البحث

عبارات مقترحة:

الحق

كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الحليم

كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...

التغيرات الكونية

العربية

المؤلف عبدالعزيز بن محمد السدحان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. الآيات الكونية دالة على عظمة الله .
  2. الأمر بالتفكر في عظيم صنع الله .
  3. النظر إلى الآيات نوعان .
  4. نظر البصير يثمر في القلب .
  5. الربط بين التغيرات الكونية والأمور الشرعية لشحذ الهمم .
  6. أمثلة على ذلك . .
اهداف الخطبة
  1. بيان كيفية التعامل الشرعي مع التغيرات الكونية
  2. تذكير النفوس بتعظيم الله عز وجل .

اقتباس

الناظر والمتأمل في آيات الله تعالى لا يملك إلا الخضوع والاعتراف بعظمة الخالق، وأنه تعالى لا ند له ولا مثيل ولا شبيه ولا نظير

إن الحمد لله نحمده ونستعينه...

 أما بعد:

فإن هذه التغيرات الكونية التي تحسها ونستشعرها هذه الأيام ينبغي ألا تمر علينا عبثاً دون تأمل أو تدبر، فها نحن نرى تلك التغيرات بين حين وآخر ولا نستطيع فعل شيء تجاه هذا التغير الكوني، بل لو اجتمعت الإنس والجن والملائكة وكان بعضهم لبعض ظهيراً فلن يستطيعوا فعل شيء إلا بإذن خالقهم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص:71-73].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى:

"يقول الله تعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما، وبيّن أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة لأضَرَّ ذلك بهم ولسئمته النفوس وانحصرت منه، ولهذا قال تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ) أي تبصرون به وتستأنسون بسببه (أَفَلا تَسْمَعُونَ)، ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمداً أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة لأضَر ذلك بهم، ولتعبت الأبدان وكلّت من كثرة الحركات والأشغال، ولهذا قال تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم... ) إلخ. ما قال رحمه الله تعالى.

وسنقف جميعاً ثلاث وقفات مع هذه التغيرات:

الوقفة الأولى:

معاشر المسلمين:

إن من المعلوم لدى الجميع يقيناً أن آيات الله تعالى لا تعدّ ولا تحصى، وهذه الآيات على اختلاف أجناسها وأنواعها وألوانها تدل على عظم خالقها وبارئها.

وفي كل شيء له آية

 تدل على أنه واحد

والناظر والمتأمل في آيات الله تعالى لا يملك إلا الخضوع والاعتراف بعظمة الخالق، وأنه تعالى لا ند له ولا مثيل ولا شبيه ولا نظير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [بالشورى: 11]، فلا إله إلا الله ما أتقن صنعه وما أعظم تدبيره، فهو المستحق للحمد وهو المعبود بحق، له الأسماء الحسنى والصفات العلى (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر:22-24].

ولقد أخبر الله تعالى في كتابه عن عظيم خلقه لهذه الآيات لحكم كثيرة منها: أن يزداد العباد تعظيماً لخالقهم وبارئهم كلما رأوا تلك الآيات تترى عليم صباح ومساء، فمن ذلك قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يّـس:37-40].

 
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس:5].

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس:6]. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء:12]. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:32-34]. (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس:24-32].

(يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار:6-8].

(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [لقمان:10-11].

 (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم:20-27].

وقال عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الروم:46]. (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم:49-50].

معاشر المسلمين:

لقد أمر الله تعالى عباده بالنظر والتأمل والتفكر في عظيم صنعه وعجيب قدرته؛ ليزدادوا يقيناً بأن الله هو الحق وأنه تعالى هو العلي الكبير والآيات في هذا الشأن كثيرة. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ )  [الأعراف: 185].

 
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [قّ:6-11].

 (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية:17-20]. (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت:19-20]. إلى غير ذلك من الآيات.

الوقفة الثانية:

أن ينظر العباد إلى هذه الآيات نظرة بصيرة وإمعان لا نظرة بصر فحسب، وشتان ما بين النظرتين فنظرة البصيرة تزيد صاحبها إيماناً وإخباتاً وخشوعاً لله تعالى وأما نظرة البصر المجردة من ثمرتها القلبية فقد تكون حجة على صاحبها.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

" والنظر في هذه الآيات وأمثالها نوعان: نظر إليها بالبصر الظاهر فيرى مثلاً زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود، والأمر الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأرضيين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإسعاد قوم وشقاوة آخرين..."

إلى أن قال رحمه الله تعالى: "فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيبته، خاشعاً لعظمته، معايناً لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر ما أبركه وأروحه وأعظم ثمرته وربحه، وأجلّ منفعته وأحسن عاقبته، سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

اللهم ارزقنا البصيرة في آياتك وزدنا بك علماً ولك حباً ومنك خشية.

 الخطبة الثانية

الحمد لله...

معاشر المسلمين:

الوقفة الثالثة:

أن نتعامل مع هذه الآيات، ونوطن أنفسنا على أن تكون تلك الآيات أو التغيرات شاحذة للهمم والعزائم في المضاعفة من عمل الطاعات واجتناب الخطيئات، ولقد كان بعض الصالحين يقول: "ما سمعت الأذان قط إلا ذكرت منادي الحشر، ولا رأيت تساقط الثلج إلا تذكرت تطاير الصحف". ولقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم على ربط تلك التغيرات بخالقها، ورغبهم في الخير، وذكر كل تغيّر بما يقابله من الأمور القدرية والشرعية، وفي ذلك أمثلة كثيرة يكتفي بإيراد ثلاثة منها:

المثال الأول:

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلَّوا وتصدقوا. يا آمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، اللهم هل بلغت" رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

فانظروا كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا التغيّر الكوني، وجعل ذلك التعامل نصب أعين أصحابه كلما شاهدوا ذلك التغير، ففي الحديث السابق بيّن صلى الله عليه وسلم أن ذلك التغير بتقدير الله عزّ وجلّ، وأن الشمس والقمر لا يملكان لأنفسهما نفعاً ولا ضراً، بل هما خلق من خلق الله تحت مشيئته وإرادته مسيرين بأمره حيث يشاء، كما أبطل صلى الله عليه وسلم معتقد أهل الجاهلية في أن حدوث الكسوف لا يكون إلا لموت عظيم أو ولادة عظيم، كما جاء في رواية بلفظ "لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته" وشحذ صلى الله عليه وسلم همة أصحابه عند حدوث ذلك التغير إلى المسارعة والمضاعفة من فعل الخيرات، كما بيّن صلى الله عليه وسلم أن حدوث ذلك التغير علامة على تخويف الله لعباده، ليزدادوا رهبة من الشر ورغبة في الخير.

فيا عجباً! كيف غابت تلك المعالم عن كثير من الناس وأصبحوا عند سماع نبأ الكسوف أو الخسوف يترقبون وقته ويدفعهم حب الاستطلاع والغريزة إلى رؤية الكسوف والخسوف بعين البصر لا بعين البصيرة؟ ولو كانت رؤيتهم بعين البصيرة لصلح كثير من أحوالهم.

المثال الثاني:

اكتمال رؤية جرم القمر في منتصف كل شهر، ذلك المنظر البهي الذي يتكرر كل شهر، ينقسم الناس في التعامل والتعايش على أقسام: فمنهم قسم لا يلقون له بالاً وكأن شيئاً لم يكن، وفئة من الناس متمثلة في كثير من الشعراء وأهل الأدب والبلاغة يجعلون اكتمال منظر القمر مطية للتغزل والتشبيه إلى غير ذلك من اختلاف أنظار الناس وتوجاتهم.

لكن لننظر كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند ذلك المشهد الكوني البديع:

فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم عزّ وجلّ إلا كما تضارون في رؤيته".

فيا سبحان الله ! ما أعظم الفرق بين من جعل ذلك التغير شاحذاً لهمته فتذكر أعظم جزاء لأهل الجنة وبين من غفل عن ذلك، بل وقد يلوث لسانه فيما لا يجوز من القول كالغزل الفاحش.

المثال الثالث:

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير" رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية عند الترمذي: "أما نفسها في الشتاء فهو زمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم".

فلوا أننا استشعرنا هذا الحديث وجعلناه نصب الأعين كلما اشتد البرد أو الحر؛ لزادنا رهبة ورغبة.

ومما يؤكد التفاعل مع التغير الكوني قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" أخرجه الشيخان.

فقد شرع تأخير الصلاة عند اشتداد الحر مراعاة لرفع الحرج، وفي الوقت نفسه حتى يتذكر المسلم أن شدة ذلك الحر من فيح جهنم.

فالله نسأله أن يزيدنا إيماناً مع إيماننا، وأن يجعلنا من المعتبرين بمواطن العبر، اللهم اجعل ما أنزلت علينا من الخير عطاء بركة ونعمة لا عطاء استدراج ونقمة، اللهم اجعله عوناً لنا على طاعتك، واجعلنا ممن إذا أعطي شكر وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر.