القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
يستحب للعبد أن يداوم على ذكر ربه في كل أحواله؛ كما كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث روى الإمام مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على.. قال الحسن: أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: لقد جاءت الشريعة الإسلامية بكل ما يسعد العباد، وما تصلح به أحوالهم وتستنير به قلوبهم، ألا وإن مما حثت عليه وأوصت به؛ ذكر الله -تعالى- والتزود منه، وذلك لما لهذه العبادة من مكانة عظيمة ومنافع كبيرة وآثار حميدة على العبد في الدنيا والآخرة؛ يقول الحق -تبارك وتعالى- وهو يوصي عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره في كل وقت وحين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلً)[الأحزاب: 41 - 42]؛ فجل العبادات جاء الأمر بها مقيدا لأوقاتها وأعدادها؛ إلا ذكر الله تعالى- فجعل الباب مفتوحا أمام أهل الإيمان؛ لينال كل مجتهد نصيبه الوافر ويسعد به في دنياه وفي اليوم الآخر.
عباد الله: وذكر الله -تعالى- ينقسم إلى قسمين هما:
ذكر مطلق ليس له زمان ولا ومكان ولا حال ولا صفة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)[الأحزاب:41-42]، وقوله -تعالى-: (يُسَبِّحون الليل والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء: 20].
فيستحب للعبد أن يداوم على ذكر ربه في كل أحواله؛ كما كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث روى الإمام مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل أحيانه".
وأما القسم الثاني من أقسام الذكر؛ فهو ذكر مقيد بزمن ما أو مكان أو صفة، كالذكر أدبار الصلوات، والذكر عند دخول المسجد وعند الخروج منه، وأذكار الصباح والمساء، وفي السفر وعند الشدائد وبقية الأحوال والمواطن التي جاءت الشريعة ببيان ما يستحب فيها من الأذكار.
أيها المؤمنون: وإذا ما أراد العبد أن يذكر ربه ومولاه ينبغي عليه أن يلتزم آداب الذكر وما يستحب عند أداء هذه العبادة العظيمة؛ فمن ذلك:
الإخلاص لله -تعالى-: فهو الشرط الأول لقبول الأعمال، وكل عمل لا إخلاص فيه لا فائدة ترجى منه، قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ)[البينة:5].
ومنها: الطهارة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني كرهت أن أذكر الله -عز وجل- إلا على طهر أو قال على طهارة" (الألباني).
حضور القلب: فحضوره أهم مقاصد الذكر وحكمه؛ يقول النووي -رحمه الله-: "المراد من الذكر حضور القلب فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله ويتدبر ما يذكر ويتعقل معناه، فالتدبر في الذكر مطلوب...إلخ".
خفض الصوت بالذكر وعدم رفعه: قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف: 205].
وذكر الله -أيها المؤمنون- يجلب لصاحبه الثمار الباسقة والآثار النافعة في الدنيا والآخرة فمن ذلك:
زيادة الإيمان، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].
ومن ثمار الذكر وفضائله؛ ذكر الله للذاكرين، قال -تعالى-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة: 152].
وما أجمل قول الشاعر:
وأخبر أن الله يذكـر عبده | ومعه على كل الأمور يســدد |
ولو لم يكن في ذكره غير أنه | طريق إلى حب الإله ومرشـد |
ومن ثماره: أنه خير الأعمال وأرفعها درجات؛ فعن أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ -تعالى-" (الترمذي).
ومن فضائله: أنه يزيل الهموم والأحزان؛ قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
وصدق الشاعر حين قال:
ذكر إله العرش سرا ومعلنــا | يزيل الشقا والهم عنك ويطرد |
ويجلب للخيرات دنيا وأجـــــلا | وإن يأتك الوسواس يوما يشرد |
ومن ثمار الذكر: تكفير الذنوب والمعاصي؛ قال -تعالى-: (وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب:35]، وجاء من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ غُصْنًا -، فَنَفَضَهُ -، فَلَمْ يَنْتَفِضْ -، ثُمَّ نَفَضَهُ -، فَلَمْ يَنْتَفِضْ، ثُمَّ نَفَضَهُ -، فَانْتَفَضَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"(أحمد).
كما أن من ثمار ذكر الله -تعالى-: أنه غراس الجنة وقيعانها؛ فعن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أسريَ بي فقالَ يا محمَّدُ أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ وأخبرْهم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ وأنَّها قِيعانٌ وأنَّ غِراسَها سبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلهَ إلّا اللَّهُ واللَّهُ أكبرُ"(الألباني في صحيح الجامع).
فهذا إخبار من الصادق المصدوق على أن ذكر الله؛ هو غراس الجنة وأجمل ما ينبت في قيعانها وتربتها الطيبة؛ وصدق الشاعر حين قال:
وأخبر أن الذكر غرس لأهله | بجنات عدن والمساكن تمــــــــهد |
وأخبر أن الذكر يبقى بجنــــة | وينقطع التكليف حين يخلـــــــــــدوا |
ومنها: أن الله يظل الذاكرين له في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال -صلى الله عليه وسلم- "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم، رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"(رواه البخاري).
عباد الله: تلكم -بعضا- من فضائل ذكر الله وثماره وفوائده؛ وحسب ذكر الله أنه أفضل ما يتلفظ به العبد في هذه الحياة الدنيا؛ إضافة إلى أنه ينهى صاحبه عن الغيبة والنميمة والزور والسباب واللعان؛ وصدق القائل:
وينهى الفتى عن غيبة ونميمة | وعن كل قول للديانة مفســد |
ولكننا لجهلنا قــل ذكرنــا | كما قل منــــا للإلـه التعبـد |
اللهم اجعلنا أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: بعد أن تحدثنا عن عبادة الذكر وفضائلها، تعالوا بنا لنستمع إلى بعض أقوال السلف في ثنائهم على هذه العبادة العظيمة علنا أن نكون من أهلها المداومين عليها الفائزين بثمارها، وإن من أروع أقوالهم فيها:
يقول ميمون البصري: "إذا أراد الله بعبده خيراً حبب إليه ذكره".
وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا ساعة مرت بهم لم يذكروا الله سبحانه فيها".
وقال أبو الدر داء -رضي الله عنه-: "الذين لا تزال ألسنتهم رطبه من ذكر الله يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك".
وقال الحسن: "أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا".
وقال مالك بن دينار -رحمه الله-: "ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله -تعالى-".
وقال بعض السلف: "يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات".
أيها المسلمون: ما أحوجنا إلى لزوم ذكر الله؛ فقد كان ذكر الله من أعظم وصايا النبي -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه:
فقد أخبر المختار يوما لصحبه | بأن كثير الذكر في السبق مفرد |
ووصى معاذا يستعين إلهـــه | على ذكره والشكر بالحسن يعبد |
وأوصى لشخص قد أتى لنصيحة | وقد كان في حمل الشرائع يجهد |
بأن لا يزال رطباً لسانك هـــذه | تعين على كل الأمور وتسعـــــد |
فاتقوا الله -عباد الله- وداوموا على ذكره تغنموا وتلذذوا بالمحافظة على تسبيحه وتحميده تسعدوا.
اللهم اجعلنا من عبادك الذاكرين اللذين تظلهم تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.
وصلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال في كتابه العزيز: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].