منهج في إعداد خطبة الجمعة : قال المؤلف - حفظه الله - « هذه كلمات في إعداد الخطبة وصفات الخطيب. حرصت أن تكون شاملة لخصائص الخطيب والخطبة ووجوه التأثير في الخطبة وإحسان إعدادها مقدما لذلك بمقدمة في مهمة الخطيب الشاقة وتعريف الخطبة وأنواعها وبيان أثرها ».
التفاصيل
مقدمة مدخل تعريف الخطبة وأغراضها وأثرها أنواع الخطبة إعداد الخطبة وبناؤها توطئة عناصر البناء الإيجاد والابتكار: التنسيق والترتيب: اللسان المعبر: طريقة البناء المقدمة: الموضوع: الخاتمة: وحدة الموضوع: الجدة والتغيير: طول الخطبة: صفات الخطيب وآدابه لكل خطيب متميز خصوصيته: الصفات الفطرية: الصفات المكتسبة: إضافات وصفات وآداب عامة مصادر الخطبة خلاصة ونتائج منهج في إعداد خطبة الجمعةتأليفالدكتور صالح بن عبد الله بن حميد بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعائه واهتدى بهداه أما بعد. . . فإن الخطيب والواعظ له دور كبير وأثر بالغ في بيئته ومجتمعه وسامعيه وقومه ، فهو قرين المربي والمعلم ، ورجل الحسبة والموجه ، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ من قلوب الناس مكانا ، ويضع الله له قبولا قد لا يزاحمه فيه أصحاب الوجاهات ولا يدانيه فيه ذوو المقامات ، ومرد ذلك إلى حسن الإجادة وجودة الإفادة والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى والمدَثَّر بدثار الإخلاص والورع. وهذه كلمات في إعداد الخطبة وصفات الخطيب. حرصت أن تكون شاملة لخصائص الخطيب والخطبة ووجوه التأثير في الخطبة وإحسان إعدادها مقدما لذلك بمقدمة في مهمة الخطيب الشاقة وتعريف الخطبة وأنواعها وبيان أثرها. ولقد دونت ما دونت على فترة من المشاغل وضيق في الوقت ، مع أن عندي رغبة سابقة في الكتابة في هذا الموضوع غير أن ما قدمته هنا لم يحقق كل ما كنت أرومه وما خططته لنفسي ، ولكنه إسهام تولد من الرغبتين رغبة مقام الوزارة ورغبة الكاتب . والله وحده الموفق والمعين وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على خير خلقه نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. مقدمةمهمة الخطيب مهمة شاقة ولا ريب ، مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودة الإلقاء . مطلوب من الخطيب أن يحدث الناس بما يمس حياتهم ولا ينقطع عن ماضيهم ، ويردهم إلى قواعد الدين ومبادئه ، يبصرهم بحكمه وأحكامه برفق ويعرفهم آثار التقوى والصلاح في الآخرة والأولى ، مهمته البعد عن المعاني المكرورة وجالبات الملل . والدعوة إلى التجديد والتحديث والبعد عن المكرور ، لا يغير من الحقيقة الثابتة شيئا وهي أن حياة الناس وأحوالهم في كل زمان ومكان صورة واحدة من تصارع الغرائز واضطراب النفوس وغليان الأحقاد ، وفي مقابل ذلك تلقى أحوالا من البرود والانصراف والغفلة وعدم المبالاة . والخطيب عليه أن يهدي الثائر ، ويبعث الفاتر ، ويطفئ ثورة الغريزة ، ويخفض حدة الأحقاد ، ويشيع روح المودة ، ويبث الإخلاص والتعاون . نعم إن حياة الناس صورة معادة وتغيرات متناوبة فأحداث اليوم هي أحداث الأمس والبواعث والمثيرات في الماضي هي ذاتها في الحاضر . فإنسان الغابة هو إنسان المدَنيَّة ، غير أن الأول يحارب بحجر والثاني يرمي بقنبلة ، والأول قد يقتل واحدا أو اثنين والثاني يقتل عشرات ومئات ، القوي في الغابة يستولي على مرعى أو بئر ، أما قوي المدينة يستولي على قطر بأكمله ، ويأكل قوت شعب بأكمله وشعوب برمتها ويستبد بمصادر طاقة وموارد حياة مصيرية . إذا كان ذلك كذلك فكيف يكون الحال لو نجح الدعاة المصلحون في تهذيب الغرائز والتسامي بها ؟ إن خطيب المسجد وواعظ الجماعة أشد فاعلية في نفوس الجماهير من أي جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع سواء أكان واليا أو رجل عسكر أو حارس أمن . . . إن الجمهور قد يهابون أمثال هؤلاء لكنهم قد لا يحبونهم ، أما الخطيب بلسانه ورقة جنانه وتجرده ، فيقتلع جذور الشر في نفس المجرم ويبعث في نفسه خشية الله ، وحب الحق ، وقبول العدل ، ومعاونة الناس ، إن عمله إصلاح الضمائر ، وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة ، وبناء الضمائر الحية ، وتربية النفوس العالية في عمل خالص وجهد متجرد ، يرجو ثواب الله ويروم نفع الناس . ومن هذا فإنك ترى أن أداء الخطيب عمله على وجهه يكسوه بهاء وشرفا ، ويرفعه إلى مكان علي عند الناس . ولتعلم أن هذا ليس إطراء ولا مديحا ، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقته وعظم مسؤوليته ونقل رسالته ، وما تتطلبه من حسن استعداد وشعور صادق بالمسؤولية . وكيف لا يكون ذلك وهذه هي رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا ؟ ولا غرابة أن يصادف إيذاء وعداء وحسبه أن يكون مقبولا عند الله والصفوة من عباد الله . مدخل لا يقصد من الكتابة عن الخطابة وأسسها ومبادئها وآدابها ، أن تكون مادة يدرسها الدارس لتجعل منه خطيبا مفوَّها ومتحدثا مصقعا ، إن الكتابة والأبحاث والمناهج لا تجعل من العيي فصيحا ولا اللسان المعقود طليقا ، ولكن هذه الكتابات والدراسات والبحوث نبراس ومنار يضيء لصاحب الموهبة والاستعداد ، مشعل ينمي الموهبة ومصباح ينير السبيل فلا يكون حاطب ليل . هذه الكتابات والبحوث يتكون منها علم ينير الطريق ولا يحمل على السلوك ، يرشد إلى الدرب ولا يقسر على السير . وأنت خبير بأن السراج المنير لا يستفيد منه غير البصير أما ذو الرمد فغير منتفع ، ويكفيك إشارة بأن الكاتب في علم الاقتصاد والعالم في أسسه وقواعده قد يكون أقل الناس مالا وأضعفهم موردا . ومن حكم أفلاطون : " لكل أمر حقيقة ، ولكل زمان طريقة ، ولكل إنسان خليقة ، فالتمس من الأمور حقائقها ، وأَجْرِ الأزمنة على طرائقها ، وعامل الناس على خلائقها " . تعريف الخطبة وأغراضها وأثرها تعريف : الخُطبة : بضم الخاء كلام منثور مسجوع ومرسل ، أو مزدوج بينهما ، غايته التأثير والإقناع . ويقصد بها هنا الخطب التي تلقى على المنابر يوم الجمعة ، بقصد حمل الناس على الخير ، وترغيبهم فيه ، وصرفهم عن الشر ودواعيه ، وتبصيرهم بأحوالهم وواقع أمرهم حسب ما يقتضيه أمر الشرع . والخطبة من جانب الخطيب مقدرة على التصرف في فنون الكلم ، مرماها التأثير في نفس السامع ومخاطبة وجدانه . أغراضها : الدعوة إلى الصلاح والإصلاح ، والاستمساك بأمور الشريعة ، وإقامة الحق العدل ، ونشر الفضائل ، وتسكين الفتن ، وفض المشكلات ، وتهدئة النفوس الثائرة ، وإثارة النفوس الفاترة ، ترفع الحق ، وتخفض الباطل ، هي صوت المظلومين ، وواعظ الظالمين ، ولسان الهداية ، ولقد نادى موسى عليه السلام ربه { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} ([1]) ، فجاءه الجواب الرباني : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)والغرض هنا الإشارات إلى مجمل الأغراض ، وسوف يزداد الأمر بيانا من خلال الحديث عن أنواع الخطب وخصائص الخطب المنبرية ، والفقرة التالية في أثر الخطبة تعطي مزيد بسط في المقصود . أثرها : لا يكاد ينجح صاحب فكرة ، أو ينتصر ذو حق ، أو يفوز داعية إصلاح ، إلا بالكلمة البليغة ، والحجة الظاهرة ، والخطبة الباهرة . الخطيب المفوه يلحق بحجته ، ويسبق إلى غايته ، فيعلو سلطانه ، ويتسع ميدانه . ولهذا فإن القائد المحنك في الجيش يتميز فيما يتميز بذرابة لسانه وحسن خطابه ، فيكون خطيبا مصقعا ولسنا مفوها ، ولا يذكر حين يذكر إلا منذر الجيش نبينا محمد ﷺ ومن بعده خطباء أصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، ثم من بعدهم من صالح سلف الأمة وأئمتها من علوا المنابر فأصغت لهم الآذان ودانت لهم الرقاب . ولئن كانت الخطبة في بعض مساريها أو مساراتها طريقا للمجد الشخصي ، فإنها في نبل غايتها وعظيم أثرها طريق للنفع العام والإصلاح الشامل . والخطابة مظهر حضاري للمجتمع الراقي المستنير ، يعلو قدرها ، ويروج سوقها برقي المجتمع ، وانتشار الثقافة فيه ، كما أنها تخبو حين ضعفه وذلته . وثمت جانب في التأثير آخر ينبغي مراعاته ، وهو أن تأثير الخطيب في سامعيه ليس بالإلزام أو الإفحام ، بل مرده إلى إثارة العاطفة ، وحمله على الإذعان والتسليم ، ولا يكون ذلك بالدلائل المنطقية تساق جافة ، ولا بالبراهين العقلية تقدم عارية ، ولكنه بإثارة العاطفة ومخاطبة الوجدان . ومن هذا فإن الخطيب فد يستغني عن الدلائل العقلية ولكنه لا يمكن أن يستغني عن المثيرات العاطفية ، ولعلك تدرك أن أكثر ما يعتمد عليه الخطيب في حمل السامعين على المراد مخاطبة وجدانهم والتأثير في عواطفهم . إن الخطيب المرموق -كما هو معلوم- يأخذ سامعيه باستدراجه اللبق وكلماته الساحرة وصوته العذب المتردد انخفاضا وارتفاعا وإثارة وهدوءا ينشئ جوا عاطفيا مشحونا ، وهذا معين في التأثير لا ينضب ولا يمل . أما البراهين العقلية فجافة تجلب السآمة . وحينما يذكر خطاب العاطفة وأثرها فلا يخطر بالبال أن ذلك يعني دغدغة العواطف بالكذب والتزييف ، ومخالفة الأقوال للأفعال فهذا حبله قصير بل ضعيف واه ، وهذا ما سيبدو موضحا في صفات الخطيب إن شاء الله . أنواع الخطبة الناظر في أغراض الخطبة ومقاصدها ومتطلبات المجتمع من ذلك يستطيع إدراك أنواعها ، وهذا سرد لأهم أنواعها : 1- الخطب النيابية : وهي الخطب التي تكون في دور النيابة والشورى عاكسة ما يجري داخل هذه القاعات من مناقشات ومداولات وأسئلة واستجوابات مؤيدة ومعارضة . 2- الخطب الانتخابية : وهي خطب تعد وتلقى من أجل الترشيح والتزكية لشخص أو حزب أو مبادئ ، مع ما يشتمل عليه ذلك من رد على المعارضين . 3- الخطب الثقافية : وهي ما يلقى في النوادي الثقافية والأنشطة العلمية والجامعية ، وهي في العادة تتخذ مسارا ثقافيا وأدبيا وعلميا واجتماعيا وتوجيهيا بما يبتعد عن الأغراض السياسية والقضائية والوعظ ، وتعلو النبرة فيه بما يعرف بالمعارك الأدبية بين المنتدين حسب اتجاهاتهم الأدبية ، شعرا ونثرا وتليدا وجديدا ، وهو في العادة خطاب لطبقة مثقفة متأدبة ذات تميز ثقافي خاص . 4- الخطب القضائية : ويظهر هذا النوع في دور القضاء وقاعات المحاكم ، حين ينبري المدَّعون بإلقاء حججهم والسعي في إثبات دعواهم ، فيقابلهم المحامون بالدفاع عن موكليهم بأسلوب خطابي بليغ مؤثر ذي ألفاظ وإلقاء متميز وحركات مدروسة . 5- الخطب العسكرية : وهي ما يلقيه قائد العسكر على جنده وزملائه بغرض بث الروح المعنوية والقتالية فيهم وبيان شرف موقعهم وكرم موقفهم وشرح خططه العسكرية والميدانية بأسلوب انفعالي مؤثر . 6- خطب المنبر والمواعظ : وهذا هو محل البحث والنظر والتفصيل هنا ، وهذا النوع يتجلى في أبهى صوره وكامل هيئته وانتظام شكله في خطب الجمعة المنبرية ، وهي خطب أسبوعية دورية تتخذ أغراضا عدة وترمي إلى مقاصد متنوعة نشير في هذا التعريف إلى نماذج منها ، إذ من المعلوم أن هذه المقاصد والأغراض تتجدد وتتنوع حسب حاجات الناس وتغير الأحوال وتقلب الظروف ودواعي التذكير . ** من هذه الأغراض : - تثبيت العقيدة وتقوية الإيمان . - الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وبيان مزاياه . - خطب الإصلاح ومحاربة المنكرات . - خطب ذات موضوع خاص أو مسألة مفردة من مسائل الإسلام كالصلاة والصوم وحقوق الوالدين والجوار وحرمة الزنا والخمر والسرقة ونحو ذلك ، مما مقصد التذكير والوعظ والتعليم ونحو ذلك . - معالجة القضايا المستجدة بنظرة شرعية . 7- أنواع أخرى : الأنواع السابقة ليست أنواعا حاصرة ولكنها تشير إلى الأنواع البارزة السائدة المتميزة في موضوعاتها ومقاصدها ، وثمت أنواع أخرى غير شهيرة ذات موضوعات ومقاصد أخرى ، كخطب النكاح والصلح والمدائح والمراثي والمناسبات الاجتماعية والمحافل الشعبية . إعداد الخطبة وبناؤها بعد ما سبق من مقدمات وممهدات في تعريف الخطبة وغرضها وأنواعها وأثرها هذا دخول في جزء مهم من مقاصد هذا البحث ، ذلكم هو جزء الإعداد والبناء ، وسوف ينتظم ذلك الحديث عن : عناصر البناء وطريقة البناء . توطئة لا يتوهم متوهم أن في إعداد الخطبة وتحضيرها ما يعيب القدرة أو يشكك في الأهلية ، ولكن المعيب أن يتفوه المتصدر للخطابة وحديث الناس بكلام مبتذل لا قيمة له هزيل في معناه متهدم في مبناه . على الخطيب أن يعلم أنه كالخائض غمار معركة عليه أن يتدرع بدروعها ويتترس بتروسها ويلبس لها لأمتها ، ولا يكون ذلك إلا بالاستعداد والتهيؤ وأخذ العدة لكل موقف . إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير إن لم يراجع نفسه حينا بعد حين ويفكر طويلا فيما يعتزم قوله ويزوق في نفسه أو قرطاسه من الألفاظ والعبارات المناسبة ، فلسوف يهتز موقفه ويضعف أسلوبه ويتراخى أداؤه ، ويتناقص عطاؤه ، وينحدر في منجرف الابتذال السحيق وتكون معالجاته سطحية تفقد تأثيرها وتخسر جمهورها . عناصر البناء من المعلوم مما سبق ويتأكد فيما سيأتي أن الخطبة وسائر الأعمال العلمية والأدبية تحتاج إلى أسس ثلاثة : قلب مفكر ، وبيان مصور ، ولسان معبر . فالأول يكون به إيجاد الموضوع وابتكاره وتوليده ، وبالثاني تنسيقه وترتيبه ورصه ، وبالثالث عرضه والتعبير به . وهذا بسط لهذه العناصر . الإيجاد والابتكار: (القلب المفكر) وقد يعبر عنه بالاختيار (اختيار الموضوع) . من المعلوم أن بواعث الاختيار متعددة ، والخطيب كلما كان صادقا في قصده ، مهتما بجمهوره وسامعيه ، جادا في طرحه محترما لنفسه ، فسوف يحسن الاختيار ، ويقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار وحسن الاختيار ، يضاف إلى ذلك الظروف المحيطة ، والأحوال المستجدة ، والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على بعض الأحداث والتفسير لبعض المواقف وتصحيح بعض المفاهيم ، ونظر الخطيب الحصيف يدله على تقديم بعض وتأخير بعض وحسن التفسير ونوع التعليق . التنسيق والترتيب: (البيان المصور) لا يخفى أن طريق البيان المصور هو الأسلوب . للأسلوب سلطان لا يضعفه العقل وأثر لا يمحوه الدليل ، الأسلوب ألفاظ وجمل ينطق بها المتكلم ويتحدث بها الخطيب لا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين وتمتد الأعناق له احتراما ، ألفاظ وجمل تثير في النفوس صورا لا حد لها ولا انحصار ، محفوفة بالإكبار والتقدير ، إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره فكيف يكون الشأن في المعنى المحكم وقد كسي بلفظ جميل وألقي بلفظ منسجم وعبارات تثير في النفس أخيلة وأماني ؟ وينبغي أن يلحظ أن ثمت فرقا بين أسلوب الخطابة وغيرها من ألوان الكتابة والآداب ، فالمستمع يتوجه نحو الخطيب بسمعه وذوقه وفكره فللكلمات أثر على السمع ، وللجرس في النفس وقع ، وللعقل فيه إدراك . ومن أجل هذا فينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة سهلة النطق لا يتعثر اللسان في إبرازها ، ولا تتزاحم حروفها فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد ، كما ينبغي أن تكون ذات جرس خاص يهز النفس ويثير الشعور ، وتكون الجمل ذات مقاطع قصيرة كل جملة كاملة في معناها . إن من أهم خصائص الأسلوب الخطابي عنصر الشعور والوجدان والإثارة والتشويق ، وإذا فقد ذلك فقد فقد أكبر خصائصه . أسلوب التكرار والتفنن في التعبير عنصر في الخطابة هام ، فالخطيب محتاج إلى تكرار فكرته ومغايرة تصويره ، فمرة بالتقرير ومرة بالاستفهام وأخرى بالاستنكار ورابعة بالتهكم . أما فن الإيجاز والإطناب فيختلف من حال إلى حال ، فيراعى حال السامعين في إقبالهم ومللهم ونوع الموضوع وظروف الإلقاء وردود الفعل عند السامعين . أما ألفاظ الخطبة وعباراتها فينبغي أن تتسم بالوضوح والبيان لتكون سهلة الإدراك من السامعين سريعة الإيصال إلى المقصود بعيدة عن الوحشي والتكلف . وفي ذات الوقت تبقى محترمة غير مبتذلة تحفظ للخطيب وخطبته الهيبة والوقار وللموقف مكانته وجلاله . فهي ألفاظ منتقاة في غير إغراب في أسلوب سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا يجفو عنه الأكفاء . ومن الحذق في المعرفة أن يدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير خطاب التألم ، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب ، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين ، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها . أما السجع فيجمل منه ما ليس بمتكلف قصير الفقرات ، سهل المأخذ يخف على السمع ، ويحرك المشاعر بحسن جرسه ، ويكون خفيفا سهلا إذا سلم من الغثاثة وجانب الركاكة ، اللفظ فيه تابع للمعنى وليس المعنى تابعا للفظ ، ذلك أن السجع حلية والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم تكن قليلة غير متكلفة حسنة التوزيع تبرز المحاسن ولا تغطيها . ويرتبط بالسجع رعاية المقاطع والفواصل فتكون جملا قصيرة نظرا للفائدة عند الوقوف في آخرها ، والجملة إذا طالت وتأخرت إفادتها للسامع أدركه الثقل والملل ، وضاعت عليه الفائدة وحسن المتابعة . اللسان المعبر: ويقصد به الإلقاء وحسن الإجادة فيه ، وقبل أن نبسط القول فيه يحسن التطرق لحديث مقارنة بين الارتجال والكتابة . بين الارتجال والكتابة : كثير من الكاتبين والناقدين يستحسنون في الخطيب أن يلقي خطبه ارتجالا ، فهذا عندهم أعظم أثرا وأكثر انفعالا وأقدر على إعطاء الموقف متطلباته من خفض ورفع وتهدئة وزجر ، وقد يدون المرتجل عناصر مقولته في كلمات أو جمل يعاود النظر إليها بين فينة وفينة . وقد يوجد في الخطباء من يعد الخطبة ويحسن تحبيرها ثم يحفظها حفظا عن ظهر قلب . والارتجال بأنواعه وطرقه لا يكون مؤثرا ما لم يسبقه إعداد محكم وحبك للعناصر في النفس على نحو ما سبق في الكلام على الأسلوب . وثمت فئة من الناس تكتب الخطبة وتلقيها من القرطاس وهو مسلك مقبول ، ولكن ذلك لا يؤتي ثمرته ولا يحقق غايته ، ما لم يكن الخطيب أحسن الإعداد وتأمل فيما كتب وأعاد النظر فيه تأملا وقراءة وإصلاحا وتخيرا للألفاظ وانتقاء للعبارات ، بحيث يكون في إلقائه متفاعلا مع ما يقول مستوعبا لما يلقي ليحرك المشاعر ويثير العواطف ويستحسن أن يكون في قراءاته وإلقائه مشرفا على السامعين بنظره بين فترة وأخرى ليعرف حالهم ويسبر مشاعرهم وانفعالاتهم . الإلقاء : هو الغاية التي ينتهي إليها الإعداد والبناء ، وهو الصورة التي يتلقى بها السامع حصيلة ما جاد به خطيبه ، فلا يبقى للخطبة أثرها ولا لحسن الأسلوب وقعه ولا لجودة التحضير ثمرته ما لم يصب في قالب من الإلقاء يحفظ الجهد ويبقي المهابة ويشنف الأسماع ، ومن أجل تحقيق ذلك يحسن مراعاة ما يلي : جودة النطق : فيخرج الحروف مخارجها من غير تشدق أو تكلف فيلقيها حسنة صحيحة واضحة في يسر وترفق وتدفق . مجانبة اللحن : ينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية صرفا ونحوا فينطق لغة عربية صحيحة فصيحة ، فاللحن يفسد المعنى ويقلب المقصود . وإذا فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحسن وقعها ، إضافة إلى فساد المعنى من حيت يدري أو لا يدري . التمهل في الإلقاء : النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض وتتداخل المعاني وتلتبس العبارات ، وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية الفواصل . ومن جهة أخرى فإن التمهل والترسل في الأداء من أول الدلائل على رباطة الجأش فيجمع للخطب الهدوء في الكلام ، والأناة في النطق ، والجزالة في الصوت . وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت ، ولكنه تمهل لا يعارض ما يطلب من الخطيب من خفض ورفع وعلو نبرات مما يبعث على الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة . الحركات والإشارات : للإشارات والحركات أثرها أثناء الحدث والخطابة ، ومن هذه الحركات ما هو لا إرادي فالغاضب يقطب جبينه ويعبس وجهه ، وذو الحماس تنتفخ أوداجه وتحمر عيناه ، ومنهم من تنقبض أصابعه وتنبسط ، ومنهم من يبكي خشوعا ورقة ويعلو صوته حماسا وتفاعلا . وبعضها إرادي من إشارات توجيهية يحتاج إليها في تنبيه لبعيد أو قريب ، إشارات تعكس الانفعال والمشاعر وتعين على مزيد من المتابعة والتوضيح . وينبغي أن تكون إشارات منضبطة بقدر معقول وانفعال غير متكلف ومتساوقة مع الشعور الحقيقي . طريقة البناء تبنى الخطبة عادة من ثلاثة أجزاء : المقدمة والموضوع والخاتمة . وهى عناصر لا يصرح بها أثناء الكتابة أو الإلقاء ، كما أنها عناصر متداخلة متناسقة ، يبلغ الترابط بينها جودته حسب مقدرة الخطيب وغزارة علمه وخبرته فتنتظم أجزاء الخطبة ويحكم تركيبها . وهذا الانتظام والإحكام يجعل المعاني واضحة والمقاصد ظاهرة ، ويضمن للمتحدث حسن الإصغاء من سامعيه وكمال الانتباه من جالسيه . وقد لا يلزم مراعاة هذه الأجزاء في كل خطبة لكن خطبة الجمعة غالبا ما تحتاج إليها نظرا لأنها خطبة طويلة غير قصيرة . المقدمة: ينبغي أن يهتم الخطيب بمقدمته وافتتاحيته ، فيأتي بعبارات الاستهلال التي توحي للسامع بمقصود الخطبة ، مما يشد الانتباه ويهيئ النفوس ، وقد يكون ذلك بآيات قرآنية زاجرة أو مرغبة أو بعض الحكم البليغة ، والافتتاحية هي أول ما يلقيه الخطيب على جمهوره ، فإذا ما فاجأهم بحسن التقديم استطاع متابعة بقية خطبته بانطلاق ونشوة وعاش مع جمالها اللفظي وسبكها الفني ومعناها الدقيق . وإن الناظر في افتتاحيات أوائل السور في القرآن الكريم يدرك ما تثيره في النفس من الإجلال والشوق والرغبة في المتابعة ، فترى الافتتاح حينا بالثناء على الله ﷻ وتسبيحه وتنزيهه ، وحينا بالنداء أو الاستفهام أو القسم مما يولد الرغبة في المتابعة ويولد اللهفة في الاستكشاف لدى كل ذي ذوق رفيع وحس مرهف . والمقصود أن يكون في صدر الكلام ما يدل على غاية المتحدث ، على أن من المعلوم أن خطبة الجمعة تفتتح بحمد الله والثناء عليه والشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ ويكون في هذه الألفاظ من حسن الانتقاء ما يدل على موضوع الخطبة ومقصودها . ومعروف عند المتقدمين من السلف -رحمهم الله- أن ما لا يبتدأ بالحمد فهو الأجذم الأبتر ، وما لم يزين بالصلاة على رسول الله ﷺ فهو المشوه . الموضوع: وهو مقصود الخطبة الأعظم ، وقد أشرنا في الكلام على أنواع الخطب إلى معظم مقاصد خطبة الجمعة . وقد يكون من المناسب التصريح به في مبتدأ الخطبة كأن يقول : أريد أن أحدثكم عن كذا . . إذا كان من قضايا الساعة التي يخوض فيها المجتمع ويتطلع إلى كلام شاف فيها . وقد لا يحسن التصريح به ، إما لأنه شائك أو يوجب انقسام الناس ، وفي هذه الحالة ينبغي أن يدخل إليه الخطيب دخولا متدرجا ، ويتناوله تناولا غير مباشر ، ليأخذ السامعين بتسلسل منطقي فيصل إلى مبتغاه باعتدال وتوازن متحاشيا الإثارة والانقسام ، ومن ثم يبلغ الخطيب غايته من تهيئة النفوس إن كانت عنه معرضة وإليه غير مقبلة أو كان حديثا في غير ما تألفه نفوسها . وموضوع الخطبة عادة ما يبتنى على ركنين أساسيين هما التعريف والإيضاح والاستدلال . التعريف والإيضاح: أما التعريف والإيضاح : فلا يقصد به ما يعتني به الباحثون المختصون من اللغة والاصطلاح ، ولكنه يكون بذكر الصفات والخواص والمزايا لذات الموضوع وقد يكون الاستعارات والتشبيهات وضرب الأمثال والإجمال ثم التفصيل وبالصلة والتضاد والتقابل . وانظر إلى هذا التعريف من علي t للمتقين من خلال أوصافهم ونعوتهم فهو يقول : " المتقون هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضوا أبصارهم عن الحرام ، ووقفوا أسماعهم على النافع من العلم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء ، ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب " . الاستدلال: أما الاستدلال : فغالبا يحتاج الموضوع إلى ما يدعمه بالأدلة والحجج والبراهين والشواهد وهي عادة ما تكون من الكتاب والسنة وأقوال السلف ، وإيراد بعض الوقائع والأحداث من باب القياس والاعتبار بل إن زيادة الإيضاح والبسط والبيان نوع من التدليل وكسب إقناع المستمعين بصدقها أو أهميتها أو خطورتها ، ومما يدخل في هذا الباب دخولا أوليا ربط الحاضر بالماضي وبخاصة تاريخ السلف الماضين ، فإن من النفوس من تحفظ تقديرا وإكبارا لسلفها المجيد ، وأصحابه الأماجد ، ولأمر ما قال الكفار : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } ([2]) ، وقالوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَ } ([3]) . ويفيد في هذا الباب النقل عن مشاهير الأئمة وحكمائها ممن عرفوا بالصلاح والإمامة والمروءة والزهد والشجاعة والورع حسبما يقتضي المقام ويناسب المقال . الخاتمة: بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه ، وسوق أدلته ، وضرب أمثلته وبيان دروسه ، وعبره ، وترغيبه وترهيبه ، يحسن أن ينهي خطبته بخاتمة مناسبة تجمع أفكاره ، وتلخص موضوعه ، بعبارات مغايرة ، وطريقة مختصرة ، لأن الإطالة في هذه الحالة تجلب الملل وتشتت الفكر . ولا ينبغي أن تحتوي على أفكار جديدة وأدلة جديدة لأنها حينئذ لا تكون خاتمة وإنما جزء من الخطبة وامتداد لها . وتكون الخاتمة قوية في تعبيرها وتأثيرها ، لأنها آخر ما يطرق سمع السامع ويبقى في ذهنه ، وإذا كانت ضعيفة في تركيبها فاترة في إلقائها ، ذهبت فائدة الخطبة ، ذلك أن من نجاح الخطيب أن يلقي خاتمته بثقة وطريقة مؤثرة ومقنعة ، وكأنه يشعر جمهوره بأنه قد انتهى إلى رأي ومسألة لا تقبل الجدل ولا تحتمل النظر . وقد تكون الخاتمة آيات قرآنية لم يسقها من قبل تجمع موضوعه في الترغيب أو الترهيب أو التدليل والإثبات ، وقد تكون حديثا نبويا يفيد ما تفيده الآيات القرآنية . وقد يكون إعادة لعناصر الخطبة بأسلوب مغاير -كما أسلفت - وبطريقة جامعة واضحة ذات تأثير قوي . هذا ما يتعلق في بناء الخطبة وثمت مسائل لا يسع الكاتب إغفالها من أجل استكمال التصور الشامل عن الخطبة وحسن إعدادها وهي مسائل ثلاث : وحدة الموضوع ، الجدة والتغيير ، طول الخطبة . وحدة الموضوع: ينبغي الاقتصار على موضوع واحد تستوفى عناصره ، وتحبر كلماته وتعمق معالجته ، لأن تشعب المواضيع وتعدد القضايا في المقام الواحد يشتت الأذهان ، وينسي بعضها بعضا ، ويقود إلى الإطالة المملة والصورة الباهتة وسطحية المعالجة . الجدة والتغيير: ويعني ذلك ألا يلتزم الخطيب طريقا واحدة أو وتيرة واحدة في أسلوبه وطريقة إلقائه ، بل يكون استفهاميا تارة ، وتقريريا أخرى ، وضربا للأمثال ، وتلمسا للحكم والأسرار ، مع ما يطلب من معايشه الأحداث ، ومتابعة المتغيرات ، وتلمس حاجات الناس وتوجيههم وتبصيرهم تمشيا مع أثر هذه المتغيرات عليهم . على أن الخطب المنبرية بطبيعتها قد تستدعي تكرارا لبعض مواضيعها إن لم يكن كثيرا منها ؛ لأن من أعظم أغراضها ومقاصدها الدعوة والتذكير . والتذكير في حقيقته يعني الحديث عن شيء سبق علم السامع به فهو تنبيه لغافل ، وحث لمقصر ، مما تستدعي التجديد في الطرق والأسلوب والمعالجة ، كالتوحيد والعبادة والصلاة والصوم والزكاة وبر الوالدين والمحرمات من الربا والزنا والخمر والزور وأكل أموال الناس بالباطل وأمثالها مما يجب مراعاة التجديد في طرقها والتغيير في عرضها . طول الخطبة: من المعلوم أن معالجات المواضيع تختلف باختلاف محتواها وظروفها وسامعيها ، ففي بعض الظروف يحسن البسط والإطناب ، ويكون السامعون مستعدين لاستماع ، كما هو مشاهد في ظروف الأزمات والأوضاع ذات النقاشات الحادة والأحوال المتوترة ، كما أن بعض الخطباء عنده من الجاذبية وحسن العرض والإلقاء ولطف التودد والأخذ بالألباب ومجامع العقول ما يجعلهم يطلبون المكوث حول خطيبهم ويقبلون منه الإطالة ، إن هذه ظروف وأوضاع لا تنكر ولكن الحال الأغلب والواقع الأعم أن النفوس لها حد تحسن فيه الاستماع وتدرك فيه المعاني ، بعده تتشبع وتقف ويصبح الكلام عندها مملولا ، والكلام ثقيلا ، وينسي بعضه بعضا ، فالوصية العامة للخطباء أن يجتنبوا الإطالة ويجنحوا إلى الاعتدال وتغليب جانب الاختصار على الإطناب في أعم الأحوال ، وقد قال عليه الصلاة السلام : { إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه } ([4]) . ويحسن من الخطيب أن يعود سامعيه على زمن معتدل ثابت يلتزمه فإنهم إذا خبروه بانضباطه ودقة التزامه أحبوه ولازموا حضوره . ومن الخير للخطيب وجمهوره أن ينفضوا وهم متعلقون بخطيبهم من غير ملل أو سآمة . صفات الخطيب وآدابه لكل خطيب متميز خصوصيته: مهما كانت الأفكار بديعة ، والابتكارات متميزة ، والاختيارات قوية ، والأسلوب رصينا ، والإلقاء عاليا ، فلن تتحقق المثالية والأنموذجية للخطبة بهذه العناصر وحدها ؛ لأن هناك عاملا مهما لا يجوز إغفاله ، إنه خصوصية الخطيب وانفراديته ، وبعبارة أخرى انصهارية هذه العناصر وانسجامها ، وهذا لا يتأتى إلا من خلال الخطيب وشخصيته وتكامل موهبته وخصائصه العلمية والفنية . إن الخطبة كاللباس المفصل على القامة لا يظهر جماله ولا يتكامل بناؤه إلا بقدر انسجامه على بدن اللابس . إن جودة اللباس وحسن لونه ونوع خياطته ودقة تفصيله لا تكفي في إعطاء الملبس الحسن إلا بعد اتساق ذلك مع قامة اللابس وبدنه ، ولهذا فإن الخطبة الجيدة مستوفية العناصر لو ألقاها غير صاحبها لما ظهرت بذات القوة والتأثير والجمال والتأثر . إذا كان الأمر كذلك فينبغي للخطيب المتطلع للنبوغ والإبداع أن يعرف مواهبه الخاصة ويحسن صقلها وتنميتها ، ويستقل بالابتكار والاختيار والأسلوب والإلقاء ، لأن المداومة على التقليد والمحاكاة وإطالة الاقتباس لا تنتج خطيبا متميزا ذا خطب مثالية والله المستعان على الإحسان والإخلاص . وهذا عرض لما ينبغي أن يكون عليه الخطيب من صفات وما يتحلى به من آداب . صفات الخطيب : تنقسم الصفات المبتغاة في الخطيب إلى نوعين : صفات فطرية وصفات مكتسبة . الصفات الفطرية: ويقصد بها الصفات الذاتية لدى الخطيب من الاستعداد الفطري والسليقة الطبيعية ، من طلاقة اللسان ، وفصاحة المنطق ، وثبات الجنان وصوت جهوري ، وأداء متوثب ، ولسان مبين سليم من عيوب الكلام كالفأفأة والتأتأة . مخارج الحروف عنده صحيحة . والخطيب كغيره من المربين والموجهين يحتاج إلى عقل راجح يقوده إلى البحث المركز ، والملاحظة الدقيقة ، وحسن المقارنة ، والمعرفة بطبائع الأشياء ، وسلامة الاستنتاج ، مع يقظة حية وبديهة نيرة يضم إلى ذلك الجرأة والشجاعة والثقة بالنفس ورباطة الجأش وهذه الصفات تتوثق مع قوة التكوين العلمي وجودة التحضير وطول الخبرة . الصفات المكتسبة: وهي صفات ينالها الخطيب بالدراسة والمران والدربة ويمكن تفصيل ذلك فيما يلي : 1- القراءة والاطلاع والتحصيل الكافي من العلم : لا بد للخطيب صاحب الموهبة الفطرية من تهذيب فطرته هذه وصقلها بالعلم والدراسة ويتركز ذلك في عدة مسارات : (أ) علوم القرآن والسنة : وهذا هو لب بضاعته ، والسبيل إلى تحقيق عنايته ، ينضم إلى ذلك إلمام بالسيرة وتاريخ الأمة وأئمتها ودراية بأحكام الشريعة ، وقد تحسن العناية بأنواع من العلوم التي تفيد في معرفة أحوال الأمم وسنن الله في التغيير كالعلم بمناشئ الأمم ومراحل التاريخ وعلم الأخلاق والنفس والاجتماع . (ب) الإكثار من الاطلاع على الكلام البليغ والنظر في أقوال البلغاء متأملا في مناحي التأثير وأسرار البلاغة متذوقا جمال الأسلوب وحسن التعبير ، فهذا مما يشحذ القريحة ويذكي الفطنة . (ج) تحصيل ثروة كثيرة من الألفاظ والأساليب ، فالخطيب يحتاج إلى عبارات وأساليب متنوعة للمعنى الواحد ليتمكن من إيصال المعنى لطبقات السامعين ورفع السآمة عن نفوسهم ، ولا يخدمه في ذلك إلا ثَرَّة لغوية ثرة من أجل أن يأخذ بنواصي البيان ، فيلقي جملا تثير خيال النفس ، وتهز مشاعر الوجدان ، فتنشط الأسماع وتشرئب الأعناق وتتفتح القلوب للعبارات المحكمة والمعاني المتقنة ، وبهذا ينطلق اللسان ، ويظهر البيان ، وتتشنف الأسماع . 2- الدربة والمران : الخطابة ملكة لا تتكون في دفعة واحدة بل إنها معاناة وممارسة ومران ، وإذا كانت الخطابة فكرة وأسلوبا وإلقاء محكما فإن المران ينبغي أن ينتظمها كلها . ففي باب الفكرة عليه أن يتعود ضبط أفكاره ووزن آرائه وحسن الربط بينها ليأخذ بعضها برقاب بعض ويوصل بعضها إلى بعض بتسلسل منطقي مرتب . وفي باب الأسلوب -كما سبق- الإحاطة بالقول البليغ وحفظ كثير من عيونه وحسن استخدامها . أما الإلقاء -فكما سبق أيضا- يجمل بالخطيب إجادة الدقة في مخارج الحروف وحسن أدائها بترسل وتخير نبرات الصوت الملائمة انخفاضا وارتفاعا غير هياب ولا وجل . وإذا ما تم له ذلك أصبح واثق العلم رصين الأسلوب ، رابط الجأش ، مطمئن النفس ، ثابت الجنان ، ولو حصل عكس ذلك أو قل مرانه لأحاط به الاضطراب والضعف وهان في أعين الحضور واضمحل تأثيره وذهب كلامه هباء وتصبب عرقا وغرق في الحيرة والدهشة وعلاه الإرتاج والإفحام . إضافات وصفات وآداب عامة إضافات : هذه أساسيات التحصيل العلمي والدربة وهناك ملاحظات متعلقة بها يحسن بالخطيب رعايتها ، منها : تجنب الخوض فيما لا يعلم : على الخطيب الابتعاد عن الخوض فيما لا يعلم فإن هذا موقع في الارتباك والحديث غير المفهوم ، فتضيع الهيبة والوقار ويصبح محل التندر مما يمنع الاستفادة والقبول وينفر الجمهور . مخاطبة الناس بما يعرفون : من الخطأ وقلة الفقه في خطاب الناس الخوض في دقائق العلوم والمعارف ، وتفاصيل المباحث إثباتا أو نفيا ونقاشا علميا والغوص في الخلافات العلمية والفقهية مما مجاله حلق العلم وقاعات الدراسة ، ناهيك بمن يخوض في العلوم التجريبية والعلوم البحتة من طب وتشريح وفلك وجيولوجيا ودقائق خلق الإنسان والحيوان ومكونات الأرض والصخور مما لا تدركه فهوم عموم المستمعين فهذا يمنع الفائدة ويُجَرِّئ على الاستهانة بالخطيب وموضوعه . مراعاة مقتضى الحال وأحوال السامعين : لكل مقام مقال ، ولكل جماعة لسان ، فالحديث إلى العلماء غير الحديث إلى الأغنياء ، والحديث إلى العامة غير الحديث إلى العلية ، وخطاب الأميين غير خطاب المثقفين ، والكلام في حالات الأمن يختلف عنه في حالات الخوف ، وقل مثل ذلك في اختلاف الظروف وتقلبات الأحوال من غنى وفقر وصحة ومرض ورخاء وجدب ، ومخاطبة الثائرين غير مخاطبة الفاترين ، فالثائر يقمع والفاتر يستثار . والمتكلم المجيد يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار السامعين وأقدار الأحوال ، فيجعل لكل طبقة كلاما ولكل حال مقاما ، فيقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني وأقدار المعاني على أقدار المقامات . ناهيك بمراعاة الفروق بين خطاب أهل القرية النائية والمدينة المكتظة فصخب المدينة وأحداثها غير عزلة القرية ومحدوديتها . آداب يلتزم بها : يضاف إلى ما سبق من الصفات فطريها ومكتسبها بعض آداب تفيد في تحقيق النفع وبلوغ الأثر وحصول القبول . صدق اللهجة : لا بد أن يظهر الخطيب مخلصا صادقا حريصا على قول الحق والعمل به والدعوة إليه ، فهذا ينبت الفقه ، فلا يسرف في مدح ولا ذم ولا وعد ولا وعيد ، يبتعد عن فاحش القول وبذيئه ، يستغني بالكناية عن التصريح فيما يستهجن فيه الإيضاح ، فعفة اللسان ونزاهته دليل على نزاهة القلب وصفائه . التودد للسامعين : ينبغي للخطيب أن ينحو منحى الرفق والتبشير والتيسير قدر المستطاع ، فمن أظهر المحبة كان أجدر بأن يستجاب له ، ومن أغضب واستثار كان أحرى بأن يرد قوله . ومما يدخل في هذا الباب البعد عن العجب والحديث عن النفس وتجنب الأغراض الشخصية ، فظهور الغرض الشخصي يجعل للريبة مدخلا ، فحقه أن يسبقهم في المكارم ، ويقدمهم في المغارم ، ويقدمهم في المغانم . الورع والصلاح : الورع والتدين والعفة والصلاح من أدل الدلائل على الصدق والإخلاص وتجرد الإيمان والبعد عن الأغراض والأهواء ، فعلى الخطيب أن يتسربل بسربال التقوى ، ويتدثر بدثار الاستقامة . اليقين العميق والاقتناع الشخصي : يجب أن يكون الخطيب شديد الثقة بما يقول ، صادق اليقين بما تفيض به نفسه وينطق به لسانه ، إذ لا يؤثر إلا المتأثر ، وما كان من القلب فهو يصل إلى القلب . إن قوة الاعتقاد وصحة اليقين تكسب الكلام حرارة ، والصوت تأثيرا ، والألفاظ قوة والمعاني روحا ، وكل ذلك يولد جوا عاطفيا حول الخطيب يجعل كلامه متصلا بوجدانه . صفات وآداب عامة : ما سبق لم يكن حصرا للصفات والآداب ، ولكنها إشارات بينها ترابط في ثناياها إشارات إلى غيرها مما قد تراه مبسوطا في مراجع أخرى ، فالحديث في ملك هذه الصفات والآداب يعمق ويتشعب ، وبخاصة في مثل الخطيب والموجه المربي والمعلم ورجل الدعوة فهم أمثلة تحتذى ويوجهون بأعمالهم وصفاتهم قبل أقوالهم وعلومهم ، وهاك سردا لبعض الصفات لتدلك على ما قلنا ، مما لا ينبغي أن يغفل عنه الخطيب وأمثاله ويتعاهد نفسه بفحصها وتجديد تقويتها في ذاته والالتزام بها من الحلم ، وسعة الصدر ، والتواضع ، والصبر ، والقوة ، والحنو على الناس ، وخدمتهم وإظهار الشفقة عليهم ، وتجنيبهم الجدل والخصام ، وأثر ذلك على عمله ومهمته وقومه لا يخفى إيجابا في الالتزام وسلبا في الخلل والتقصير ، والله المستعان . مصادر الخطبة يتم إعداد الخطب المنبرية وجمع عناصرها من المصادر والمراجع الإسلامية ، والكتابات الاجتماعية والتربوية والثقافية ، وإليك استعراض إجمالي لبعض هذه المصادر وكيفية الاستفادة منها : 1- القرآن الكريم وتفسيره : ويمكن أن تكون الاستفادة في تقديري على طريقين : أحدهما : باستعراض النصوص القرآنية وجمعها وحسن ترتيبها ، وهذا يكون في موضوعات الخطب التي عرض لها القرآن بتفصيل واسع ، كالإيمان والتوحيد والتقوى وأحوال القيامة واليوم الآخر والجنة والنار وقصص الأنبياء وأشباه ذلك ، فجمع الآيات واستعراضها يعطي تكاملا وشمولا وبيانا لدى السامع ، قد لا يدركه لو قرأ الآيات في مواضعها من المصحف . ويتبع الجمع الاطلاع على تفسير هذه الآيات ألفاظا وإجمالا ، ومن ثم الربط بين هذه الآيات ، ومن المعلوم أن حسن الربط يعطي مزيد إيضاح وبيان حتى كأن السامع لم يقرأ الآيات من قبل . ثانيهما : إذا كان موضوع الخطبة مما لم يرد تفصيله في القرآن الكريم ولكن ليستدل له بآيات من القرآن ، فهذه يفيد فيها استعراض المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ليكون الاستيعاب أتم وأوفى ، فاللفظة ترد في القرآن الكريم على وجوه وتصريفات متعددة ، ومن المفيد جدا استعراض هذه الوجوه وتدقيق النظر فيها وربطها بنظائرها ، ومراجعة أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم ، ولسوف يجد الخطيب إشارات قرآنية بليغة وفهوما للعلماء دقيقة وأسرارا من المعاني عميقة تجعل خطبته تحتل مكانا مرموقا لدى سامعيه ومتابعيه . وغني عن البيان أن كتب التفسير تتنوع في تناولها وطرائق تفسيرها ، فمنها ما يهتم بالمأثور ومنها ما يعتني بالرأي وفيها اللغوي والإجمالي وغير ذلك من أنواع التفسير في كتب التفسير قديمه وحديثه . 2- الحديث الشريف وشروحه : ما قيل في القرآن الكريم يقال في الحديث الشريف فهو المصدر الثاني من مصادر الإسلام ، والحديث النبوي أكثر تفصيلا وسعة من القرآن الكريم فهو شارح القرآن ومبينه ، وقد حوى من التفصيل والبيان ما زخرت به مدونات السنة يضم إلى ذلك شروح أهل العلم وفهومهم واستنباطاتهم ، مما يوفر للخطيب معينا لا ينضب فيما يتوجه إليه من موضوعات . 3- مصادر إسلامية قديمة : وهي ما عدا التفسير وشروح السنة من كتب العقائد والأحكام والمواعظ والأخلاق والرقائق وغيرها ، يختار منها الخطيب ما يناسب موضوعه تأصيلا واستدلالا وأسلوبا ، ويذكر على سبيل المثال مدارج السالكين ، وزاد المعاد لابن القيم -رحمه الله- ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية والإحياء للغزالي ومختصره ، مع ما ينبغي من الحيطة في بعض ما في الكتاب من ملاحظات ، وصيد الخاطر لابن الجوزي ، وأدب الدنيا والدين للماوردي وروضة العقلاء للبستي ، وجامع العلوم والحكم لابن رجب . 4- كتب الأدب القديم والحديث : وهذه يعتني بها الخطيب من أجل رقي الأسلوب ، وتخير الألفاظ ، وانتقاء الكلمات والعبارات الجزلة الأخاذة ذات الوقع المتميز على السامع ، ومن هذه الكتب القديمة البيان والتبيين للجاحظ ، وصبح الأعشى للقلقشندي ، والخطب المنسوبة لعلي بن أبي طالب t فأسلوبها متميز والصناعة اللفظية فيه عالية ، على ما يتعين على الخطيب من ملاحظة المعاني الصحيحة التي لا تخالف مقاصد الشرع وأصوله . ومن الكتب الحديثة مؤلفات الرافعي ، والخضر حسين ، ومحمد محمد حسين ، والعقاد ، وأحمد حسن الزيات ، والسيد أحمد الهاشمي وأمثالها . 5- الكتب المؤلفة في الإسلام والقضايا المعاصرة : تزخر الساحة العلمية والأدبية بكتب إسلامية معاصرة جيدة ، توفر للخطيب ثروة هائلة في إعداد مواضيعه وبخاصة الاجتماعية منها والتربوية وقضايا العصر وأحداث الوقت ، فهي تتحدث بلغة معاصرة جيدة وبمعالجات مناسبة يحسن من الخطيب كثرة المطالعة فيها ، وبخاصة كتب المعروفين بحسن إسلامهم ، وصحة منهجهم ، وسلامة قصدهم ، مثل محمد الخضر حسين ، وسلسلة دعوة الحق التي تصدرها رابطة العالم الإسلامي وغير ذلك . 6- المؤلفات في الخطب : وهي مؤلفات خاصة تشتمل على خطب الجمعة ، ألقاها مؤلفوها في مواضيع متنوعة ، والسوق المكتبية ملأى بهذا النوع من المؤلفات يجدر بالخطيب وبخاصة في بدايات عمله الخطابي أن يطلع عليها ، وهذه المؤلفات غالبا ما تحتوي على مواضيع متشابهة في الطرح من الإيمانيات والمواعظ والقضايا الاجتماعية ، مما يتيح للخطيب المبتدئ فرصة المقارنة بين مناهج الخطباء وطرق عرضهم وأساليب طرحهم مما يعينه على رسم خط متميز لنفسه ، ولهذا ينبغي الاطلاع على هذه المؤلفات في بدايات الممارسة الخطابية ، حتى إذا اشتد عوده واتسعت مداركه ومعارفه استقل بنفسه ، وتوجه إلى المصادر الأصلية ، فصار ينشئ الخطب ويرسم لنفسه خطا خاصا وطريقا منفردا ، ومن المؤلفات في هذا الباب خطب المراغي والبيحاني والشيخ عبد الله خياط ، والشيخ محمد بن عثيمين ، والشيخ صالح الفوزان ، والشيخ محمد بن سبيل . 7- الصحف والمجلات : يجدر بالخطيب مواكبة الأحداث ومسايرة الوقائع ، ويفيده في ذلك الاطلاع على الصحف والمجلات ليتابع الأحداث المستجدة ، ويمعن النظر في المقالات والتعليمات والتعليقات التي تواكب الحدث ، ففيها ثراء وتوسيع لمدارك المتابع ، وبصر بتفسير الأحداث ، مما يهدي الخطيب إلى النظرة المتوازية وبخاصة إذا كثر اطلاعه على الكتابات والتعليقات الصحفية للكتاب المرموقين . وقد تكون المجلات أكثر إفادة لأنها تعالج بعمل أكبر ، فإذا كانت الصحافة تهتم بالحدث اليومي السريع ، فإن المجلة تدخل إلى الحدث بعمق أكبر . وهناك مجلات إسلامية وعلمية متخصصة ينبغي مزيد الاعتناء بها لما تحتويه من مادة علمية مؤصلة مدللة تعين الخطيب على غايته ، مثل مجلة البحوث الإسلامية ، والدعوة ، والبيان ، والإصلاح ، والمجتمع . خلاصة ونتائج ويمكن تلخيص مجمل الصفات والخصائص التي ينبغي أن تشتمل عليها الخطبة في النقاط التالية : 1- يحسن الاقتصار على موضوع واحد غير متشعب الأطراف ولا متعدد القضايا ، إذ إن ذلك في الغالب يشتت الأذهان وينسي بعضه بعضا ، فمهما كانت العبارة بليغة ، والأسلوب منمقا ، والفكر متدفقا ، فإنه لا يستطيع مع الإطالة وتنوع الموضوعات إعطاء صورة متكاملة مجتمعة الأفكار واضحة المعالم . 2- ينبغي عدم التعرض لذكر الخلاف في الفروع ، والانطلاق من المسلمات في الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم ، وفي ذلك متسع ثر في الوعظ والإرشاد والتوجيه ، وبهذا تؤدي الخطبة دورها في جمع الكلمة والتمسك بشعب الإيمان ، وما أكثر الفضائل والعزائم التي تناسب ميادين التوجيه والتذكير والمواعظ . 3- الحرص قدر الإمكان أن يلائم موضوع الخطبة الأحداث الجارية والملابسات الواقعة في دنيا الناس ومخاطبة جماهير السامعين . وإن مما يزري بالخطيب أن تكون الخطبة في واد والناس والزمان في واد آخر ، وإن في نزول كتاب الله منجما ما ينبه إلى ذلك . 4- مجاراة الأحداث والتمشي مع الواقع لا ينافي المطالبة بأن يتخول الخطيب جمهوره بالتذكير بفرائض الإسلام ترغيبا ، وبمحرماته ترهيبا ، من الصلاة والزكاة والصوم وحقوق الوالدين والجوار ووجوه البر وأنواع الصلات وتحريم الزنا والخمر والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل وأمثالها ، وتعطير أسماعهم بين فينة وفينة بذكر سير السلف الصالح بدءا بالقدوة الأولى والرحمة المهداة نبينا محمد رسول الله ﷺ ثم صحابته من بعده والتابعين لهم بإحسان ، وذكر أمجاد المسلمين والتنبيه إلى ينابيع الحضارة الإسلامية اليانعة المتجددة ، ففي ذلك زرع للفقه في النفوس وربط للمستقبل المأمول بالماضي المجيد وتأكيد للإيمان بالرسالة العالمية وتأصيل للهوية الإسلامية . 5- يحتاج الخطيب في بعض الظروف والأحوال والمجتمعات إلى تنبيه المسلمين إلى الأخطار الإلحادية والفلسفات الأجنبية والنزعات المنحرفة والنحل الباطلة ، وفي هذا الباب والمسلك يحسن بالخطيب أن يتوجه إلى بيان حقائق الإسلام بقوة من غير خوض في أسلوب جدلي عقيم أو تجريحي مبلبل ، ففي نصاعة الإسلام وقوته -بحمد الله- ما يكفي لدحر الباطل وافتراءات أهله . 6- الخطيب طبيب فعليه قبل وصف الدواء تشخيص الداء ، فيتعرف على العلل والأمراض الشائعة ويشخص الداء ويعرف الأعراض ، فإذا استبان له ذلك رجع إلى الكتاب والسنة فوضع الدواء ، وكلما دق التشخيص سهل العلاج ، ومعلوم أن الواعظ غير المتبصر سيأتي بما لا يناسب ، وإذا أخطأ في تحديد العلة فقد تكون الخطبة لغوا على الرغم من شمولها على نصوص صحيحة . 7- اهتمام الخطيب بخطبته وعنايته بالتحضير الجيد دليل على احترامه لنفسه وسامعيه ومنبره . 8- الحرص على الإيجاز قدر الإمكان ، والقدرة على ذلك تنبع من عمق الثقافة وقوة التحصيل ووضوح الصورة والإدراك التام لما يريد الحديث عنه والنفس البشرية لا تزكو فيها المعاني إلا إذا أمكن تحديدها وتقويمها . أما كثرة الكلام وبعثرة الحقائق فتحول السامح إلى شبه إناء قد امتلأ وبدأت تسيل منه الكلمات مهما بلغت نفاستها ، ومن الخطأ الفادح أن يظن الخطيب أن عليه أن يقول ما عنده وعلى الناس أن ينصتوا طوعا أو كرها . وبعد فهذا ما تيسر جمعه وتدوينه سائلا المولى جلت قدرته وعز شأنه أن يهدي للتي هي أقوم من العمل ، والأحسن من القول ، ويوفق للإخلاص في القول والعلم والعمل ، وما كان من صواب هنا فمن الله وما كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ، ورحم الله من أهدى إليَّ عيوبي ، ولا عدمت أخا يدمح زلة ، وينبه إلى غلطة ، وكفى بربك هاديا ونصيرا وصلى الله وسلم على خير خلقه ، نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ([5]) . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} ([6]) . (الجمعة : الآيات 9- 10- 11) . ([1]) سورة طه آية : 25-28 . ([2]) سورة الزخرف آية : 22 . ([3]) سورة البقرة آية : 170 . ([4]) مسلم الجمعة (869) ، أحمد (4/263) ، الدارمي الصلاة (1556) . ([5]) مصادر البحث : الخطابة وأصولها وتاريخها في أزهر عصورها عند العرب . محمد أبو زهرة . الخطابة وإعداد الخطيب . دعبد الجليل شلبي . قواعد الخطابة وفقه الجمعة والعيدين . دأحمد أحمد غلوش . كيف تكون خطيبا . عبد الرحمن خليفة . ([6]) سورة الجمعة آية : 9-11 .