الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | حفيظ بن عجب الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أيها المسلمون: عليكم بالمراقبة، ثم المحاسبة، ثم المعاقبة، ولابد من المجاهدة والمعاتبة، عليكم بمحاسبة أنفسكم في كل يوم إن خيرا فعلتم فباركوا عملكم، واسألوا الله القبول وتنافسوا في الخير، وإن شرا صنعت أنفسكم فحاسبوها وامنعوها، وجاهدوها في ....
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أيها الأحباب: اتقوا الله -جل وعلا-، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) [آل عمران: 30].
اتقوا الله -يا عباد الله- فستحضر أعمالكم يوم القيامة بين يديه: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28].
واعلموا -يا عباد الله- أن الله يضع الموازين القسط، وأنه جل وعلا هو المحاسب لكم: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
وأنه جل وعلا يخبركم في الكتاب أنه إذا وضع الكتاب ترى المجرمين مشفقين مما فيه: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)[الكهف: 49].
واعلموا -يا عباد الله- أن الله لا يظلم أحدا: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 6-8].
أيها الأحبة الحاضرون: عليكم بلزوم محاسبة أنفسكم، وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا خف في يوم القيامة حسابه، وحسن منقلبه، ومن أهمل المحاسبة لنفسه دامت حسراته وعبراته.
أيها المسلمون: لا ينجينا إلا الطاعة، وقد أمر الله -جل وعلا- بالصبر والمرابطة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
أيها المسلمون: عليكم بالمراقبة، ثم المحاسبة، ثم المعاقبة، ولابد من المجاهدة والمعاتبة، عليكم بمحاسبة أنفسكم في كل يوم إن خيرا فعلتم فباركوا عملكم، واسألوا الله القبول وتنافسوا في الخير، وإن شرا صنعت أنفسكم فحاسبوها وامنعوها، وجاهدوها في طاعة الله -سبحانه وتعالى-.
أيها المسلمون: على كل ذي عقل حازم آمن بالله وباليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، لا تغفلوا عن محاسبة النفس، واعلموا أن سلفكم الصالح -عليهم رحمة الله- كانوا يحاسبون أنفسهم، ففي الترمذي وعند ابن ماجه وعند الحاكم وأحمد عن شداد بن أوس - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله" نسأل الله العافية والسلامة.
إن صاحب العقل الفطن، والكيس الكريم الذي يحاول تزكية نفسه، هو من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، عمله للدار الآخرة، فالدنيا لا تساوي شيئا، والعاجز الضعيف الذي نسأل الله أن يكفينا شره، وحاله من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله، تتمنى على الله، وقد أتبعت نفسك هواها، لا، بل حاسب نفسك واعمل لأخرتك، وتوكل على الله، وأخلص لعملك، ثم اسأل الله القبول.
ألم يقل ابن الخطاب عمر - رضي الله عنه وأرضاه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا": (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
فاستعدوا -يا عباد الله- إذ أنكم ستعرضون ولن تخفى على الله منكم خافية.
في الخبر الصحيح لما سأل جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان ماذا؟ قال؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
أيها المسلمون: إن استحضار عظمة الله ومراقبته في حال العبادة أمر مطلوب: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدينا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
استحضروا عظمة الله واستحضروا مراقبته، واعلموا أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 3].
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 16].
أيها المسلمون: اعبدوا الله كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه، فإنه جل وعلا يراكم، وهو مراقب لكم وسيحاسبكم: "رحم الله عبدا وقف عند همه، فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر" هكذا قال الحسن -رحمه الله-.
فراقبوا ربكم -جل وعلا- حتى في طاعتكم، وعليكم بالإخلاص فيها ومراقبته في المعصية بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعيم.
أيها المسلمون: قال وهب بن منبه في حكمة آل داوود: "حق على العاقل أن لا يشغل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي بها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ولا يحرم، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقوة".
أيها المسلمون: لا تغفل عن المحاسبة حتى بعد الطاعة والإحسان والتقوى، لا بد من المحاسبة، قال الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
إنها إشارة إلى المحاسبة بعد مضي العمل، ولذا كان عمر -رضي الله عنه- يقول كما ذكرنا: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا..".
والحسن يقول: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ -عز وجل-، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الأمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْجَأُ الشَّيْءَ يُعْجِبُهُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَشْتَهِيكَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ حَاجَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِلَيْكَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيَفْرُطُ مِنْهُ الشَّيْءُ فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا، مَا لِي وَلِهَذَا، وَاللَّهِ لا أَعُودُ إِلَى هَذَا أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ أَوْثَقَهُمُ الْقُرْآنُ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَلَكَتِهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ، لا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ، فِي بَصَرِهِ، فِي لِسَانِهِ، فِي جَوَارِحِهِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ".
فاتقوا الله واعلموا أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يحاسب فيه نفسه، كذلك ينبغي له أن يكون له ساعات يطالب نفسه في آخر النهار ويحاسبها على ما كان منها؛ كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة، أو شهر، أو يوم.
أيها المؤمنون: تسابقوا إلى عمل الصالحات، وابتدروا إلى الطاعات، وأخلصوا في النيات، واحرصوا على محاسبة النفس لتفوزوا، بادروا في الحسنات بعد الحسنات، وأخلصوا النيات، وحاسبوا الأنفس، وتسابقوا في النوافل قبل الفرائض، وكونوا مع الفرائض والنوافل أبداً، ما افترض الله عليكم لابد أن تأتوا به، وعليكم بالنوافل التي كان يسابقكم إليها، ويسبقكم حبيبكم صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
حسب صالح من الصالحين لنفسه، فحسب يوما فإذا هو ابن 60 سنة، فحسب أيامها، فإذا هي 21.500يوم، فصرخ، وقال: "يا ويلنا ألقى الملك بـ 21.500 ذنب، كيف وكل يوم عشرة آلاف ذنب" ثم خر مغشيا عليه، فإذا هو ميت.
الله أكبر لقد كانوا يحاسبون أنفسهم، ويحصون ذنوبهم ومعاصيهم، وقد أحصاه ونسوه.
أيها المسلمون: إذا رأيت من نفسك تقصيرا فعاقبها على تقصيرها، ولكن لا تتجاوز حدود الله، ولا ما أحل الله، روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى الناس العصر، فقال: "إنما خرجت إلى حائطي ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين".
وقال الليث: "إنما فاتته الجماعة، وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان فلما صلاها أعتق رقبتين".
وتميم الداري - رضي الله عنه - كما ذكر ابن قدامة المقدسي: نام ليلة لم يقم يتهجد فيها، حتى الصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع.
لقد كانوا يجتهدون ويعبدون الله ويتنفلون، وفي الطاعات يتسابقون، وللأنفس يعاقبون ويحاسبون، قبل أن يحاسبوا.
فاتت ابن عمر -رضي الله عنهما- صلاة جماعة، فأحيى الليل كله تلك الليلة، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد، فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع.
كان أمير المؤمنين في الحديث ابن المبارك يقول: "إن الصالحين كانت أنفسهم تواسيهم على الخير، عفوا دون مجاهدة، وإن أنفسنا لا تواسينا إلا كرها".
هذا في زمنه فكيف في زمننا يا ابن المبارك؟!
إذا كان في زمنك لا تواسيكم على الخير إلا كرها، فكيف بزماننا التي لا تواسينا إلا إرغاما لها وكرها؟!
ومما يستعان به: أن يحرص العبد على أن يسمع أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليه منهم، فيقتدي بأفعاله.
كان بعض السلف في زمن محمد بن واسع التي اشتهر في اجتهاده في العبادة قال: "كنت إذا اعترتني فطرة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع، وإلى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعا".
وقد كان عامر بن عبد قيس يصلي كل يوم ألف ركعة فأين الذين يصلون؟! وأين الذين يخبتون؟! وأين الذين ينبون؟! وأين الذين لأنفسهم دائما يحاسبون؟!
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: "من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته".
وكان أنس -رضي الله عنه- يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخلا حائطا فسمعته، يقول وبيني وبينه جدار: "عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك".
الله أكبر لقد كانوا يحاسبون أنفسهم.
وفي زماننا زادت الغفلة وظهرت، وأصبح الناس لا يحاسبون أنفسهم إلا قليلا، لا يأتون بالنوافل، ويتأخرون عن الفرائض، فلا محاسبة للنفس، ولا معاتبة، وكأنها لم تفعل شيئا.
أيها المسلمون: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعلموا أن الله سيسألكم عن الصغير والكبير، واقتدوا بهؤلاء السلف الذين كانوا يحاسبون أنفسهم مع كثرة عبادتهم وطاعاتهم لله، ومع أنهم كانوا أحرص الناس على الطاعة والإحسان والنوافل، والبر والخير، ومع ذلك كانوا يحاسبون أنفسهم.
أيها المسلمون: يتأخر الكثير منا عن العبادة، فلا يحاسب نفسه، وعن الصدقة فلا يحاسب نفسه، بل بعضهم يتأخر عن فرائض الله، فلا يحاسب نفسه، وقد افترضه الله عليه، وهؤلاء إذا فاتتهم عبادة من العبادات حاسبوا أنفسهم.
أولئك أبائي فجئني بمثلهم | إذا جماعتنا يا جرير المجامع |
أدركنا شيخا من علمائنا ومن مشايخنا، كان يسافر معنا، وكنا نزعجه بالأسئلة، ونطلب العلم على يديه، ونقرأ عنده، حتى يغلبه النوم، فإذا ما نام الناس، وانتصف الليل، وهو لم ينم إلا ساعة، أو ساعتين، قام يصلي لله -سبحانه وتعالى- ويتهجد حتى يأذن مؤذن الفجر، فينام قبل الأذان بقليل، حتى لا يرى الناس عبادته ولا طلابه مع أنه قدوة لهم، فإذا أتى الصبح كان أنشط الناس في التعليم والسنة والعبادة والتوجيه والإرشاد، فلما سألناه مالك تفعل هذا في خاصة نفسك؟ قال: "أخشى على نفسي من الرياء، فاتقوا الله، واستتروا بأعمالكم، واعلموا أن الله سيحاسبكم".
أيها المؤمنون: لقد كان بعض السلف يحاسب نفسه أياما على كلمة نطقت بها لسانه، وخرجت وهو لا يريدها أن تخرج؛ لأنه يرى أن غيرها خيرا منها، فما بالك بالذي يقول: ما حرم الله؟ وربما قال كلمة تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفا؟.
أين المحاسبة؟ أين المراقبة؟ أين المعاتبة؟ أين المعاقبة؟
تلك كانت في السلف الصالحين، وعلينا أن نحيها فينا جميعا، وأن نقتفي أثرهم.
اللهم إنا نسألك إخلاص النية والقبول، والنجاة من النار.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.