البحث

عبارات مقترحة:

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

الظاهر

هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

بالشكر تدوم النعم

العربية

المؤلف
القسم كتب وأبحاث
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الرقائق والمواعظ
كتاب يبين حقيقة الشكر وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان العبد : ثناء واعترافا، وعلى قلبه: شهودا ومحبة، وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة.

التفاصيل

بالشكر تدوم النعم بدرية الراجحي المقدمة فما هو الشكر: درجات الشكر: الشاكر والشكور: الشكر في القرآن: حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأحوال السلف مع الشكر: الشكر والصبر: الشكر والحمد: الشكر والتوحيد: الشكر والاستغفار: الحمد والتوحيد والاستغفار: شهود النعمة: الفرق بين إنعام الخالق وإنعام المخلوق: شكر النعم: خاطرة: الثرثرة بالنعم: كفر النعم: أسباب كفر النعم: شكرها لا ينال إلا بتوفيق الله:  بالشكر تدوم النعم  بدرية الراجحي المقدمةالحمد لله رب العالمين، حمدا يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه على آلائه، وأشكره على جزيل منه وعطائه.الحمد لله القائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: 3].القائل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].والصلاة والسلام الأتمان على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد:فإن من أجل العبادات حمد الله وشكره على نعمائه، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بشكره بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾([1]) [البقرة: 152].فعندما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام، امتنع عن الاستجابة لهذا الأمر، فطرده الله وجعله من الملعونين، وتوعده بدخول النار، ولكنه لم يكتف بسماع أوامر الطرد والامتثال، بل قام بكل وقاحة بسرد خطته لإغواء بني آدم الذي طرد بسببه.فهنا يكشف إبليس حقيقة تخفى على عن كثير من الناس وهي أن معظم الناس لا يقومون بشكر الله، والناجي منهم هو الذي يقوم بأداء الشكر. فما هو الشكر:يقال: شكرت الدابة، أي: سمنت (إذا ظهر عليها أثر العلف)([2]).وكذلك حقيقته في العبودية، وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا، وعلى قلبه: شهودا ومحبة، وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة([3]).ولنسمع قول ابن القيم رحمه الله عن الشكر، يقول: وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان لا يكون شكورا إلا بمجموعها، وهي: الاعتراف بالنعمة باطنا، والتحدث بها ظاهرا، والاستعانة بها على طاعة الله. فالشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح.فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للحمد والثناء، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه ([4]).وقال الجنيد: الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة.وشكر العامة: على المطعم والمشرب والملبس، وقوت الأبدان.وشكر الخاصة: على التوحيد والإيمان وقوت القلوب.والشكر بأتي بالمزيد دائما، لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر ([5]). درجات الشكر:وقد قسمها ابن القيم رحمه الله كالآتي:* الدرجة الأولى: الشكر على المحاب، وهذا شكر تشارك فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس، ومن سعة رحمة الباري سبحانه أن عده شكرا، ووعد عليه الزيادة، وأوجب فيه المثوبة.إذا علمت حقيقة (الشكر) وأنه الاستعانة بنعم المنعم على طاعته ومرضاته، علمت اختصاص أهل الإسلام بهذه الدرجة. نعم قد يؤدي غيرهم بعض أركانها وأجزائها، كالاعتراف بالنعمة، ولكن كما قلنا حقيقة الشكر، هو الاستعانة بهذه النعمة على مرضاته، وقد كتبت عائشة - رضي الله عنه -ا إلى معاوية - رضي الله عنه -: (إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه، أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته).* الدرجة الثانية: الشكر في المكاره، إظهارا للرضى، ومما يميز كظم الغيظ وستر الشكوى.يعني أن الشكر على المكاره أشد وأصعب من الشكر على المحاب، ولهذا كان فوقه في الدرجة، ولا يكون إلا من أحد رجلين:إما رجل لا يميز بين الحالات، بل يستوي عنده المكروه والمحبوب، فشكر هذا إظهار منه للرضى بما نزل به، وهذا مقام الرضى، وهو من السابقين.الرجل الثاني: من يميز بين الأحوال، فهو لا يحب المكروه، ولا يرضى بنزوله به، فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه، فكان شكره كظما للغيظ الذي أصابه، وسرا للشكوى، ورعاية منه للأدب، وسلوكا لمسلك العلم، فإن العلم والأدب يأمرانه بشكر الله على السراء والضراء، لأنه شاكر لله شكر من رضي بقضائه، كحال الذي قبله، وهو من المقربين، لكن الذي قبله أرفع منه.* الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم ([6]). الشاكر والشكور:يقول ابن القيم رحمه الله: وأما تسميته سبحانه بالشاكر، فهو من قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147].[والشاكر: معناه المادح لمن يطيعه، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]]([7]).وتسميته أيضا شكور، من قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن: 17].فهو الشكور على الحقيقة، فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر للقليل من العمل، ويعطي الكثير من الثواب، ولهذا نهينا أن نستصغر شيئا من أعمال البر، قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»([8]).وقال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد، فبكلمة طيبة»([9])]([10]).ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويلقي له الشكر بين عباده. فلما ترك الصحابة ديارهم، وخرجوا منها في مرضاته، عوضهم عنها أن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم، ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن، شكر له ذلك بأن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه، شكر لهم ذلك بأن عوضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها ترد أنها الجنة وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث، فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه.ومن شكره غفرانه للرجل بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين.فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء.ومن شكره سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير.ومن شكره أن العبد من عباده ينوه بذكره، كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام، وأثنى به عليه.ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة، كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها واتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى، ولهذا يبغض الكفور والجاهل ويحب الشكور العالم ([11]).وأخبر أن أهل الشكر هم المنتفعون بآياته، واشتق لهم اسما من أسمائه، فسمى نفسه شاكرا وشكورا، وسمى الشاكرين بهذين الاسمين، فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه، وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلا ([12]). الشكر في القرآن:وقد قرن الله سبحانه وتعالى الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به، فقال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾ [النساء: 147].وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصصون بمنته عليهم من بين عباده، قال: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].وقسم الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله، قال تعالى في الإنسان: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3].وهذا كثير في القرآن، يقابل سبحانه بين الشكر والكفر.وبين سبحانه أن الشاكرين هم الذين ثبتوا على نعمة الإيمان، فلم ينقلبوا على أعقابهم، قال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].هي الآية التي تلاها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يوم مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: (من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت)([13]).وقد وقف سبحانه كثيرا من الجزاء على المشيئة، كقوله في الرزق: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 212]، وفي المغفرة: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 284]، وأطلق جزاء الشكر كقوله: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].ووصف الله سبحانه الشاكرين بأنهم قليل، فقال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، وذكر الإمام أحمد رحمه الله عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أنه سمع رجلا يقول: اللهم اجعلني من الأقلين، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن الله قال: ﴿وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40]، وقال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، وقال: ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: 24]، فقال عمر: صدقت([14]).وقد أثنى الله سبحانه على نوح بالشكر، فقال: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]، وفي تخصيص نوح هاهنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته، إشارة إلى الاقتداء به.وقد أخبر سبحانه أنما يعبده من شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته، فقال: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172].وأمر عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر، فقال تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144].وأول وصية وصى الله تعالى بها الإنسان بعد ما عقل عنه بالشكر له وللوالدين، فقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14].وأثنى سبحانه على خليله إبراهيم بشكر نعمه، فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 120 ، 121].وأخبر سبحانه أن الشكر هو الغاية من خلقه وأمره، بل هو الغاية التي خلق عبيده لأجلها، فقال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]([15]). حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأحوال السلف مع الشكر:·       قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أنعم الله على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»([16]).·       وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا»([17]).·       وثبت في المسند وسنن أبي داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: «والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»([18]).·       وقد ثبت في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد، يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشَّربة فيحمده عليها»([19]). فكان هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء، كما قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72]، في مقابل شكر بالحمد.·       وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أحب أحدكم أن يرى قدر نعمة الله عليه، فلينظر إلى من تحته، ولا ينظر إلى من فوقه»([20]).·       وروى أحمد عن ثابت، قال: كان داود عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم يكن ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فيها، قال فعمهم تبارك وتعالى في هذه الآية: ﴿اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾([21]) [سبأ: 13].·       ودعي عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى قوم على ريبة، فانطلق ليأخذهم، فتفرقوا قبل أن يبلغهم، فأعتق رقبة شكرا لله أن لا يكون جرى على يديه خزي مسلم([22]).·       قال أبو الدرداء: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قل عمله وحضر عذابه([23]).·       عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: لعلنا نلتقي في اليوم مرارا يسأل بعضها عن بعض ولم يرد بذلك إلا ليحمد الله عز وجل.·       ورأى بكر بن عبد الله المزني حمالا عليه حمله وهو يقول: (الحمد لله، أستغفر الله)، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ قال: بلى، أحسن خيرا كثيرا، أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة، وأستغفره لذنوبي، فقلت: الحمال أفقه من بكر.·       وقال يونس بن عبيد: قال رجل لأبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين، لا أدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله، فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي([24]).·       وقال بكر بن عبد الله: ما قال عبد قط (الحمد لله) إلا وجبت عليه نعمة بقوله: (الحمد لله) فجزاء تلك النعمة أن يقول: (الحمد لله)، فجاءت نعمة أخرى، فلا تنفذ نعم الله.·       قال محمد بن المنكدر لأبي حازم: يا أبا حازم، ما أكثر ما يلقاني أحد، فيدعو لي بالخير، ما أعرفهم وما صنعت إليهم خيرا قط فقال أبو حازم: لا تظن أن ذلك من قبلك، ولكن انظر إلى الذي ذلك من قبله فاشكره، وقرأ أبو عبد الرحمن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].·       وقال سفيان الثوري: كان يقال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة.·       وقال الشعبي: الشكر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.·       وقال عمر بن عبد العزيز: قيدوا نعم الله بشكر الله.·       ولهذا كانوا يسمون الشكر: (الحافظ)، لأنه يحفظ النعم الموجودة، و (الجالب)، لأنه يجلب النعم المفقودة. الشكر والصبر:ما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوءه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها إلا الله، كما قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له»([25])، وإذا كان هذا وهذا، فكلاهما من نعم الله عليه.وكلتا النعمتين (السراء والضراء) تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما نعمة الضراء: فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء: فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، كما قال بعض السلف: (ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر).وفي الحديث: «أعوذ بك من فتنة الفقر، وشر فتنة الغنى»([26])والفقر يصلح عليه خلق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم، ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لأن فتنة الفقر أهون.وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السراء: اللذة، وفي الضراء: الألم، اشتهر ذلك الشكر في السراء، والصبر في الضراء، ولأن صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، إذا تركه استحق العقاب.وأما صبر صاحب السراء فقد يكون مستحبا، إذا كان عن فضول الشهوات، وقد يكون واجبا، ولكن لإتيانه بالشكر ـ الذي هو حسنات ـ يغفر له ما يغفر من سيئاته. وكذلك صاحب الضراء لا يكون الشكر في حقه مستحبا إذا كان شكرا يصير به من السابقين المقربين، وقد يكون تقصيره في الشكر مما يغفر له، لما يأتي به من الصبر، فإن اجتماع الشكر والصبر جميعا يكون مع تألم النفس وتلذذها، يصبر على الألم، ويشكر على النعم، وهذا حال يعسر على كثير من الناس ([27]).قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5]، فآياته المشهودة إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر وهما سبب انتفاع صاحبهما بالآيات.فالإيمان ينبني على الصبر والشكر فنصفه صبر ونصفه شكر، فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة إيمانه، وآيات الله إنما ينتفع بها من آمن بالله وآياته، ولا يتم له الإيمان إلا بالصبر والشكر، فإن رأس الشكر التوحيد، ورأس الصبر ترك إجابة داعي الهوى.فإذا كان مشركا مُتبعا هواه لم يكن صابرا ولا شكورا فلا تكون الآيات نافعة له ولا مؤثرة فيه. الشكر والحمد:الفرق بينهما:يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كثير من الناس يقول: الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه، فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة، والشكر أعم من جهة أنواعه، فإنه يكون بالقلب واللسان واليد. فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة، لم يكن الحمد إلا نعمة، والحمد لله على كل حال، لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمة على عباده.وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر.والحمد ـ وإن كان على نعمته وعلى حكمته ـ فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو على عبادة الله لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر.ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجردا، إذا كان نوعا من الشكر ([28]). وقيل: الحمد أعم من الشكر، لأنك تحمد الإنسان على صفاته الجميلة وعلى معروفه، ولا تشكره إلا على معروفه دون صفاته.والخلاصة: أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان.يقول ابن القيم: فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإن الشكر يقع بالجوارح، والحمد يقع بالقلب واللسان ([29]). الشكر والتوحيد:شرع الحمد ـ الذي هو الشكر المقول ـ أمام كل خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر والتوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد، والباقيات الصالحات كلمتان: (فسبحان الله وبحمده): فيها الشكر والتنزيه والتعظيم ـ (ولا إله إلا الله والله أكبر) فيها التوحيد والتكبير.وقد قال تعالى: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 65]([30]). الشكر والاستغفار:إذا تدبر العبد علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر الله، فزاده الله من فضله عملاً صالحاً، ونعما يفيضها عليه، وإذا علم أن الشر لا يحصل إلا من نفسه بذنوبه، استغفر وتاب، فزال عنه سبب الشر، فيكون العبد دائما شاكرا مستغفرا، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: "الحمد لله" فيشكر الله، ثم يقول: "نستعينه ونستغفره" نستعينه على الطاعة، ونستغفره من المعصية، ثم يقول: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" ([31]). فيستعيذ به من الشر الذي في النفس، ومن عقوبة عمله، فليس الشر إلا من نفسه ومن عمل نفسه، فيستعيذ الله من شر النفس أن يعمل بسبب سيئاته الخطايا، ثم إذا عمل استعاذ بالله من سيئات عمله، ومن عقوبات عمله، فاستعانه على الطاعة وأسبابها، واستعاذ به من المعصية وعقابها.فعلم العبد بأن ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه، يوجب له هذا وهذا، فهو سبحانه فرق بينها في قوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79]، بعد أن جمع بينهما في قوله: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: 78].فبين أن الحسنات والسيئات: النعم والمصائب، والطاعات والمعاصي، على قول من أدخلها في ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾.ثم بين أن الخير من نعمة الله، فاشكروه يزدكم، وهذا الشر من ذنوبكم فاستغفروه يدفعه عنكم، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33]([32]). الحمد والتوحيد والاستغفار:كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين (الحمد) الذي هو رأس الشكر، وبين (التوحيد والاستغفار) إذا رفع رأسه من الركوع فيقول: «ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، ثم يقول: «اللهم طهرني بالثلج والبرد، والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس»([33]).فالحمد: بإزاء النعمة، والاستغفار بإزاء الذنوب، وذلك تصديق قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79].ففي سيد الاستغفار: «أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي»([34])، وفي حديث عمرو بن العاص: «الحمد رأس الشكر، فما شكر الله عبد لا يحمده»([35])، كما جمع بينهما في أم القرآن (الفاتحة)، فأولها تحميد، وأوسطها توحيد، وآخرها دعاء، وكما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 65].وفي حديث الموطأ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»([36]).وفي قوله: «من قال في يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده، حطت خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر»([37]).وفي حديث كفارة المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك»([38]) فيه: التسبيح، والتحميد، والتوحيد، والاستغفار ([39]). شهود النعمة:إن شهود العبد نعمة ربه لا يدع له رؤية حسنة من حسانه، ولو عمل أعمال الثقلين، لأن نعم الله أكثر من أعماله، وأدنى نعمة من نعمه تستنفد عمله، فينبغي للعبد ألا يزال ينظر في حق الله عليه، ولا يزال مزريا على نفسه ذامَّا لها، وما أقربه من الرحمة ([40]).وفي الصحيح: «لن ينجي أحدا منكم عمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل، فإن أعمال العبد لا توافي نعمة من نعم الله عليه»([41])([42]).ومما يجب معرفته أن ما يقدمه المسلم من صلاة وغيرها من أعمال البر المحدودة بالأعمار القصيرة، والتي يتخللها التقصير، لا يمكن بحال أن تكون ثمنا للجنة، قال - صلى الله عليه وسلم - : «سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله»([43])([44]). الفرق بين إنعام الخالق وإنعام المخلوق:‌أ-                 إن الله سبحانه وتعالى يعطي الخلق ويتفضل عليهم مع استغنائه عنهم، والمخلوق لا يعطي غالبا إلا لقصد أو غرض.‌ب-           إنك ربما احتجت إلى شيء من المخلوق ولا يعطيكه، لكونه محتاجا إليه، والله سبحانه وتعالى غني عن كل شيء، قال سبحانه: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14].‌ج-            إنك ربما احتجت إلى شيء من المخلوق إلا أنه لا يمكنك الوصول إليه، فتبقى محروما من عطيته، والله سبحانه تصل إليه بدعائك ومناجاتك في كل وقت وحين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ .......﴾ [البقرة: 186].‌د-               إنك إذا قصرت في خدمة المخلوق قطع عنك إنعامه، والكافر يقصر بأعظم حقوق الله ويظل إنعامه سبحانه عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم»([45]). شكر النعم:يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: على الإنسان أن يعلم أن النعم كلها من الله، وقد تحصل بعمله وبغير عمله، وعمل نفسه من إنعام الله عليه، وأن كل ما خلقه فهو نعمة، فالله يستحق الشكر الذي لا يستحقه غيره ([46]).وللأسف الشديد نجد الناس يحمد بعضهم بعضا حينما يقدم أحدهم عونا لأخيه ولو كان صغيرا، ولا نجد الكثير منهم يحمدون الله على نعمه عليهم رغم عظمها وكثرتها، وكأن هذه النعم حق مكتسب لا فضل لله عليهم فيها، بل كثيرا ما يستعملونها في معصيته، إنها الغفلة والجحود والكفران بالنعمة، لا يقدرون قيمة هذه النعم إلا إذا حرموا منها أو أصيبوا فيها، فيجأرون إلى الله بالدعاء، ومنهم من يضيق بالحياة وقد يلجأ إلى الانتحار، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 53 - 55]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34].ولهذا نجد القرآن الكريم يدعونا إلى التفكر والتعرف على نعم الله التي لا تحصى، وأن نقدرها قدرها، ونستشعر فضل الله علينا، ونقوم بواجب الحمد والشكر له على ما أنعم.فما أجدرنا أن نشعر بمدى فقرنا وحاجتنا إليه سبحانه في كل لحظة وكل حركة وسكنة، وكذا مدى تقصيرنا في واجب الشكر وضرورة استعمال هذه النعم في طاعته والبعد بها عن معصيته ([47]).من هنا يتضح عظيم شأن هذه العبادة، والتي ـ للأسف الشديد ـ قد نسيها كثير من الناس اليوم، حتى أصبحت النعم لا تعني شيئا لهم، وكأنها أمر طبيعي لا يستحق الشكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ([48]).ويقول ابن القيم رحمه الله: ولله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما:أحدهما: أمره ونهيه اللذان هما محض حقه عليه.والثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليه.وكلما كان أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم وشهوده لتقصيره أعظم ([49]).سؤال اشتاقت إليه النفوس وهو: كيف أشكر؟يقول القرطبي رحمه الله: إن للشكر ثلاثة أركان:1-             الإقرار بالنعمة للمنعم.2-             والاستعانة بها على طاعته.3-             وشكر من أجرى النعمة على يده تسخيرا منه إليه.أما الإقرار بها ومعرفتها وذكرها على الدوام والتحدث بها، فقد أمر الله تعالى به عباده في غير آية، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [فاطر: 3].ويقول ابن القيم رحمه الله: الشكر اسم لمعرفة النعمة، لأنها السبيل إلى معرفة المنعم.وقد جاء في الحديث ما يبين عظمة تذكر النعمة والاعتراف بها وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «سيد الاستغفار أن يقول: ...... ، أبوء لك بنعمتك علي، ......»([50]).ويكرر - صلى الله عليه وسلم - الاعتراف بالنعمة في أدبار الصلوات في قوله: «..... له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن»([51]).قال ابن القيم رحمه الله: الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان:1-             عام: وهو وصفه بالجود والكرم.2-             خاص: وهو التحدث بنعمته والإخبار بوصولها إليه من جهته، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11].وفي هذا التحديث المأمور به قولان:أحدهما: أنه ذكر النعمة والإخبار بها، وقوله: أنعم الله علي بكذا وكذا.والتحدث بنعمة الله شكر، كما في حديث جابر مرفوعا: «من صنع إليه معروف فليجز به، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن، فإنه إذا أثنى فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور»([52]).فذكر هنا أقسام الخلق الثلاثة:‌أ-                 شاكر النعمة المثني بها.‌ب-           والجاحد لها والكاتم لها.‌ج-            والمظهر أنه من أهلها، وليس من أهلها. خاطرة: الثرثرة بالنعم:ينبغي لمن تظاهرت نعم الله عليه أن يظهر منها ما يبين أثرها، ولا يكشف جملتها، وإن كان إظهارها حلوا عند النفس، إلا أنها إن أظهرت لوديد لم يؤمن تشعث باطنه بالغيظ، وإن أظهر لعدو فالظاهر إصابته لموضوع الحسد، وإن شر الحسود في حال البلاء يتشفى، وفي حال النعم يصيب بالعين.ولا تكن من المذاييع الغر الذين لا يحملون أسرارهم حتى يفشونها إلى من لا يصلح، ورب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان([53]).والقول الثاني: أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية هو الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالته، وتعليم الأمة.ثانيا: وأما الاستعانة بها ـ أي: النعم ـ على طاعة الله، فهو ما يقتضيه الشرع والعقل، فإن من أحسن إليك بشيء لا يجوز أن تقابله بالإساءة إليه، ومن فعل ذلك فهو في نظر الناس ناكر للجميل، فكيف إذا استعان بإحسانه على الإساءة إليه، فهو أشد جحودا للجميل ([54]).ولعلنا نقف مع آية عظيمة وهي قوله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، ولننظر إلى عالم هذا الإنسان المكرم، وما وهبه الله من النعم، وكيف نستعين بها على طاعته؟1- نعمة الإسلام:إن أجل نعم الله على الإطلاق هي نعمة الدخول في هذا الدين، هذه أم النعم، وبغيرها فإنه لا فلاح ولا سعادة في الدنيا ولا في الآخرة.ومن المعلوم أن الله لا يقبل عمل عامل إلا بشرط الإسلام، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].فهل تذكرت هذه النعمة؟! وكيف فضلك الله على كثير من خلقه، فهل حمدت الله على نعمة الإسلام والتي بها سيكتب لك ـ إن شاء الله ـ النجاة من النيران، حقا إنها أم النعم!! ([55]).ما أحوجنا أن نحمد الله دائما على هذه النعمة، كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: 43].والله سبحانه وتعالى يدعونا إلى المحافظة على هذه النعمة حتى نلقى الله عليها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، لأن الأمور بخواتيمها، وها هو ذا سيدنا يوسف عليه السلام بعد ما آتاه الله من الملك يدعو الله أن يتوفاه مسلما كما قال تعالى: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101]([56]).إنها المرتبة الثانية بعد الإسلام.أنت يا من رفعك الله على غيرك درجة، ويا من تركت الكثير من شهواتك لله وملأت قلبك قرآنا وتذكرة وخشية وحبا، وطردت وسواس الشيطان والهوى. هل علمت ماذا أعد الله لهم؟قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ [العنكبوت: 58].أين هذه الدرجات من تلك الدركات؟!هنا جنات أهلها خالدون فيها، وهناك نار جهنم أهلها خالدون فيها. وفي الجنات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك في النعيم وهذا في الجحيم.فهل شكرنا الله على نعمة الإيمان؟واعلم أن الله هو الذي من عليك بهذا ك.له، وإلا فأنت ضعيف مسكين لا تملك من أمرك شيئا.3- نعمة الأخوة والصحبة الحسنة:هل علمت ما أعد الله للمتحابين فيه والمتزاورين فيه؟قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»([57])، وقال: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء»([58]).وبفضل الله ثم بسبب هؤلاء الجلساء الصالحين نلت المراتب العالية. كم كنت تغفل فيذكرونك! وكم كنت تخطئ فيوجهونك!وكم هم الذين استزلهم الشيطان بسبب بعدهم عن مجالس الذكر وصحبة الأخيار!! ثم كان مصيرهم في النهاية مؤلما!فلنعرف قدر هذه النعمة، ولنحرص عليها، كما قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]([59]).وقال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].وإن حياة وسط قوم يملأ قلوبهم الحقد والغل والشحناء والبغضاء حياة لا تطاق، كلها هم وغم وكرب والعياذ بالله ([60]).فالحمد لله على نعمة الأخوة في الله.4- نعمة البصر:هل تتذكر كل يوم هذه النعمة الجليلة؟ فإذا قلت: نسيت، فليكن لك عبرة في غيرك من الذين حرمهم الله هذه النعمة.فلتلهج الألسنة بحمد الله، ولتكفها عما حرم الله من النظر فيما لا يجوز النظر إليه، قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: 30].5- نعمة السمع:هل تعلم أن من لم يسمع من مولده لا يتكلم؟فنعمة السمع نسمع بها من يخاطبنا، نسمع بها آيات ربنا سبحانه. تصور لو أنك حرمت هذه النعمة، كيف سيكون حالك إذا الناس حضروا لسماع محاضرة قيمة مهمة، وأنت تأتي لتجالسهم لتعمك رحمة وسكينة ترجوها مع القوم فقط؟!وإياك أن تستخدم نعمة السمع فيما حرم الله من سماع غيبة أو نميمة أو غناء محرم، ولنحفظ هذه النعمة، قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].6- نعمة اليدين:بهما نأكل، وبهما نشرب، وبهما نكتب وبهما نميط الأذى، وبهما نحمل فلذات أكبادنا، وبهما نتصدق من أموالنا.واحذروا من استعمالها في الشر، فإنهما سيشهدان عليكم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24].7- نعمة العقل:لقد فضلنا الله على جميع مخلوقاته بهذا العقل، فلولاه لأصبح الإنسان كالأنعام: إن زيارة واحدة لأحد مستشفيات الأمراض العقلية يمكن أن تذكرك بفضلك على من سواك.فها أنا أعود فأذكرك وأحذرك من التفكير بهذا العقل فيما يغضب الله عليك، بل سخره دائما فيما يرضي الله، والتفكير في دعوة الناس إلى الخير، والتفكير في مخلوقات الله، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال: إن رأيت بهما خيرا أعلنته، وإن رأيت بهما شرا سترته.قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيرا وعيته، وإن سمعت بهما شرا دفعته.قال فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقا لله هو فيهما.قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاما، وأعلاه علما.قال: فما شكر الفرج؟ قال: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: 5 – 7]([61]).8- نعمة اللسان:هل وقفت يوما تخاطب إنسانا حرم نعمة الكلام؟ إنها إشارات يومئ بها، كيف سيكون تعامل هذا المسكين.تصور نفسك لو صمت عن الكلام يوما كاملا لا تتكلم فيه ولا كلمة واحدة!! هل يكون ذلك في استطاعتك؟فكيف بمن كان عمره كله يقضيه بلا كلام؟!الحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.وللأسف الشديد، فكثير من الناس قد سخروا هذه النعمة في معصية الله، فخرجت الغيبة والنميمة، والكلام الفاحش والكذب، قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12].ولنستغل اللسان في نشر الخير وفي التسبيح والتهليل، قبل أن يختم على هذه الألسن، فلا تتكلم أبدا إلا حين تستشهد، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور: 24].9- نعمة الرجلين:تذكر ـ أيها المسلم ـ أن الله وهب لك رجلين لتسير بهما إلى المسجد، ولتطوف بهما حول الكعبة.ولو فكرت يوما بمن حرموا هذه النعمة؟لقلت: هنيئا لمن انطلقت رجلاه إلى المساجد وشهدتا له يوم القيامة.وهنيئا لمن انطلقت رجلاه لكي يدعو إلى الله، ويا تعاسة من زلت قدماه وسارت به إلى ما حرم الله.ويا ترى هل ستسير على الصراط يوم القيامة فتجتازه بسرعة وسلامة؟!10- نعمة الصحة:في الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس»، وذكر منها: «صحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك»([62]).كم هم الذين ينامون على الأسرة البيضاء، فكن ممن يصرفون نعمة الصحة في الطاعة قبل أن يفاجئك المرض، ثم تريد أن تنشط للعبادة، فلا تستطيع، قال - صلى الله عليه وسلم - : «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»([63]).المعنى: إن العبد إذا اتقى الله في حال رخائه وصحته فقد تعرف بذلك إلى الله، فعرف ربه في الشدة، فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة.وهذه معرفة خاصة تقتضي القرب من الله عز وجل ومحبته لعبده وإجابته لدعائه، وليس المراد المعرفة العامة، فإن الله لا يخفى عليه حال أحد من خلقه.وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، فيونس عليه السلام كان يذكر الله فلما وقع في بطن الحوت نجاه الله، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143 - 144].وإن فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال تعالى: ﴿آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 91 - 92].وحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة ([64]) يشهد لهذا أيضا، فإنهم فرج عنهم بدعائهم لله بما كان سبق منهم من الأعمال الخالصة في حال الرخاء من بر الوالدين، وترك الفجور، والأمانة الخفية.فإذا علم أن التعرف إلى الله في الرخاء طريق لمعرفة الله لعبده في الشدة، فلا شدة يلقاها العبد في الدنيا أعظم من شدة الموت، (حيث تتكاثف الشياطين الذين يريدون أن يحولوا بين العبد وبين ختم حياته بالخير فإن الله يعينه ويؤيده) ([65])، وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إلى الخير، وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدة يلقاها.فمن أطاع الله واتقاه وحفظ حدوده في حياته، تولاه الله عند وفاته وتوفاه على الإيمان وثبته بالقول الثابت في القبر عند سؤال الملكين، ودفع عنه عذاب القبر، وآنس وحشته في تلك الوحدة والظلمة.وكذلك أهوال القيامة وأفزاعها وشدائدها، إذا تولى الله عبده المطيع له في الدنيا، أنجاه من ذلك كله.وأما من لم يتعرف إلى الله في الرخاء، فليس من يعرفه في الشدة لا في الدنيا ولا في الآخرة ([66]).11- نعمة الوقت:ما أعظم شأن هذه النعمة، وما أكثر الناس الذين يضيعونها إلا من رحم الله ـ والمؤمن يستغل ولا يسرف ـ واعلم أن الساعة التي تمر عليك لا تعود إلى يوم الحساب، فإما أن تصرفها في خير يعود عليك، وإما أن تصرفها في شر وتجني أثر ذلك، وإما أن تضيعها في المباحات فيضيع عليك خير عظيم! ([67]).12- ومن دقيق نعم الله على العبد، التي لا يكاد يفطن لها، أنه يغلق عليه بابه، فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب يسأله شيئا، ليعرف نعمته عليه، وقال سلام بن أبي مطيع: دخلت على مريض أعوده، فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم، قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه: اذكري المطروحين في الطريق، اذكري من لا مأوى له ولا له من يخدمه.من صور الشكر: سجود الشكر:يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يحرم على من كان محدثا أن يسجد للشكر وهو على غير طهارة ([68]).ودليل سجود الشكر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جاءه أمر يسره خر لله ساجدا شاكرا له عز وجل.وذكر محمد بن إسحاق في كتاب (الفتوح)، قال: لما جاء المبشر يوم بدر بقتل أبي جهل استحلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته قتيلا، فحلف له، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدا.وسجد كعب بن مالك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بشر بتوبة الله عليه.فإن قيل: فنعم الله دائما مستمرة على العبد، فما الذي اقتضى تخصيص النعمة الحادثة بالشكر دون الدائمة، وقد تكون المستدامة أعظم؟قيل: الجواب من وجوه:أحدها: أن النعمة المتجددة تذكر بالمستدامة، والإنسان موكل بالأدنى.الثاني: أن النعمة المتجددة تستدعي عبودية مجددة، وكان أسهلها على الإنسان وأحبها إلى الله السجود شكرا له.الثالث: أن النعمة المتجددة لها وقع في النفوس، والقلوب بها أعلق، ولهذا يهنى بها ويعزى بفقدها.الرابع: أن حدوث النعم يوجب فرح النفس وانبساطها، وكثيرا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر، والسجود ذل وعبودية وخضوع، فإذا تلقى به نعمته لسروره وفرح النفس وانبساطها، فكان جديرا بدوام تلك النعمة، وإذا تلقاها بالفرح الذي لا يحبه الله والأشر والبطر، كما يفعله الجهال عندما يحدث الله لهم من النعم، كانت سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، وانقلبت نقمة، وعادت استدراجا، فإن الله إذا أحدث لعبده نعمة أحب أن يحدث لها تواضعا.وقال العلاء بن المغيرة: بشرت الحسن بموت الحجاج، وهو مختف، فخر لله ساجدا.ثالثا: شكر من أجرى الله سبحانه النعمة على يده:فقد أمر الله سبحانه به في قوله تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14].فأمره بشكره ثم بشكر الوالدين، إذ كانا سبب وجوده في الدنيا، وسهرا وتعبا في تربيته وتغذيته، فمن عقهما أو أساء إليهما، فما شكرهما، بل جحد أفضالهما عليه، ومن لم يشكرهما فإنه لم يشكر الله الذي أجرى النعم على أيديهما، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يشكر الله ن لا يشكر الناس»([69]).ويقول ابن تيمية رحمه الله: لكن لا يبلغ من حق أحد وإنعامه، أن يشكر بمعصية الله، أو أن يطاع بمعصية الله، فإن الله هو المنعم بالنعم العظيمة، التي لا يقدر عليها مخلوق ([70]). كفر النعم:إظهار النعمة والتحدث بها من صفات المؤمنين الشاكرين، وأما أن يكتم المرء النعمة، ويظهر أنه فاقد لها إما بلسان الحال أو المقال، فهو كفر لها، وهو من صفات الكافرين الجاحدين.وإنما سمي الكافر كافرا، لأنه يغطي نعمة الله التي أسبغها عليه ويجحدها ولا يقر بها.وقد وصفهم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [النحل: 83].بل ربما نسوا نعم الله تعالى التي أعطاهم إياها إلى أنفسهم وعلمهم وخبرتهم، قال تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 49].ومما لاشك فيه أن الكفر بنعم الله تعالى مؤذن بزوالها عمن كفر بها، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].وهذه القرية هي مكة، من دخلها كان آمنا، وكان من تمام النعمة عليهم إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فكفروا به، ولهذا أذاقها الله الجوع، فدعا عليهم - صلى الله عليه وسلم - بالقحط، فعن عبد الله بن مسعود قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من الناس إدبارا، قال: «اللهم سبع كسبع يوسف»([71])، فأخذتهم سنة حصدت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع، فأتاه أبو سفيان، فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله وصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: 10].وأما الخوف في الآية فهو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة، فكانوا يخافون من سطوته، وبقوا كذلك إلى أن فتح الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - مكة، وللكافرين أمثالها، وقد قص الله سبحانه علينا قصة "سبأ" وأنهم كانوا في نعم كثيرة، وأموال ممدودة، وفواكه منتشرة، وأسفار بلا أخطار، ثم إنهم غيروا بأنفسهم فغير الله سبحانه أحوالهم، فأرسل الله عليهم سيلا عارما، جرف أشجارهم وحدائقهم وأموالهم، وبدلوا بعد ذلك بأشجار مرة أو ذات شوك، وأشجار لا ثمار لها، وكان خير الأشجار التي أعطوها (شجر السدر) وثمره يسير، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سبأ: 17].وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من زوال النعمة في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك»([72]).من صور الكفران:1- الشرك: إن أعظم الشكر لله سبحانه هو توحيده وعبادته وحده لا شريك له، لأنه هو الذي خلق وأوجد من العدم، ورزق الإنسان أرزاقا كثيرة، ولم يشاركه في ذلك أحد، فلا يستحق أحد العبادة معه، ولكن أكثر الناس كما قال تعالى أعرضوا عن هذه الحقيقة، وجعلوا له أندادا.فمن الشرك الذي يقع من العباد: نسبتهم ما يحصل لهم من الأرزاق إلى المخلوقين، قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب قول الله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82]، قال ابن عباس: شكركم.ومن هذا قول الناس: لولا الطبيب لمات ابني، لولا البط أو الكلب لسرق اللصوص الدار، وما شابه ذلك من نسبة الفضل والنعمة لغير الله تعالى ([73]).2- الكنود: وهو الذي لا يشكر النعم، وقد ذمه الله سبحانه في كتابه، فقال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6]، قال الحسن: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم.وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب، فقال: «ولو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط»([74])، فإذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج وهي في الحقيقة من الله، فكيف من ترك شكر نعمة الله؟3- ملل العبد النعمة وطلب الانتقال منها: إن من الآفات الخفية العامة: أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له، فيملها العبد، ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها، وتبرك منها، واستحكم ملله لها سلبه الله إياها، فإذا انتقل إلى ما طلبه، ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه، اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه وأوزعه شكره عليه، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته، عاجز عنها، مفوض إلى الله طالب منه حسن اختياره له، وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة، ولا يفرح بها، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة، وهذا وهي من أعظم نعم الله عليه، فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون بفتح الله عليهم، نعمه وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلما، فكم سعت إلى أحدهم نعمة وهو ساع على ردها بجهده، وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله، قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182].4- استعمال النعمة في معصية الله عز وجل: عن سفيان في قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182]، قال: يسبغ عليهم النعم، ويمنعهم من الشكر.وقال غيره: كلما أحدثوا ذنبا أحدث الله لهم نعمة.وسئل ثابت البناني عن الاستدراج، فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين. وقال يونس في تفسيرها: إن العبد إذا كانت له عند الله منزلة، فحفظها وبقي عليها، ثم شكر الله بما أعطاه، أعطاه أشرف منها، وإذا هو ضيع الشكر استدرجه الله، وكان تضييعه الشكر استدراجا.وقال أبو حازم: نعمة الله فيما زوي ([75]) عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطاها أقواما فهلكوا، وكل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية، وإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره. أسباب كفر النعم:1-             إن الخلق لم يقصروا عن شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم.2-             ثم إن عرفوا نعمه ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه: (الحمد لله، والشكر لله)، هذا شكر باللسان فقط.وأما الغفلة عن النعم فلها أسباب:أحدها: أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق نفعه في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون، فلا تراهم يشكرون الله على الهواء، والشمس و ..... الخ.ثانيا: إذا ابتلي أحدهم بنقمة ثم نجا، قدر نعمة الله عليه بشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل، إذ صار شكرهم موقوفا على أن تسلب عنهم النعمة، ثم ترد إليهم، فلا نرى البصير يشكر صحة البصر إلا أن يعمى.ثالثا: يخطئ الكثير من الناس ويحصرون نظرتهم إلى نعم الله عليهم بدخلهم الشهري أو السنوي من دراهم، أو ما شابه ذلك، وينسون باقي النعم التي ذكرنا بعضها والتي لا يعادلها ملايين الملايين من المال ([76]).يقول ابن تيمية رحمه الله: فكل ما خلق فهو نعمة، ودليل على قدرته وعلى حكمته.لكن نعمة الرزق، والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد، فلهذا يستدل بها، كما في سورة النحل، وتسمى سورة النعم، كما قال قتادة وغيره ([77]).ومما لاشك فيه أن الإنسان إذا أمعن النظر رأى من نعم الله نعما كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس، ومنها ما يشاركه في ذلك كثير منها، من ذلك: العقل، فما من عبد إلا وهو راض عن الله سبحانه في عقله، يعتقد أنه أعقل الناس، وإن كان ذلك اعتقاده فحسب، فيجب عليه أن يشكر الله.ومن ذلك الخلق الحسن، فإنه ما من عبد إلا ويرى في غيره عيوبا يكرهها، وأخلاقا يذمها، ويرى نفسه بريئا منها، فينبغي أن يشكر الله، حيث أحسن خلقه وابتلى غيره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من رأى رجلا به بلاء، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، إلا كان شكر تلك النعمة»([78])، وقال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم»([79])، وفي حديث آخر: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»([80]).فإن قيل: فما علاج القلوب الغافلة عن شكر نعم الله تعالى؟فالجواب: أما القلوب المبصرة، فتتأمل ما رمز إليه من أصناف نعم الله عز وجل، وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا نزل بها البلاء، فسبيل صاحبها:1-             أن ينظر أبدا إلى من دونه، ويفعل ما كان يفعله بعض القدماء، فإن كان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع البلاء عليهم، ثم يتأمل صحته وسلامته، ويشاهد الجناة الذين يقتلون، وتقطع أيديهم وأرجلهم ويعذبون، فيشكر الله على سلامته من تلك العقوبات، ويحضر المقابر، فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا، ليتدارك من عصى عصيانه، وليزيد في الطاعة من أطاع، فإن يوم القيامة يوم التغابن، فإذا شاهد المقابر، وعلم أحب الأشياء إليهم، فليصرف بقية عمره في طاعة الله تعالى وشكره في الإمهال، بأن يصرف العمر إلى ما خلق لأجله، وهو التزود للآخرة.2-             ومما ينبغي أن يعالج به أن يعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت، كان الفضيل رحمه الله تعالى يقول: عليكم بمداومة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم ([81]). شكرها لا ينال إلا بتوفيق الله:أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده، نعم الطاعات ونعم الملذات، فترغب إليه أن يلهمك ذكرها ويوزعك شكرها، لأن شكرها لا ينال إلا بتوفيقه، والذنوب من خذلانه، وتخليه عن عبده وتخليته بينه وبين نفسه، وإن لم يكشف ذلك على عبده فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه، فإذا هو مضطر إلى التضرع والابتهال إليه أن يدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه، وإذا وقعت بمقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها، فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاح له إلا بالشكر وطلب العافية والتوبة النصوح.وإن مدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليس بيد العبد، بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء، فإن وفق عبده أقبل بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة، وإن خذله تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.فإن قيل: هل التوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشيئة؟فالجواب: إن التوفيق والخذلان سببهما أهلية المحل، فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها ويشكر المنعم بها ويثني عليه، ويعلم أنها من عين الجود والمنة من غير أن لكون هو مستحقا لها.وعلم إن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه، وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له، وكلما زاد من نعمة ازداد ذلا وانكسارا وخضوعا بين يديه، وقياما بشكره، وخشية له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيقه لشكرها، كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53]، وهم الذين عرفوا قدر نعمة الله وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها، وأحبوه وقاموا بشكره.وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وقبوله للنعمة بحيث لو وافته النعم لقال: هذا لي وإنما أوتيته لأني أهل له وأستحقه، كما قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]، أي: على علم علمه الله عندي أستحق به ذلك.وذكر عن سليمان بن داود عليهما السلام فيما أوتي من الملك ثم قال: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40]، ولم يقل: هذا من كرامتي، ثم ذكر قارون وقوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]، يعني: أن سليمان عليه السلام رأى ما أوتيه من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلي به فشكر الله، وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ [فصلت: 50]، أي: أنا أهل له وحقيق به، فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه، والمؤمن يرى ذلك ملكا لربه وفضلا منه من به على عبده من غير استحقاق منه.فإذا لم يشهد ذلك رأى أنه أهل ومستحق لها، فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها، فكان حظها منها الفرح والفخر، كما قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: 9 - 10]، فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء، وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء، واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذا كشف عنه البلاء قوله: ﴿ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي﴾، ولو أنه قال: (أذهب الله السيئات عني برحمته ومنه) لما ذم على ذلك، بل كان محمودا عليه ولكنه غفل عن المنعم بكشفها، ونسب الذهاب إليها وفرح وافتخر، فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 22 - 23]، فأخبر سبحانه أن محلهم غير قابل لنعمه ومع عدم القبول ففيهم مانع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها. ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خلقت عليه في الأصل وإهمالها وتخليتها، فأسباب الخذلان منها وفيها، وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلية للنعمة، فأسباب التوفيق منه ومن فضله وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق أجزاء الأرض هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له، وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده، وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضده، وهو الحكيم العليم.وقفـــة:يجب أن نعلم أن الله تعالى لا يزداد ملكه شيء بشكر الناس له ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم، لأنه الغني الحميد، ولكنه تبارك وتعالى يحب أن يحمد ويشكر ويرضى عن العبد بذلك، ويكره أن يكفر به وبنعمته ويسخط على العبد بذلك، قال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7].بل المستفيد والمنتفع بالشكر هو الإنسان نفسه، كما أنه هو المتضرر بالكفر، قال تعالى عن سليمان عليه السلام: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.([1]) التذكرة في شكر النعم ـ عبد العزيز الخطابي ـ (3 – 4).([2]) واحات الإيمان ـ عبد الحميد البلالي ـ المجموعة الأولى ـ (15) بتصرف.([3]) مدارج السالكين ـ ابن القيم ج2 (244 – 246).([4]) تزكية النفوس ـ ابن رجب ـ ابن القيم ـ الغزالي، (93) بتصرف.([5]) مدارج السالكين ـ ابن القيم ج2 (244 – 246).([6]) مدارج السالكين ـ الإمام ابن القيم ـ ج2 ـ (253 – 255).([7]) النهج الأسمى ـ (315 – 316) (294).([8]) أخرجه مسلم (2626)، والترمذي (1833)، وأحمد (21519) عن أبي ذر.([9]) أخرجه البخاري (6023)، ومسلم (1016) (68) وأحمد (18253) من حديث عدي بن حاتم.([10]) عدة الصابرين (334 – 336) بتصرف.([11]) عدة الصابرين (334 – 336) بتصرف.([12]) الروضة الندية ـ شرح العقيدة الواسطية ـ زيد بن فياض.([13]) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ـ ابن قيم الجوزية ـ (150 – 151) بتصرف.([14]) أخرجه أحمد في الزهد: 142.([15]) عدة الصابرين، الإمام ابن القيم ـ (150 – 154) بتصرف.([16]) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 15/105، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/180.([17]) أخرجه البخاري (4836)، ومسلم (2819)، وأحمد (18198)، من حديث المغيرة بن شعبة.([18]) أخرجه أحمد (22119)، وأبو داود (1522)، وابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1/273) عن معاذ.([19]) أخرجه مسلم (2734)، وأحمد (3/100) و (117) عن أنس.([20]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (502)، وابن أبي الدنيا في الشكر: 29.([21]) أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر: 26.([22]) المرجع السابق: 39.([23]) المرجع السابق: 30.([24]) أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر: 39.([25]) أخرجه مسلم (2999)، وابن حبان (2896)، وأحمد (18934) من حديث صهيب.([26]) أخرجه البخاري (6386)، ومسلم (589)، وأبو داود (1543)، والترمذي (3495)، وأحمد (24301) من حديث عائشة رضي الله عنها.([27]) الحسنة والسيئة ـ ابن تيمية ـ (70 – 71).([28]) الحسنة والسيئة ـ ابن تيمية ـ (73 – 74).([29]) النهج الأسمى ـ محمد النجدي ـ (290 – 291).([30]) الحسنة والسيئة - ابن تيمية - (75)، (39 – 40) (75).([31]) أخرجه مسلم (868) (46)، وأحمد (2749)، وابن ماجة (1893)، وابن حبان (6568) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.([32]) الحسنة والسيئة ـ ابن تيمية ـ (75) (39 – 40).([33]) أخرجه مسلم (476) (204)، وأحمد (19118)، والنسائي (1/198)، وابن أبي شيبة (10/213).([34]) أخرجه البخاري (6323)، وأحمد (17111)، والنسائي في الكبرى (10298)، وابن أبي شيبة 10/296، وابن حبان (932)، والحاكم 2/458.([35]) أخرجه عبد الرزاق (19574)، والديلمي في مسند الفردوس (2607)، والسيوطي في الدرر المنثور (1/11)، والمتقي الهندي في كنز العمال (6419).([36]) أخرجه مالك في الموطأ 1/214 (32)، والترمذي (3585) من حديث طلحة بن عبد الله بن كثير.([37]) أخرجه البخاري (3293)، ومسلم (2691) (28) من حديث أبي هريرة.([38]) أخرجه أبو داود (4858)، والترمذي (3433)، وأحمد (10415)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (397)، والحاكم 1/536، والطبراني في الدعاء (1914).([39]) الحسنة والسيئة ـ ابن تيمية ـ (152 – 155) بتصرف.([40]) عدة الصابرين ـ (186) بتصرف.([41]) أخرجه البخاري (6463)، ومسلم (2816) (73)، وأحمد (10330) من حديث أبي هريرة.([42]) عدة الصابرين ـ (176).([43]) أخرجه البخاري (6467)، ومسلم (8218)، وأحمد (24941).([44]) النهج الأسمى ـ (296).([45]) أخرجه البخاري (7387)، ومسلم (2804) (49)، وأحمد (19527)، (19589)، والنسائي في الكبرى (7708).([46]) الحسنة والسيئة ـ ابن تيمية (95) بتصرف.([47]) زاد على الطريق ـ مصطفى مشهور ـ (43 ، 44) بتصرف.([48]) التذكرة في شكر النعم ـ عبد العزيز الخطابي ـ (5) بتصرف.([49]) عدة الصابرين ـ (186).([50]) تقدم تخريجه في الصفحة: 26.([51]) أخرجه مسلم (594) ـ (139) و (140)، وأبو داود (1507)، والبيهقي في السنن 2/185، وأحمد (16105).([52]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (69)، والترمذي (2035)، وابن حبان (2073)، والبغوي في التفسير (8/459).([53]) صيد الخاطر ـ ابن الجوزي ـ (122 – 123).([54]) النهج الأسمى ـ المجلد الأول ـ محمد النجدي ـ (297 – 304) بتصرف.([55]) التذكرة في شكر النعم ـ عبد العزيز الخطابي ـ (9 – 10).([56]) زاد على الطريق ـ مصطفى مشهور ـ (44 – 45).([57]) أخرجه مالك في الموطأ 2/952، ومسلم (2566)، وأحمد (7231)، وابن حبان (574)، والدارمي (2757) من حديث أبي هريرة.([58]) أخرجه أحمد (22080)، والترمذي (2390) والهاشمي في مسنده (1385).([59]) التذكرة في شكر النعم ـ (11 – 16).([60]) زاد على الطريق ـ (45 – 46).([61]) عدة الصابرين.([62]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (2)، والحاكم 4/306، والمنذري في الترغيب 4/251.([63]) أخرجه أحمد (2803)، والترمذي (2516)، والبيهقي في شعب الإيمان (1074)، وفي الأسماء والصفات 75 – 76، والطبراني في الكبير (12989).([64]) أخرجه ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة (8)، وأحمد (18417)، والطبراني في الدعاء (190)، وفي المعجم الأوسط (2328)، وأبو نعيم في الحلية 4/79، والبزار (3178) من حديث النعمان بن بشير.([65]) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ـ السعدي ـ (46) بتصرف.([66]) نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي ﷺ‬ لابن عباس ـ ابن رجب ـ (54 – 60).([67]) التذكرة في شكر النعم.([68]) الشرح الممتع على زاد المستقنع ـ ابن عثيمين ـ ج1 ـ (271).([69]) أخرجه أحمد (7504)، وأبو داود (4811)، والترمذي (1954)، والبيهقي في السنن 6/182، وابن حبان (3407) من حديث أبي هريرة.([70]) الحسنة والسيئة ـ ابن تيمية ـ (96).([71]) أخرجه البخاري (1007)، ومسلم (2798) (39)، وأبو يعلى (5145)، والطبري في تفسيره 21/15، وأحمد (4206)، والترمذي (3254)، وابن حبان (6585)، والطبراني في الكبير (9048)، وأبو نعيم في الدلائل (369)، والبغوي في التفسير 7/229، من حديث ابن مسعود.([72]) أخرجه مسلم (2739)، وأبو داود (1550)، والبغوي في شرح السنة 5/168، والحاكم 1/531.([73]) النهج الأسمى.([74]) أخرجه مسلم (2737) (94)، وأحمد 1/234، والترمذي (2602)، والطبراني في الكبير (12767) من حديث ابن عباس.([75]) أي: حجب ومنع.([76]) زاد على الطريق.([77]) الحسنة والسيئة ـ ابن تيمية ـ (73).([78]) فضيلة الشكر على نعمته ـ الخرائطي ـ (34) والحديث أخرجه الترمذي (3432)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6248).([79]) تقدم تخريجه في الصفحة 15.([80]) أخرجه الترمذي (3247)، وابن ماجة (3349)، والحميدي (439)، والبخاري في الأدب المفرد (300) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري.([81]) مختصر منهاج القاصدين ـ ابن قدامة المقدسي ـ (425 – 431).