الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الإسلام يحتاج إلى عاملين لا إلى عاطلين، يحتاج إلى من يعتنقون فكرته، ويخدمون رسالته، ويستعدون للتضحية من أجله، ويؤدون حق الله عليهم بأمانة وصدق. إن المسلمين في بداية القرن الخامس عشر -للأسف- في وضع لا يُشَرِّفُ الإسلام!... ما أحوج أمتنا إلى أن تنظف نفسها من دَنَسِ الشهَوات! وأن تعلَم أن الدنيا التي تسعى وراءها ستتوه بها في كل درب، وستنطلق في هذه الدروب انطلاق الوحوش في البرِّيَّة، ولن تعود بشيء ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن الباقيات الصالحات هي هذه الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. ومعنى أنها باقيات صالحات أنها تضمنت أوصافا حسنة، فهو أهل كل كمال، تضمنت نعوتاً جميلة لذى الجلال والإكرام. ومعنى بقائها أنها خالدة لا تفنى، أنها مستمرة لا تتلاشي. قد تصف وطناً، والوطن يزول؛ وقد تصف قصراً، والقصر ينهدم، قد تصف كوكباً، والكواكب تأفل وينتهي سناها، وتنطفئ نارها؛ لكنَّ ما انضم إلى الله، ما أضيف إلى ذاته العليا؛ ما اتصف به رب العالمين، فإنه يبقى ولا ينتهي. ولذلك سميت هذه الكلمات: الباقيات الصالحات.
وقد وردت عبارة (الباقيات الصالحات) في موضعين من القرآن الكريم، قال تعالى: (المـَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف:46]، الناس تسعى إلى هذا، ولا عيب في أن يسعى الإنسان لأن يكون له مال وأن يكون له بنون وأن تكون له دنيا، لكن العيب أن يعبد الإنسان ذلك كله من دون الله، أو أن يصده شيء من ذلك عن ذكر الله، أو أن يفهم أن الكفة الراجحة للإنسان هي ما امتلأ بالمال والجاه، فإن الكفة الراجحة كما أتمت الآية المعنى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46].
وردت في سورة مريم نفس العبارة: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا. حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم:75-76]. أي: خيرٌ مرجعاً وعقبى. وقد تكون كلمة: الباقيات الصالحات -إلى جانب ما ذكرنا من شروح السنة لها- متضمنة معنى أكبر، أو معنى مساويا في مبدئه ومنتهاه للكلمات الأربع التي ذكرناها، كقوله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل:96]. فإذا ادَّخر الإنسان شيئاً عند ربه فهو من الباقيات الصالحات؛ لأنه لا يفنى ولا يعتريه زوال.
نحب أن نتوقف قليلا عند هذه الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
الكلمة الأولى: سبحان الله! أى تنزيها لله من كل مالا يليق بقدْرِه، إبعاداً لكل مستقبح مستنكر عن أن يتسرب إلى صفاته أو إلى ذاته، التسبيح تنزيه، والله -جل شأنه- أهل كل كمال، وقد وردت الكلمة في الكتاب العزيز بتصاريفها كلها، جاءت فعلا ماضياً: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ومَا فِي وَالْأَرْضِ) [الحديد، الصف، الحشر: 1]، وجاءت فعلا مضارعا: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة، التغابن:1]، وجاءت فعل أمر: (سبِّح اسمَ ربِّكَ الأعْلَى) [الأعلى:1]، وجاءت مصدراً: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم:17]؛ جاءت الكلمة بتصاريفها كلها، لماذا؟ لأن الخطأ انتشر بين الناس في تصور الألوهية وإدراك حقيقتها من ناحية الكمال والسمو والمجد والعظمة، فهناك من أخطأ خطأ فادحاً فزعم أن لله ابناً، والله منزه عن هذا، ما يليق به ذلك، (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ، وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون:91].
هناك من زعم أن الله جسد -تجسَّد-، وهكذا كذب على الله، فإن خالق الأكوان، خالق السموات التي يتوه العقل عندما يتصور الأرقام الفلكية التي تحسب غروب وشروق الكواكب في مداراتها الرحبة التي يستحيل أن ندرك شيئاً من مداها، خالق هذا كله، كيف يُتصور أنه جسد؟ أو جاء في جسد؟ والغريب أن هذا الكلام الذي أقوله موجود في كتب لها قداسة عند أصحابها!.
كنت أسأل نفسي كثيراً: لماذا تحدث القرآن عن ضيف إبراهيم المكرمين في أكثر من موضوع؟ ثم عرفت بعد ذلك السبب؛ لأني وجدت في "العهد القديم" أن إبراهيم كان جالساً عند بالوطات ممراً -مكان في فلسطين- فلمح أشخاصاً قادمين من بعيد، ولمح الله بينهم، فأسرع إلى مقابلته، وسجد بين يديه، وقال له: إن كان لعبدك نعمة في عينك تتغذى عندنا. ما هذا الكلام؟! الله يتغذى؟! هذا كلام غريب! وكما ذكر العهد القديم هذا ذكر أيضا أن الله "كان يتمشى في الجنة فسمع خشخشةً في الشجر فقال: من هناك. قال: آدم. فقال: لماذا أنت مختبئ؟ قال: أنا عريان. فقال: هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: المرأة التي خلقتَها لي هي التي أغرتني". واللهُ لا يدري شيئاً عن هذا كله! ثم بعد صفحات يقول: وندم الرب على خلق الإنسان، لأنه ما كان يدري أنه شرِّيرٌ على النحو!.
ولذلك كثر في القرآن الكريم الحديث عن تسبيح الله وتنزيهه؛ لبناء العقيدة على أن الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الشورى:11-12]، وليس في القارات الخمس كتاب نزَّه رب العالمين، وأبعد كلَّ نقص عن ذاته، وكل قصور عن صفاته، كهذا الكتاب العزيز، الذي ليس في الدنيا كتاب غيره تحدث عن الله بكل ما ينبغي له من إعزاز وتوقير وتكريم وإعظام.
هناك تسبيح يجيء بمعنىً ينبغي أن يعرف؛ لأنه قد يتصل بحياتنا العادية وسلوكنا الذي نباشره، ينبغي أن نحسن الظن بالله. قد تقول: ومن الذي لا يحسن الظن بالله؟ أقول لك: إن الذي يخشى الفقر يسيء الظن بالله، ولذلك قال سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسيدنا بلال -رضي الله عنه-: (أنفِقْ يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا).
الظن بأن الله لا يخلُف على من أنفق ظن سيء ينبغي أن يسبح الله عنه، وقد ذُكرت في القرآن الكريم قصة تشير إلى هذا المعنى وهي قصة أصحاب الجنة -الحديقة- الذين رأوا أن يجنوا ثمرها بعيداً عن أنظار الفقراء؛ حتى لا يأخذوا منها شيئاً، بخِلوا بحق الله في الثمرات التي صنعها الله، ما صنعها أحد معه، بخلوا بحقه على المحتاجين من عباده: (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [القلم:21-29]. التسبيح هنا هو توحيدٌ بيقينٍ، لكن إلى جانبه: هلا عرفتم أن الله الذي خلق الثمر يختبر صاحب الثمر في إخراج جزء منه؟ وظاهر الإخراج أنه نقْص، ولكن النتيجة الأخيرة نماء وزيادة ومضاعفة؛ ولذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقص مال عبد من صدقة".
هناك تسبيح من نوع آخر، فالحق قد يكون ضعيفاً في عصور كثيرة، ويختبر الله أصحاب الحق بأن يقفوا إلى جانبه وهم ضعاف، (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً. أَتَصْبِرُونَ؟) [الفرقان:20]، هذا اختبار يوم ما كان اليهود قد أذلوا بثرواتهم وشمخوا بأموالهم وملئوا الأرض فساداً، عندما طغوا ولم يعاقبهم احد، قيل لهم: كذبتم، الذي يمهل لا يهمل، بئس الظن أن تظن أن الله يهمل! ولذلك جاءت سورة الحشر بمطلع التسبيح حتى تعيد التوحيد وحسن الظن بالله لنفوس الناس: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر:1-2].
أنا أنبه دائما إلى أن العبرة لا يستطيع الوصول لها كل احد، إنما يستطيعه أولوا الأبصار؛ ولذلك قلت وما زلت اكرر القول: إن الإسلام ما ينتفع بالشعوب الغبية التي لا بصر لها، إنما ينتفع الإسلام من شعوب لها ثقافة ولها إدراك، وهو عندما ينزل في شعوب متبلدة يبدأ فيرفع مستواها ويجعل بصرها حاداً حتى ترى، وهو ما صنع القرآن الكريم عند ما استمعوا إليه فلم يخروا عند قراءته صما وعميانا.
الكلمة الثانية: الحمد لله. كلمةٌ لها شعبتان في المعاني، أُولاهما شعبة تتصل بتمجيد الله، وكشف النقاب الذي نسجه الجهل على بصائرنا فلم نعرف ما ينبغي له من مجدِ وعظمةِ الحمد، هنا مدح لما في الذات العليا مما يجب أن يمدح، هذا شق من معاني المدح؛ ولذلك فإن الحمد هنا يُذْكر في السراء والضراء، يذكر في كل حين على أنه بيان لما يجب لله من إجلال؛ ولذلك بعد أن ينتهي الحساب ويستقر كل فريق حيث انتهى به عمله أو انتهى به فضل الله تأتي هذه العبارة: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمين) [الزمر:75]، (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:52]. الحمد هنا شعور بما لله من عظمة وجلال ومجد، وهو المجيد -جل جلاله-.
أما الشق الثاني أو المعنى الثاني من معاني الحمد فهو شعورٌ بالشكر بإزاء النعم التي تنهمر صباحا ومساء على العباد، وفي الناس جحود، فهم يمرحون في فضل الله، ما يطعم احد إلا من خيره، ما يشرب أحد إلا من سحاب هو الذي أثاره وكونه، وهو الذي أنزله ليروي به الظامئين، ومع ذلك فإن الناس تمرح في نعمة الله، وقلما تشكر ربها على ما أنعم؛ ولذلك كانت السنة الشريفة منبهة إلى هذه النعماء المنسية، وهذا الفضل المجحود، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم"...
وفي الحديث القدسي: "يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أَهْدِكُم. يا عبادي! كلكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أُطْعِمْكُم. يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكْسُكُم". فهل يكتسي أحدنا ثم يذكر أن الذي وارى سوأته، وأبرز وجاهته، وأتم عليه زينته، واستحق الشكر بهذه المنن، هو رب العالمين؟ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا لبس ثوباً قال: "الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقَنِيهِ من غير حول مني ولا قوة"، هذا بالنسبة إلى النعم الكثيرة التي نحس انتشارها بيننا، وانهمارها ليلا ونهاراً.
هناك نِعَمٌ ينساها الناس أو ينسبونها إلى غير صاحبها، ولو عقلوا لنسبوها إلى أصحابها، افرض أنك ذكي وأنك بذكائك حللت مشكلة عويصة أو انتهيت إلى رأي ناجح؛ مَن الذي وهب لك الذكاء؟ من الذي جعل تلافيف المخ كثيرة بحيث تستوعب وتحيط وتحسن الاستنتاج. هَب أن صوتك حلو؛ مَن الذي صنع الحبال الصوتية، ووضع فيها العذوبة والرقة؟ مَن؟ أنت؟ أبوك؟ أمك؟ من الذي صنع هذا؟ هبك قوي البدن مكتنز الجسد بالعافية متين الأعصاب تعمل أربعاً وعشرين ساعة دون إعياء، من الذي منحك هذا كله؟ ولذلك يقول ابن عطاء الله في حِكمه الجميلة: مَن أكرمك إنما أكرم فيك جميل سِتره، فالحمد لمن سترك؛ ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك.
هذا كلام جميل، الفضل لمن منحك لا لمن مدحك، هذا كلام رقيق، وابن عطاء الله من خيرة الذين تكلموا في هذه الموضوعات. الفضل لمن منحك لا لمن مدحك، ولو شاء لعرَّاكَ فما تساوى شيئاً، هذا ما ينبغي أن يُعرف، وما ينبغي أن ندركه في أحوالنا وحياتنا.
الكلمة الثالثة: لا إله إلا الله، في الحقيقة لا ترتيب بين الكلمات، لكن هكذا رويت، ومع الرواية التي جاءت بها فإن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "لا يضرك بأيهن بدأت". لا يضر التسبيح والتحميد... يجتمعان وهما مع التوحيد حقيقة متكاملة؛ ولذلك تجد الآية: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم:17-18]، وقت الظهيرة ووقت العشي -وهو وقت الأصيل-، المساء بعد غروب الشمس، والغداة وقت الصباح: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ) [الأعراف:205]. آصال: جمع أصيل، والغدو: الصباح، وصلاة الغداة- كما تجيء في بعض السنن- هي صلاة الصبح.
كلمة لا إله إلا الله هي عنوان الإسلام ومدخله، وإليها ضميمة أخرى تذكر بها غالباً وهي: محمد رسول الله. فالاعتراف برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- حقيقة لا يكمل دين إلا بها، ولا يتم إيمان إلا بتحقيقها ووجودها؛ ولكن هي -إلى جانب ذلك- علامة على صدق التوحيد، بمعنى أن أدعياء التوحيد كثيرون، فالذين يشركون يقولون: الله واحد! والذين يثلِّثون يقولون: الله واحد! والذين يجسِّدون يقولون: الله واحد! مزاعم! أما التوحيد بتعبير عصرنا: الماركة النقية، العلامة المميزة التي تدل على أن التوحيد نقى، فهو ما جاء عن طريق محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه توحيد فعلا.
فقد كشف أن ما دون الله عبدٌ لله، فليس هناك من تسرى إليه صفات الألوهية بتةً، لا ملَك ولا بشر، البشر من النبي فنازلا عبيد، والملك من جبريل -روح القدس- فنازلا عبيد: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مريم:93]، ولا يجرؤ واحد من الملائكة أو من البشر أن يزعم لنفسه بعض شارات الألوهية: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:79-80]، فلا الملائكة ولا الناس فيهم أحد يوصف بجزء من صفات الألوهية، هيهات! الله واحدٌ أحَدٌ فردٌ صَمَدٌ، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [سورة الإخلاص].
وقد تميَّزَتْ القمة الأولى في البشرية وهي محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنها أوضحت هذا بجلاء، وبيَّنَتْ أنَّ البشر جميعا عبيد، فأولهم محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان في ترتيب العبودية العبد الأول، كان في يقظته ومنامه، في صحته ومرضه، في حربه وسلمه، في انتصاره وانهزامه، كان وثيق الصلة بهذا الإله الواحد، لا يعرف غيره. لما انهزم في أحد، وكانت الهزيمة مُرة بلغت من هزها لأعصاب المسلمين ما بلغت، لكنه -بعد السبعين بطلا الذين قتلوا- قال: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل"، وصَفَّ المسلمين في أُحُد وراءه يثنون على الله سبحانه وتعالى! فهو ليس عبداً يحمدُ في السراء ويزهد في الضراء، أو يرغب عن الله أو يقصر في الثناء، لا، هو عبد الله.
ولكلمة التوحيد زيادات كلها ثناء على الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ ومن الطرائف التي تجري على قلوب العارفين أن واحداً من الناس سأل سفيان بن عيينة: ما أفضل الدعاء يوم عرفه؟ فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" فقال السائل: هذا ثناء وليس بدعاء! فقال له: أما علمت قول الشاعر:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي | حَيَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الحَيَاءُ |
إذا أثْنَى عَليْكَ المَرْءُ يَوْمَاً | كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ |
الكلمة الرابعة: الله أكبر. عندما ذهب الأتراك بجيش لهم في كوريا الجنوبية يقاتلون عن العالم الحر -كما قيل- يقاتلون الشيوعيين هناك قالوا: كان هتاف الجيش التركي وهو يهجم: الله أكبر. هذا هتاف تقليدي للأتراك، وهذا الهتاف هو الذي دكَّ أسوار القسطنطينية يوم كانت عاصمة للصليبية العالمية، وهو الذي قاد الفيالق المنتصرة عندما كانت تجوب هنا وهناك تقلم أظافر الضالين المضلين، الهتاف التقليدي بقى مع الجمهور، مع العوام، مع الفلاحين والعمال الذي جُندوا فلم يدركهم فساد المفسد الكبير مصطفى كمال أتاتورك، لم يدركهم ضلال المضلِّل الكبير مصطفى كمال أتاتورك، فعلى سجيتهم قاتلوا وهو يقولون: الله أكبر.
أتدرون -أيها المسلمون- أن هذه الكلمة جعلت الناس في كوريا يستغربون!؛ لأن الحماس الذي كان يصحبها، والجرأة التي كانت تنطلق معها، والإيمان العميق الذي كان يبدو من نبراتها، لفت أنظار الكوريين، فجاءوا يسألون عنها وعن الإسلام، وبدأ دخول الإسلام كوريا، ويوجد الآن خمسون ألف مسلم في كوريا، بدأ وجودهم في الفرقة التي جُندت هناك، ومن عام واحد أرسل إليها واعظ مصري يعرف بالإنكليزية على نفقة دولة قطر، يقول لي هذا الواعظ – بعد مجيئه-: لو أنَّ لنا حشداً من الدعاة لحوَّلْنَا كوريا كلَّها إلى مسلمين. هذه كلمة: الله أكبر!.
رزقَنا الله العمل بالباقيات الصالحات، وألهمَنا ترديد هذه الكلمات، والله ولي التوفيق.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله موفِّق العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا -أيها المسلمون- أن هذه الدنيا ممر وليست مستقرا، وكما جاء في صحيح البخاري: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".
الإسلام يحتاج إلى عاملين لا إلى عاطلين، يحتاج إلى من يعتنقون فكرته، ويخدمون رسالته، ويستعدون للتضحية من أجله، ويؤدون حق الله عليهم بأمانة وصدق. إن المسلمين في بداية القرن الخامس عشر -للأسف- في وضع لا يشرف الإسلام، قلوبهم امتلأت بالشهوات، ومزَّقَتْها الأهواء، وأرى الدنيا كلها تنظر إلى العرب المتنافرين المتشاكسين الذين اشتدَّ بأسُهم بينهم، وأحسنوا تمزيق بعضهم بعضا، ينظرون إلى هذه الأمة باستهزاء وازدراء. ما أحوج أمتنا إلى أن تنظف نفسها من دَنَسِ الشهَوات! وأن تعلم أن الدنيا التي تسعى وراءها ستتوه بها في كل درب، وستنطلق في هذه الدروب انطلاق الوحوش في البرية، ولن تعود بشيء! ولكن إذا اصطلحنا مع الله، وأخلصنا قلوبنا له، وتعرفنا الطريق لدينه، ودرسنا كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأدينا ما علينا لله ولرسوله؛ فإن الله يكفل لنا الدنيا، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ، وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل:30].
أيها الإخوة: في ظني أن هذا المسجد من المساجد التي أسست على تقوى من الله ورضوان، وفي ظني؛ بل ما أحسسته، أن حماية الله هي التي حفظت لا حماس الضعاف أمثالنا، فإن حماية القوى أهم من حماس الضعاف، حماس الضعاف لا يصنع شيئاً ولكن حماية القوى تصنع كل شيء، والحقيقة أننا اتجهنا إلى الله وسألناه النجدة لبيته، وكان جلَّ شانُه -في علمه السابق، وفي قدَره الماضي- قد تأذَّن ببقاء المسجد، وليس لبشر منا فضل.
لا أحد هنا يزعم أنه صنع للمسجد هنا شيئاً، حاشا، الذين بدؤوا وضع الأسس ورفع الدعائم والشرفات فلهم عند الله مثوبتهم، ولله المنة في أعناقهم أن سخرهم لرفع حصنٍ للتوحيد في هذا المكان... ليس لبشر فضل هنا -لا متكلم ولا مستمع- إنما اختبر الله ناسا هنا لكي يبدو هل هم مخلصون لله أم لا؟ ونجح كثيرون في هذا الاختبار. على كل حال، نحن كما تصدينا للذين توقعنا منهم الصد عن سبيل الله، ولم نر حرجاً أن نكشفهم نحن الآن، نقول بكثير من الإنصاف إننا لما التقينا بالمسئولين الكبار وجدنا غيرة، ووجدنا ترحيباً، ووجدنا معاملة حسنة، ونحن نشكر للذين تحمسوا للمسجد وأبقوه على وضعه، وأقروا ما اتفقت عليه إدارة المسجد مع محافظة القاهرة عليه، أقروا هذا، نحن نشكرهم وندعو الله أن يزيدهم قدرة على إبراز المسجد وخدمته، وجعله حصنا للحق والتوحيد، ما بقيت المساجد في القارات الخمس تصدر منها الصيحات التي تردُّ للعالم عقله الضائع، وضميره النائم.
إن هناك عشرات المؤسسات في الدنيا تتنافس على تخريب العقل الإنساني، والضمير الإنساني، وتريد إشاعة أن الله عدَد، قَلَّ أو كثر؛ وأنه جسَد، قوِي أو ضعف. وما بقيت إلا هذه البيوت يصدر منها كل يوم خمس مرات: الله اكبر، الله أكبر... لا إله إلا الله. إننا محتاجون إلى تبقى هذه المساجد تؤدى رسالتها.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].