الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الهدي والأضاحي والعقيقة |
رأى الرُّؤيا فما ناقشَ في أمرِ اللهِ العليمِ الخبيرِ، ولم يسألْ عن الحكمةِ من ذَبحِ ولدِه الصَّغيرِ، ولم يعترضْ: لماذا يجبُ أن يذبحَه بيدِه وهو الأبُّ الكسيرُ؟! ولا قالَ: كيفَ سيكونُ حالُ أمِّه صاحبةِ القلبِ الكبيرِ؟...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أما بعد: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[النساء: 125]، والخُلَّةُ: هِي َأَعْلَى أَنْوَاعِ المَحَبَّةِ, ولا تَكُونُ إلا لِشَخصٍ وَاحدٍ فَقَط، وإِنَّمَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إِلَّا مَلَأَتْهُ, كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي | وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا |
فدعا الخليلُ إبراهيمُ -عليه السَّلامُ- ربَّه -عزَّ وجلَّ- أن يَهِبَه ولداً ينفعُه في حياتِه وبعدَ مماتِه، فقالَ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصافات: 100]، فاستجابَ اللهُ -تعالى- له، وجاءَتهُ البُشارةُ بإسماعيلَ -عليه السَّلامُ-؛ (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)[الصافات: 101]، فما أجملَها من بُشارةٍ بغلامٍ ذكرٍ، وحليمٌ ذو خُلُقٍ وصَبرٍ!.
وعندما وُلدَ الغُلامُ، وأحبَّه أبوهُ محبةً شديدةً، كانَ لا بُدَّ من الاختبارِ لإبراهيمَ: هل محبةُ الولدِ زاحَمتْ محبةَ اللهِ -تعالى- في قلبِ الخليلِ؟.
فجاءَ الاختبارُ الأولُ: أُمرَ إبراهيمُ بتركِ ابنِه وزوجتِه هاجرَ في مكانٍ قَفرٍ, ليسَ فيه ماءٌ ولا أحدٌ، حَتَّى وَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ وَلَيْسَ بِها يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: "يَا إِبْرَاهِيمُ! أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي, الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟!"، تقولُها مِرَارًا، وهو لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: "آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟"، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: "إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا"، ثُمَّ رَجَعَتْ.
ما أعظمَ هذا التَّسليمَ!؛ شَيخٌ كَبيرٌ مَقطوعٌ من الأهلِ والقَرابةِ، مُهاجرٌ إلى اللهِ، جاءَه غلامٌ حليمٌ بعدَ طُولِ عُمرِ وإلحاحِ دُعاءِ، يضعُ ابنَه وزوجتَه الضُّعفاءَ في مكانٍ ليسَ فيه إنسٌ ولا ماءٌ، ليسَ بينَهم وبينَ الموتِ إلا أن ينفدَ ما في الجرابِ من تمرٍ وما في السِّقاءِ من ماءٍ، لا لشيءٍ إلا لأنَّ اللهِ أمرَه بذلكَ.
ثُمَّ ماذا كانتْ النَّتيجةُ؟! فجَّرَ اللهُ -تعالى- من تحتِ قدمي الغلامِ عيناً مباركةً إلى يومِ القيامةِ، وكانَ هو من بنى الكعبةَ بيتَ اللهِ -تعالى- مع أبيه تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ، وجُعلَ سعيُ هاجرَ من مناسكِ الحجِّ والعمرةِ؛ تخليداً لذكرِها إلى يومِ القيامةِ، وبعثَ اللهُ في هذا الوادي من نسلِه خاتمَ وخيرَ الرُّسلِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
ثُمَّ لما كَبُرَ الغلامُ، جاءَ الاختبارُ الثَّاني: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)[الصافات: 102]، وبَلغَ سِنَّاً يَكونُ -في الغَالبِ- أَحبَّ ما يَكونُ لوالديهِ؛ قد ذَهبتْ مَشقتُه، وأَقبلتْ منفعتُه، وعادةُ قلوبِ الآباء أن تتعلَّقَ بأبنائهم في مِثلِ هذه السِّنِ، كيفَ بقلبِ الأبِّ الرحيمِ، بابنِه الوحيدِ الحليمِ؟!.
فأرادَ اللهُ أن يختبرَ قلبَ خليلِه برؤيا حقٍّ في المنامِ؛ (قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)[الصافات: 102]، رأى الرُّؤيا فما ناقشَ في أمرِ اللهِ العليمِ الخبيرِ، ولم يسألْ عن الحكمةِ من ذَبحِ ولدِه الصَّغيرِ، ولم يعترضْ: لماذا يجبُ أن يذبحَه بيدِه وهو الأبُّ الكسيرُ؟! ولا قالَ: كيفَ سيكونُ حالُ أمِّه صاحبةِ القلبِ الكبيرِ؟، وحُقَّ لمثلِه أن يكونَ خليلُ اللهِ -تعالى- السَّميعِ البصيرِ!.
(فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102]، أخبرَه ليتهيأَ لأمرِ اللهِ -تعالى-، فماذا كانَ جوابُ الابنِ؟, ما هو جوابُ الشَّابُ الصَّغيرُ الذي يُحبُ الحياةَ؟، ما هو موقفُ غلامٍ صغيرٍ وهو يُخبرُ: أنَّه سيُذبحُ بيدِ أبيه؟!.
(قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)[الصافات: 102], اللهُ أكبرُ!, لم يقل: افعل ما تُريدُ، أو افعل ما تحبُّ؛ بل كأنَّه يقولُ: يا أبتِ هذا أمرٌ من اللهِ -تعالى-، ليسَ لي ولا لكَ فيه نظرٌ، وإنما هو المبادرةُ واحتسابُ الأجرِ، (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102]، فلن أزيدَ حُزنَك بالجزعِ والبُكاءِ، ولا التَّوسلِ إليكَ بعدمِ الذَّبحِ والدُّعاءِ, ولأنَّ الأمرَ أمرٌ عصيبٌ، قالَ: (إِن شَاءَ اللَّهُ)؛ لأنَّه لا ثباتَ في مِثلِ هذه المواقفِ إلا بتثبيتِ اللهِ -تعالى-.
(فَلَمَّا أَسْلَمَا)[الصافات: 103]؛ بالرِّضا والطَّاعةِ والثِّقةِ والطُمأنينةِ والانقيادِ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)[الصافات: 103]؛ أضجعَه على وجهِه؛ لئلا ينظرَ إليه وقتَ الذَّبحِ، وحتى لا تأخذه رأفةُ الأبوَّةِ، فوضَعَ السِّكينَ؛ ليَشرعَ في الذَّبحِ، ولكَ أن تتخيلَ حالَهما في تلكَ اللَّحظةِ من البَلاءِ، فإذا بالنِّداءِ الرَّحيمِ يأتي من السَّماءِ: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[الصافات: 104، 105]، قد حصلَ المقصودُ من هذا الاختبارِ، وظهرَ صِدقُ تسليمِكَ للعزيزِ الجبَّارِ، وليسَ المقصودُ هو سَفحُ الدِّماءِ؛ بل العزمُ الصَّادقُ على تنفيذِ أمرِ اللهِ والاستسلامُ لأمرِه، وقد حصلَ ذلكَ كلُّه، وكانَ هذا من أعظمِ اختباراتِ العَالَمينَ؛ كما قالَ -تعالى-: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ)[الصافات: 106].
بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربي لغفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليماً.
أما بعد: ثُمَّ قالَ -تعالى-: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 107]، ففداهُ اللهُ -تعالى- بذِبحٍ من الغنمِ عظيمٍ، وأصبحَ سُنَّةً وقُربةً إلى يومِ القيامةِ؛ (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)[الصافات: 108]؛ فهيَ سُنةُ الأضحيةِ تكونُ في عيدِ الأضحى, ويتقرَّبُ بها المسلمونَ إلى ربِّهم -تعالى- إلى يوم يُبعثونَ.
أيُّها الأحبَّةُ: ينبغي على أحدِنا وهو يذبحُ أضحيتَه أن يتذكَّرَ قصةَ الاستسلامِ العظيمةِ، الذي كانتْ خلفَ تشريعِ هذه الشَّعيرةِ الكريمةِ, نُريدُ أن نُحييَ في قلوبِنا عبادةَ التَّسليمِ للهِ العزيزِ العليمِ, وهل الدِّينُ إلا الاستسلامَ؟, يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ تعالى- مُعرِّفًا الإسلامَ: "هو الاستسلامُ للهِ لا لغيرِه، بأنْ تكونَ العبادةُ والطَّاعةُ له والذِّلُّ له -سبحانَه-، وهذه حقيقةُ لا إلهَ إلا اللهُ"، وصدقَ -رحمَه اللهُ-؛ فقد قالَ -تعالى-: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)[لقمان: 22].
وتأملوا هذه الآيةَ: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65]، إذاً التَّسليمُ الخالصُ للهِ -تعالى- في أقدارِه وأحكامِه، الذي لا يجدُ الإنسانُ في قلبِه مثقالَ ذرةٍ من حرجٍ، هو الأساسُ الذي يُبنى عليه الإيمانُ الصَّادقُ؛ ولذلكَ قالَ الطَّحاويُّ -رحمَه اللهُ- في عقيدتِه: "ولا تَثبتْ قَدمُ الإسلامِ إلا عَلَى ظَهرِ التَّسليمِ والاستسلامِ".
اللهمَّ إنا نسألُكَ أن تجعلَنا مؤمنينَ بكتابِك، مستسلمينَ لقضائك، أَحينا على سنةِ مُحمدِ بنِ عبدِ اللهِ وأمتنا عليها يا ربَّ العالمينَ، اللهم إنا نسألُك الفِقهَ في الدينِ، واتباعَ سنةِ سيدِ المرسلينَ، اللهم اغفر لنا أجمعينَ، وتب علينا إنك أنت التوابُ الرحيمُ، اللهم لا تغادر لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، واهدِ ضالَنا يا أرحمَ الراحمينَ، استر عيوبَنا، ونفِّسْ كرباتِنا، اللهم توفنا مع الأبرارِ، وأدخلنا برحمتِك في عبادِك الصالحينَ، وأعذنا من النارِ إنها ساءتْ مستقراً ومقاماً، اللهم اهدنا، وأصلح نياتِنا وذرياتِنا يا ربَّ العالمينَ، آمنا في الأوطانِ والدورِ، وأصلح الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واغفر لنا يا عزيزُ يا غفورُ، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك واتبع رضاك يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيمانِنا وعن شمائلِنا ومن فوقِنا ونعوذُ بعظمتِك أن نغتالَ من تحتِنا، وأصلح حالَنا يا أرحم الراحمين، واهدنا سبلَ السلامِ، وأخرجنا من الظلماتِ إلى النورِ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182].