذلك محبة رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- ومحبة الرسول تابعة لمحبة الله، هي فرع عنها، هي قرينتها، فمن أحبَّ الله أحبَّ رسوله، ولذلك جاءت الأحاديث في بيان الاقتران بين محبته ومحبة رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".
فمحبة الله أصل كلِّ محبةٍ صالحة نافعة راشدة، فمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- من محبة الله -جل وعلا-، وهي مقدَّمة على محبة النفس؛ كما مضى في حديث عمر، بل مقدَّمة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين.
جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"، وذكر الوالد أولاً لأن حبه سابق، ولأن مِن الناس مَن لا يكون له ولد، فقدَّم محبة الوالد مع كون محبة الولد قد تكون أعظم في كثير من الأحيان، إلا أنه قدم الوالد ليشمل كل إنسان، ثم إنَّ محبة الوالد مقدَّمة في الزمان والسبق لمحبة الولد، فهي سابقة على محبة الولد "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
وإن ترجمة هذا في انجذاب قلبي حقيقي للنبي -صلى الله عليه وسلم-، إن ترجمة المحبة -أيها المؤمنون- ليس أمرًا نظريًّا يُقال بالألسن، ويتخلف عنه عمل القلب، محبة النبي عمل قلبي يجد الإنسان فيه انجذابًا لهذا الرجل الذي أخرجنا الله -تعالى- به من الظلمات إلى النور.
تخيل لو أنك لم تعرف محمد بن عبدالله؟! كيف ستكون حياتك؟ كيف ستعرف الهدى من الضلال؟ كيف ستعرف الله كيف ستعرف الطريق الموصل إليه، كيف ستنجو من النار وتدخل الجنة؟
إنه لا سبيل لدخول الجنة إلا بمعرفته، والإيمان به -صلوات الله وسلامه عليه- ومحبته، جاء في الصحيح أنه قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أول شفيع في الجنة"، فلا يشفع أحد في دخول الجنة قبله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال كما في صحيح الإمام مسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك".
فلا سبيل لأحدٍ أن يصل إلى الجنة أو أن يدرك سعادة في الدنيا أو سعادة في الآخرة إلا من طريق النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا كانت محبته محبة انجذاب قلبي يجده المؤمن في قلبه لهذا الذي أخرجك الله -تعالى- به من الظلمات إلى النور.
عرَّفك بالله، دلَّك على الخير، صبَر وكابد ليوصلك إلى الهدى، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا, فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا, فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا, فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا".
هذا هو شأنه، وهذا هو عمله -صلى الله عليه وسلم- يردّنا عن النار في غاية الصبر والمصابرة والعناية والحفظ، فهو آخِذ بحُجزنا أي: ما يُعقد على أوساطنا أن نقع في النار شفقة منه ورحمة ومحبة لأمته -صلى الله عليه وسلم-.
وقد تمنَّى -صلى الله عليه وسلم- أن يلقاكم أيها المؤمنون، يا من آمنتم به ولم تروه كما قال في الصحيح: "وددت أنَّا قد رأينا إخواننا" فقال الصحابة: أولسنا إخوانك؟ قال: "أنتم أصحابي، وإنما إخواني قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني".
ونشهد الله على أننا نشهد أنه رسول الله ورسولاً خاتمًا لكافة الخلق من الجن والإنس (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، ونؤمن أن كل مَن آمن به واتبعه فقد نجا من الهلاك، وأن كلَّ من تخلف عن هديه وخرج عن الإيمان به فإنه من أهل النار.
حق ثابت في قلب كل مؤمن، أن يعتقد ذلك، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: "والذي نفسي بيده" يقسم -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة"، والمقصود بالأمة هنا كل من جاء بعده -صلى الله عليه وسلم- من الناس كافة، فهذه أمة الدعوة وهي شاملة لكل أحد، جميع الناس، كل البشرية الذين أدركوا بعثته، وجاءوا بعده فهم داخلون في هذا الحديث: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ وَلا يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، فَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" من آمن به دخل الجنة ومن عصاه ولم يؤمن به كان من أهل النار"
إن تحقيق المحبة القلبية -أيها المؤمنون- ليست دعوة إنها انجذاب قلبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقدِّم محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل شيء من محابِّه.
جاء في صحيح الإمام مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أشد أمتي لي حبًّا ناسٌ يكونون بعدي يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله"، يود أحدكم لو رآني ودفع مقابل هذه الرؤيا أهله وماله، فجعل الأهل والمال ثمنًا لرؤيته صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا تمنى رؤيته أهل الإيمان الصادقون، أهل الإيمان المحبون له، أهل الإيمان العارفون بقدره، وقد يقول قائل: هذه المحبة كيف نحصلها؟ وكيف ندركها؟ وإن إدراكها وتحصيلها يسير على من يسره الله له.
إن إدراكك عظيم بما منَّ الله به عليك بالإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وببعثته هو أول أسباب محبته؛ فإن الله أخرجك به من الظلمات إلى النور ليس ظلمة واحدة، إنما ظلمات وليس ظلمة في دار من الدور، ظلمات في الدنيا، وظلمات في البرزخ القبر، وظلمات يوم القيامة، كل تلك الظلمات أخرجك الله منها بإيمانك واتباعك لمحمد -صلى الله عليه وسلم-.
أفلا يستحق أن يُحَبَّ مَن أخرجك الله به من الظلمات إلى النور؟ بلى والله إننا نحبّه ونشهد الله على محبته، ونسأل الله أن يميتنا على محبته وسنته، وأن يرزقنا اتباعه ظاهرًا وباطنًا.
بشرى لمن امتلأ قلبه بمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محبة صادقة، محبة اتباع واهتداء بسنته؛ فإن الله -تعالى- يذيقه في الدنيا لذة ونعيمًا لا يجدها من فقد قلبه محبته -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"، هذه الثلاث خصال حقَّقها لتجد طعم المحبة وحلاوة الإيمان في قلبك، وهذه الثلاث خصال كلها تدور على موضوع واحد، إنه حب الله، فمن أحب الله أحب رسوله، من أحب الله أحب من يحبه الله.
من أحب الله أبغض كل ما يكرهه الله، وكل الخصال الثلاث دائرة على هذا المعنى، فأخلصوا لله المحبة، وأحبوا رسوله بقلوب صادقة، وتمنوا كل ما يقرِّبكم إليه، واعملوا به لتفوزا بمحبته.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله حق التقوى؛ فإن تقوى الله تجلب لقلوبكم كل سعادة، وتدفع عنكم كل شقاء وتعاسة، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين.
يقول الله في محكم الكتاب (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ)، فالله منَّ على هذه الأمة بالوسطية، والوسطية هي ترك كل انحراف يمنةً أو يسرةً عن الصراط المستقيم.
الوسطية هي الصراط المستقيم الذي سلكه عباد الله الصالحون الذين نسأل الله كل صلاة أن يهدينا صراطهم (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ..) [الفاتحة: 6 - 7] مَن هم المنعَم عليهم؟ إنهم النبيون والمرسلون وعباد الله الصالحون، نحن نسأل الله بصدق أن يهدينا طريقهم، وأن نسلك سبيلهم وهو الطريق الوسط السالم من كل انحراف، السالم من كل غلوٍّ أو جفاء، السالم من الإفراط والتفريط، هكذا في شأن من شؤون الشريعة، هكذا في كل شأن من شؤون الحياة.
هذه الشريعة شريعة وسط، ليس فيها إجحاف ولا زيادة، ليس فيها غلو ولا تقصير، هي على نحوٍ مِن الاعتدال يتحقق به للناس صلاح قلوبهم، صلاح دنياهم، صلاح أخراهم.
أيها المؤمنون: إن محبَّة نبينا -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ على كل مؤمن، إلا أنه يجب أن يعرف بماذا تتبين محبته؟ كيف نعرف أننا نحبه بعد ميل قلوبنا وانجذابنا إليه ومعرفة فضله ومطالعة قوله؟ وتعظيم ما جاء به؟ كيف نعرف محبتنا له؟
باتباعه -صلى الله عليه وسلم-، هذا هو المعيار، هذا هو الميزان الذي يُقاس به صادق المحبة، ليست المحبة دعاوى، كلُّ أحد يستطيع أن يقول: أنا أحب رسول الله، لكن الحقيقة في الترجمة العملية والقولية بهذه الدعوة.
لذلك يقول الله في محكم كتابه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) [آل عمران: 31]، إن كانت هذه الدعوة صادقة، وأنت تحب الله وتحب رسوله فعنوان ومعيار ومقياس المحبة الحقيقي هو اتباعك له صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من أمر الشرع إلى آراء الناس، بل جاء بيانًا مفصلاً، وردّ كل ما خرج عن ذلك في قانون مضطرب لا يختل ولا يتخلف ولا ينخرم، قال صلوات الله وسلامه عليه: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" يعني مردود ومهما كان جمالاً وبهاء إذا خرج الذي جاء به الإنسان عن هديه وعمله وما كان عليه شأنه فإنه مردود، لا سبيل للوصول إلى القبول إلا بمتابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فمن أراد قبول عمله لا ينظر إلى كثرته، ولا إلى ما يكون فيه مِن تعب ولا ما يكون فيه من جهد، ينظر معيار دقيق هو مدى موافقته لما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه أصحابه، فإذا وافق ما كان عليه وما كان عليه أصحابه فليستبشر؛ فإن ذلك دليل حبِّه، دليل قبول العمل، دليل صلاح الحال، دليل السلوك في الصراط المستقيم.
ولهذا دعوا عنكم كل ما يقال ويروِّج من بدعة حسنة بدعة طيبة والبدع أقسام! دعوا كل هذا جانبًا فلقد قال صلوات الله وسلامه عليه: "كل بدعة ضلالة"، وعندما نقول بدعة لا نقصد بذلك ميكرفون يوصِّل الصوت للناس، هذه محدثات دنيوية لا حرج فيها، وأنتم أعلم بأمور دنياكم؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
نتكلم عن طريق يوصلّك إلى الله، طريق تعبدي، طريق طاعة، لم يترك النبي طريق يوصلنا إلى الله إلا بيَّنه لنا الله -تعالى- في كتابه يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3]، فمن جاء بعبادة أو طاعة أو قربة يقول إنها توصل إلى الله! ليس لها أصل في كلام الله ولا في كلام رسوله فنقول له قد أخطأت الطريق فليس هذا مما يوصِّل إلى الله "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد".
محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- غلا فيها أقوام وجفا فيها آخرون، فمن الجفاة، ونبدأ بهم أولئك الذين يعاملون النبي -صلى الله عليه وسلم- كسائر أفراد الناس فينزلون قوله منزل الحكم على ما يعرفونه وما يفهمونه، وما أدركته عقولهم فيحكمون عما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعقولهم فيردون ويقبلون، هؤلاء لم يؤمنوا به لو آمنوا به لعلموا أنه لا يمكن أن يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء يعارض العقل ومتى شعرت أو توهمت أو دبَّ إلى فكرك أو نفث الشيطان في نفسك من شياطين الإنس أو الجن أن في شيء مما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يعارض العقل، فاعلم أن البلاء في العقل وليس النقل، فما صح لا يمكن أن يعارِض العقل.
ما صح عن النبي وجاء هو العقل، ولو لم يدركه على وجه الكمال؛ لأن العقل له حدود، وأنا أسألكم الآن: كلنا مكوّن من روح وبدن جسد وروح، فأين أرواحنا؟ ما حقيقتها؟! كيف تحيى؟ وما صفاتها؟ وما تفاصيل شأنها؟ هي ملاصقة لنا بها نعيش وننتقل ونذهب ونأتي لكن لا نستطيع أن نعرفها (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: 85]، ما عندنا فيها علم وهي مرافقة لنا وهذا دليل ضعفنا وقصورنا، وأننا لا نتمكن من إدراك أمور كثيرة بل أمور مقارنة بها حياتنا، فكيف بشأن الله، وشأن ما جاء به الخبر عن الله لا شك أن العقول تقصر عن إدراك معاني ما جاء به الله في بعض ما جاء به، لا شك أن الشريعة جاءت بأمور واضحة تدركها العقول، لكن ثق تمامًا أن الشريعة لا يمكن أن تأتي بما يقول العقل هذا مستحيل، هذا لا يمكن أن يُقبَل؛ فالشريعة تأتي بما تحار فيه العقول لكن لا تأتي بما تمنعه العقول مطلقًا.
وبالتالي إذا كان كذلك فاعلم أن كل مَن طعن في قول الله أو قول رسوله لأجل أن عقله لم يقبل ذلك أو ذوقه لم يقبل ذلك فنقول المشكلة ليست في قول الله ولا قول رسوله، المشكلة في عقلك، في تعاملك مع النص، وفي إدخالك للعقل مدخل لا شأن له فيه، فإن العقل لا يمكن أن يدرك كل شيء يعجز بقدرته أن يدرك أشياء كثيرة، أنا أستطيع أن أحمل هذه الورقة لكن لما تقول لي: احمل هذا المنبر أقول لا أستطيع قدرتي دون ذلك العقل، العقل يدرك أشياء ويفهمها لكن عندما يأتي إلى أشياء تتجاوز حدود العقل يقول العقل لا أستطيع، أتوقف هنا.
هذا منهج الجفاة وهم الذين يعاملون النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله كما يعاملون سائر الناس يخفى عليهم أنه مصطفًى من بين الناس، يخفى عليهم ما كان عليه من فضائل، يخفى عليهم أنه ممدود بالوحي من السماء، ومن كانت هذه صفاته صفوة الله من خلقه ممدود بالوحي كمل الله عقله وسجاياه وأخلاقه، لا يمكن أن يجرى على قوله قوانين العقل التي تقصر عن فهم وحي رب العالمين.
أما القسم الثاني فهم الذين غلو في النبي -صلى الله عليه وسلم- فرفعوه فوق مكانته وهؤلاء يقول لهم -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الإمام مسلم حديث عمر "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"، ثم يبين ما خصه الله به بعد بيان عبوديته وأنه كسائر الناس فقولوا: " عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ "، أعلى مراتبه صلوات الله وسلامه عليه أنه عبد الله ورسوله، فمن رفعه عن هذا فقد رفعه عن المنزلة التي ميزه الله -تعالى- بها، ولم يصدق في محبة النبي إنما عارض النبي في أصل ما جاء به فالنبي جاء نهيا عن الغلو: " إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ".
من الناس من يجعل محبته صلوات الله وسلامه عليه مسوِّغة لكثير من المخالفات، فتجده يمدحه مدائح شركية فيقول على سبيل المثال: "ومن علومك علم اللوح والقلم"، والله -تعالى- قد استأثر بعلم اللوح عنده فلا يعلمه إلا هو جل في علاه (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ)، هذا غلو في النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج عن الهدى والصراط المستقيم يوقع فيما نهى عنه -صلى الله عليه وسلم- من الإطراء المذموم الذي قد يهلك به الإنسان.
فلذلك ينبغي أن نضع هذا الميزان من وصف النبي بأكثر مما وصفه به النبي نفسه فقد خرج عن الصراط المستقيم، ولا يبرر ذلك أنك محبّ، ولا يبرر ذلك إلا دموع تتقاطر من الأعين في محبته إذا كان السلوك والأخلاق خارجة عن هديه، فذاك خارج عن الصراط المستقيم.
أيها الإخوة: مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- منَّة عظيمة على هذه الأمة، بل على البشرية، لكن لا يجوز لأحد أن يُحدِث في هذا اليوم أو في هذه الليلة شيئًا لم يفعله رسول الله أو أصحابه، ولكن أقول هذا لأن من الناس من يقول دلائل المحبة أن تحتفل بمولده -صلى الله عليه وسلم-، وهذا برهان كاذب، يقول: كيف تقول كذا والأمة منذ عشرة قرون أكثر علمائها يرون جواز الاحتفال بالمولد؟
أقول: قف قليلاً، ما الذي أجازه هؤلاء؟ هل أجاز هؤلاء المدائح الشركية؟ هل أجاز هؤلاء أن يحيي حفل مولده الفنانة الفلانية والفنان الفلاني على المعازف وعلى سيء العمل؟ هل أجاز هؤلاء رقص الرجال والنساء؟
وهذا ليس شيئًا مغيبًا يا إخوة، بل انظروا إلى قائمة مما حفظته التصاوير من أفعال كثير من الناس في هذه الليلة من إحداثات خارجة عن هديه -صلى الله عليه وسلم-، بل هي معارضة لما جاء به فيه شرك فيها معصية فيها غلو فيها تضييع للواجبات فيها ألوان من الانحرافات، فإذا سلمت من هذا جاء الكلام على ما قاله بعض أهل العلم من جواز قراءة سيرته في ليلة مولده.
وهؤلاء نقول لهم: أين أربعة قرون لم يكن فيها شيء من الإحداث في هذه الليلة، القرن الأول والقرن الثاني والقرن الثالث والقرن الرابع كلها لم يجرِ فيها احتفال من الأمة بمولده -صلى الله عليه وسلم- فأي القولين أولى بالتقديم؟
قول صار عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعون وتابعوهم والقرن الرابع الهجري لم يحدث في ذلك احتفال بمولده حتى جاء القرن الخامس حتى أطبقت على صدر الأمة وجثم عليها دولة العبيديين وهم الرافضة فأنشأوا هذه البدعة، ونشروها، وبقيت بعد أن زال حكمهم مما بقي من ضلالهم وانحرافهم في الأمة.
وتكلم العلماء بعد ذلك على الاجتهاد في هذه الليلة، لكن الطريق القويم الذي كان عليه سيد المرسلين وخير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه لم يكونوا على هذا الطريق لم يحتفلوا بمولده -صلى الله عليه وسلم-.
ولذلك انظروا إلى الاحتفالات حتى تعرف هذا ببدعة الرافضة وما أحدثوه في الأمة من ضلالات انظر إلى من الذي يحتفل بمولده؟ يحتفل بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتفل بمولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يحتفل بمولد الحسن والحسين، يحتفل بمولد فاطمة.. وما أشبه ذلك، لكن أين الاحتفال بمولد أبي بكر وهو سيد الأمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أين الاحتفال بمولد عمر؟ أين الاحتفال بمولد عثمان؟!
هذا مما يبين ويظهر أن ثمة ارتباط بين هذه البدعة وبدعة الرفض.
دعونا من هذا كله فقط انقطع صلة هذا ببدعة الرفض، لكني أقول: خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، هكذا كان يقول في خطبه؛ "أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها".
فينبغي لكل من آمن أن يلزم هديه وأن يعلم أن كلَّ مَن خرج عن هديه وكل عمل لم يأتِ به فليس فيه خير، وأقصد بالعمل العمل العبادي العمل الذي يقرِّب إلى الله، فلم يترك خيرًا إلا دلَّنا عليه -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.. اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.