البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الجفاء

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. حقيقة الجفاء وذمه في الوحيين .
  2. العلاقة بين الجفاء والكفر والنفاق .
  3. من صور الجفاء .
  4. من آثار الجفاء .

اقتباس

إن هناك ترابطًا وثيقًا بين الأخلاق الحسنة والإيمان؛ إذ هي من شُعَبه وخصاله، وكذلك يوجد ترابُط بين الكفر وبين الأخلاق السيئة؛ ولذا فهناك صلةٌ بين الجفاء وبين الكفر والنفاق، فكثير ممن يتصف بهذه الصفة القبيحة -صفة الجفاء- هم من...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

عباد الله: إن الأخلاق السيئة المذمومة تُبْعِدُ صاحبَها عن الله -تعالى-، وتنفِّر الناس منه، ومن هذه الأخلاق الذميمة والطباع السيئة، التي تورث التفرق والوحشة بين الناس وتقطع ما أمر الله به أن يُوصَل، خُلُق الجفاء الذي يَحدث بسبب غلظة الطبع.

قال المناوي في تعريفه: "الجفاء الغلظ في العِشْرَة والخرق في المعاملة وترك الرفق في الأمور"، وقال العيني: "الجَفَاء هو: الغِلظ في الطَّبع لقلَّة مخالطة النَّاس"، فهو بمعنى الغلظة والشدة وضده الرفق واللين، ومن خلال هذا التعريف يتضح لنا أن الجفاء خُلُق ذميم وصفة قبيحة، تدلّ على الغِلْظَة والشدة والحِدَّة، وهذه كلها صفات نهى الله عنها وحذَّر منها، وذمَّ أهلَها المتصفين بها.

عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- عن حال الأعراب الذين يتصف كثير منهم بهذه الصفات: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 97]، هذا حالهم وهكذا طبعهم، شدةٌ في كل شيء وغلظةٌ في كل أمر، حتى في الكفر -والعياذ بالله- يكون كفرُهم أشدَّ، ونفاقهم أغلظ، وجفاؤهم أقسى.

وحينما أسلم بعضهم ودخل في دين الله تمنَّى على النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، ونسي أن من عمل صالحًا فلنفسه، وأن هذا من فضل الله عليه وليس بجهده ولا بذكائه، يقول عن حالهم: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات: 17]، وهذا لاشك أنه بسبب جفاء قلوبهم وغلظة طباعهم وانحراف مفاهيمهم.

ومن المواقف الجافية لهم والتي تدلّ على جفائهم وغلظتهم: موقفهم الذي سطره الله في سورة الحجرات؛ فقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الحجرات:4-5]؛ فهذه الآية الكريمة نزلت في أناس من الأعراب، قَدِمُوا وافدينَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه وقت الظهيرة، فلم يصبروا ولم يتأدبوا حتى يخرج، بل نَادَوْهُ: "يا محمد، يا محمد، اخْرُجْ إلينا"، فذمهم الله لعدم تعقلهم؛ حيث لم يعقلوا عن الله الأدبَ مع رسوله واحترامه، فإن من العقل وعلامته استعمال الأدب؛ ولهذا قال عنهم: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)؛ فالجفاء دليل على قلة العقل، ولو كان صاحبُه حكيمًا عاقلًا لَحكَّم عقله وَضَبَطَ تصرفاتِه، ولكن لقلة عقله لم يستطع التحكم في نفسه، فيزبد ويرعد ويجفو ويقسو.

والجفاء قد يكون طبعا وقد يكون تطبعا وكلاهما سيئ، والمؤمن الحق يتدارك نفسَه بالبعد عن أسبابه وصوره، وفي الحديث: "مَنْ بَدَا جَفَا"(رواه أحمد والترمذي)؛ أَيْ: مَنْ سكَن الباديةَ غلظ طبعه؛ فعن أبي تميمة الهجيمي-رضي الله عنه- قال: أتيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: أيكم محمد أو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فأومأ بيده إلى نفسه. فقلتُ: يا رسول الله، إني من أهل البادية وفيَّ جفاؤهم فأوصني، فقال: "لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقَى أخاك ووجهك منبسط، ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ شتَمَكَ بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه...".

والإنسان ابن بيئته -كما يقال-؛ فالجفاء يزيد في أهل البادية عن غيرهم، عن ابن مسعود-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإيمان ها هنا -وأشار إلى اليمن- والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين". (رواه البخاري ومسلم)، قال الخطابي: "إنمَّا ذم هؤلاء؛ لاشتغالهم بمعالَجَة ما هم عليه عن أمور دينهم، وتلهيهم عن أمر الآخرة، وتكون منها قساوة القلب"، وعن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء والجفاء في النار". (رواه الترمذي وابن ماجه)، قال مالك بن دينار: "أربع مِنْ عَلَمِ الشقاوةِ: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا".

أيها المسلمون: إن هناك ترابطًا وثيقًا بين الأخلاق الحسنة والإيمان؛ إذ هي من شُعَبه وخصاله، وكذلك يوجد ترابُط بين الكفر وبين الأخلاق السيئة؛ ولذا فهناك صلةٌ بين الجفاء وبين الكفر والنفاق؛ فكثير ممن يتصف بهذه الصفة القبيحة -صفة الجفاء- هم من أهل الكفر والنفاق والشقاق وسيِّئِ الأخلاق.

ففي آيات كثيرة قَرَنَ الله بين القسوة والكفر؛ فقال عن اليهود: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)[البقرة: 74]، ويقول عن أهل العصيان والطغيان: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام:43].

ويقول -جل وعلا- عن أهل الكتاب: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16]، وبسبب قسوة القلب يكتسب الإنسان هذا الخلق السيئ؛ فيصبح من الفاسقين.

أما المؤمنون وأهل الإيمان فإنهم أهل رحمة وشفقة، وقلوبهم تحمل من الرحمة والمحبة والشفقة والبعد عن الجفاء الشيء الكبير؛ يقول الله عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159].

إن على المسلم اللبيب العاقل أن يبتعد كلَّ البعد عن هذا الخُلُق وعن أهله، وأن لا يتخلق بأخلاقهم؛ فإنهم أهل مذمَّة ومنقصة، حذَّرَنا اللهُ منهم ونهانا أن نتخلق بأخلاقهم، أو نتصف بصفاتهم، أو نتطبع بطباعهم؛ يقول الله -سبحانه-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)[الفتح: 29]؛ فأهل الإيمان أشداء على الكفار، جفاة عليهم، غلاظ في التعامل معهم، لكنهم مع إخوانهم من أهل الإسلام والإيمان بسطاء رحماء.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وَمَنْ تَبِعَهُ، وبعدُ:

أيها الناس: هذا الخلق السيئ موجود بيننا، وله صُوَر عديدة، ومن مظاهره وصوره:

الجفاء في أداء الطاعات وعمل الصالحات؛ فبعض الناس -حتى في طاعاته وقرباته- تلاحظ عليه الاتصاف بهذه الصفة، كما سمعتم عن حال الأعراب الذين يأتون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريدون منه الخير والطاعة والسؤال عن أمور الدين، ولكنهم يأتون بغلظتهم وحِدَّتهم، ولا يتأدبون على الأقل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وكم ترى من أناس عندهم من الجفاء في النصح والتغيير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يجعل الناس تنفِر منهم؛ لشدتهم وقسوتهم، وإن كان في أصل عملهم طاعة وخير، ولكن بسبب غلظتهم في أدائه تحوَّل من خير إلى شر، ومن عمل ممدوح إلى عمل مذموم.

وبعضهم -حتى وهو يؤدي الصلاة- يؤديها بجفاء، ولا يصلي وعليه السكينة والطمأنينة، فتراه وهو يصلي مُسْرِعًا كثير الحركات، وقد يضايق مَنْ بجانبه بمد رجليه أو مرفقيه، وقد يضيِّق على مَنْ بجانبه حين يسجد!.

ومن صور الجفاء: الجفاء مع الناس في التعامل معهم؛ فكم من شخص تجده غليظًا في التعامل حتى مع أقرب الناس إليه كوالديه، أو أهله وأولاده، لا يسمعون منه إلا الكلمات الشديدة، والعبارات القاسية التي نُزعت منها الرحمة والشفقة والليونة، عن أبي هُرَيْرَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ"(رواه البخاري).

وتُخبرنا أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يكره هذا الصنفَ من الناس فتقول مُحَدِّثة عن رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ"(رواه البخاري ومسلم). وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ"(رواه أحمد).

أيها الأحبة: الجفاء والقسوة من الأخلاق القبيحة التي تترك آثارًا سيئة، والتي منها:

تحريف الكلم عن مواضعه؛ وذلك بسبب سوء الفَهْم، وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة الطبع.

ومنها: نسيان ما ذُكِّرَ به، وهو ترك ما أُمِرَ به علمًا وعملًا، قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)[المائدة:13].

ومنها: الفتور عن الطاعة، والوقوع في المحرمات. وكذا عبوس الوجه، والكآبة وخشونة المعاملة. وأيضاً التنافر بين القلوب، وشيوع الكراهية والبغضاء.

فلنحذر -أيها المسلمون- هذا الخلق الذميم، وهذه الصفة السيئة؛ فإنها كما سمعتم صفة لا يتصف بها إلا مَنْ كان ظلومًا لنفسه جهولًا مع غيره.

أَلَا وصَلُّوا وسلِّمُوا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].