الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
فالخبير -سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تسره الآن في سريرتك، ومن بجوارك لا يعلم ذلك, يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد أيام وأعوام من الآن، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات. إنه الخبير -سبحانه- تفرد بالعلم الكامل، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، سبحانه هو الخالق القادر، وهو العليم الخبير، خلق فأبدع، وقدر فهدى، بيده ملكوت السماوات والأرض، أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وإليه النشور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الملك، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، رسول الهداية ونبي الرحمة، أرسله ربه رحمة للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، فإن طاعته أقوم وأقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له دينكم، وأحسنوا عملكم، واحذروا غضبه وعقابه.
واعلموا أن ربكم -سبحانه- هو الخبير الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم، بل ونياتكم، وما تخفيه صدوركم، وإن الإنسان منا في هذا الزمان يتعرض لأمور قد تكون محيرة له ومربكة، سواء في التخطيط لمستقبله في العمل، أو الزواج أو السفر، أو النجاة من شر وبلاء وقع فيه، ويمر الإنسان بعدة خطوات بين اليأس واليقين، والشدة والرخاء، يستشير ويستخير، وكثيرًا ما يتم نصحه أن يلجأ إلى خبير، نعم خبير في هذا الأمر متخصص دارس، له باع في الدراسة الأكاديمية والحلول الواقعية.
ويبحث الناس عن الخبراء في شتى مجالات الحياة في الصحة، والتجارة، والرياضة، ونادرًا ما يلجأ الناس والأمم والدول إلى العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علمًا -سبحانه-، الخبير الذي لا تخفى عليه بواطن الأمور، فلماذا قل الالتجاء إلى الخبير الذي علم الأولين والآخرين إليه، وخير الدنيا والآخرة بيده، ألا قد خاب قوم أعرضوا عن الخبير -سبحانه-، وقد ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وتيقنوا -إخوتاه- أن البشر مهما خبروا الأمور، وتخصصوا في أدق التخصصات يبقى علمهم قاصرًا ضعيفًا قليلاً، فما وراء هذه الجدران نجهلُ منه الكثيرُ لا نعلمه، بل لا نعلمُ أنفسَنا التي بين جنبينا، لكن الخبير -سبحانه- يعلم ذلك، ويعلم ما هو أعلى من ذلك، فما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
فالخبير -سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تسره الآن في سريرتك، ومن بجوارك لا يعلم ذلك, يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد أيام وأعوام من الآن، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات. إنه الخبير -سبحانه- تفرد بالعلم الكامل، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء.
واعلموا -أيها المؤمنون- أن الخبير -سبحانه- هو العليم مطلق العلم فلا يخفى عليه شيء من مخلوقاته، فهو خبير بما تكنّه صدور الخلق، وما تُضمِره قلوبهم، خبير بأمورهم وما يجري في حياتهم، وبكل ما يعملونه من الطاعات والمعاصي، والحسنات والسيئات، محيط بالظاهر والباطن، والسر والعلن، الخبير بنيات العباد، وبواعثها، وأهدافها، وأبعادها، وبمقاصدها، وخلفياتها، وجزئياتها، والخبير بأقوالهم وأفعالهم، فهو (الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18].
وتيقنوا -عباد الله- أن للخبير -سبحانه- في كل خلقه حكمة عظيمة، وفي جميع كائناته دلائل باهرة، تدل على خبرته، تغيب عنا لجهلنا، ولكن الله يعلمها، وخذ مثالاً واحدًا على ذلك: لقد جعل الله الخبير في قلب الطفل الوليد ثقبًا بين الأُذين والأُذين، وهذا الثقب وظيفته أنه مادام الطفل في بطن أمه لا يلزمه هواء، فهو لا يتنفس، ورئته معطلة، فبدلاً من أن ينتقل الدم إلى الرئة، ويعود إلى الأُذين، ينتقل من أُذين إلى أُذين، وحينما يولد الطفل تحدث له جلطة لتغلق هذا الثقب، كما قال العلماء، وعندها تنتقل الدورة التي كانت من الأذين إلى الأذين؛ لتصبح من الأذين إلى الرئة إلى البُطَين، وهذا مظهر بديع من مظاهر صنع الخبير -جل وعلا-، وصدق ربنا إذ يقول: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، وهذا مجرد مثال على اتساع علم العليم الخبير -سبحانه-.
أيها المؤمنون: لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الخبير، وقد جاء اسم الله الخبير في كثير من الآيات مقترنًا باسم الله الحكيم، قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ:1]، وقال جل وعلا: (الَر* كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) [هود: 1].
كما جاء مقترنًا باسم الله العليم، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم: 3].
وورد مقترنًا باسم الله اللطيف، كما في قوله -تعالى-: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103]، وقوله -جل وعلا-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، والآيات في هذا وذاك كثيرة.
أيها المسلمون: وقد أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به، فوصفه بأنه الخبير، فعن قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قَالَ لها: "لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (مسلم 2301)، وذلك في قصة خروج عائشة -رضي الله عنها- خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة من الليالي في الظلام الدامس؛ غيرةً عليه -صلى الله عليه وسلم-، فقد ظنت أنه ذاهب لإحدى زوجاته، فإذا هو يذهب إلى البقيع حيث قبور أصحابه؛ ليستغفر لهم، فلما رجع, رجعت هي أمامه مسرعةً، فلما دخل وجدها ليست بحال النائم, بل تحت الغطاء وصدرها يخفق بشدة كأنها كانت تجري، ولم تكُ نائمة، فسألها، فلم ترد، فعندها قال لها: (لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير).
إنه درس نبوي ليس لأم المؤمنين عائشة فحسب، بل لسائر المؤمنين به أن الله اللطيف الخبير لا يخفى عليه شيء، وأن الصدق مع الله ومراقبته، ومن ثَم الوصول لدرجة الإحسان من خير أعمال عباد الله المؤمنين به المتبعين لنبيه -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المؤمنون: والخبير لغة يُطلق على العارف بالشيء العالم بحقيقته وبتفاصيله وخصائصه الدقيقة. ومن ذلك لما سأل أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- عائشة -رضي الله عنها-: "فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ" (مسلم 812)، تعني أنه سأل من يعلم الجواب بتمامه؛ لأن الخَبِير الذي يَخبُرُ الشيء بعلمه الملازم لذاته.
والخبير -سبحانه- هو المنفرد بالعلم وحده، فلا يخفى عليه شيء، المحيط بالظاهر والباطن والسر والعلن، يعلم ما كَان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يتحرك متحرك ولا يسكن إلا بعلمه، ولا يعيش كائن ولا يموت ميت، ولا تستقيم حياة أي شيء إلا بأمره، قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34].
فهو -سبحانه- لا يخفى عليه شيء، ولا تعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري شيء في الفلك والملكوت إلا والله يعلمه، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن إلا بعلمه، ولا تضطرب نفس ولا يطمئن قلب إلا وعنده خبره، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 73].
والخبير -سبحانه- هو الذي اقترنت حكمته بخبرته، فتفرد -سبحانه- بالحكمة المقترنة بالخبرة، أو الحكمة المفضية إلى الخبرة، ولذلك استحقَ الحكيمُ الخبيرُ أن يُحمد بكل ما في السماوات؛ حيث محل الإحكام، وبكل ما في الأرض حيث محل التفصيل الذي هو مجال الخبرة؛ لذلك.
أيها المسلمون: إن من لوازم الخبرة: العلم والإحاطة، فلا يكون خبيرًا بغير علم وإحاطة، قال الخبير -سبحانه-: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) [الأنعام: 103]، وإن اسم الله الخبير يدل تمام العلم والخبرة والإحاطة، قال -تعالى-: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 91]، أي: وقد أحطنا إحاطة تامة، وعلمنا علمًا شاملاً لا يغيب منه شيء، بما كان لدى ذي القرنين من قوة وجنود وإمكانات وآلات وخبرة، وغير ذلك من أسباب النفوذ والملك والغلبة والسلطان، وقد ذكر الله كمال علمه بخلقه وإحاطته بهم، فقال عز وجل: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك14].
أيها المؤمنون: إن من صور قصور علم البشر وخبرتهم أنهم لا يدركون حقيقة الشيء إلا بالتجارب، ولهذا إذا أردنا صنع دواء ما، فإننا نقوم بكثير من التجارب لإدراك مدى فاعليته، وذلك بزرعه في الجراثيم، ثم بعدها ننظر بعد ذلك؛ فإما أن يقتل تلك الجراثيم فهو فاعل، وإما أن تبقى حية كما كانت فهو غير فاعل، ومن هنا ندرك يقينًا أن علوم البشر كلها أساسها التجربة، لذلك سموه بالعلم التجريبي، لكن علم الله وخبرته لا يفتقر إلى التجربة، بل علم تام محيط شامل كامل، فسبحان العليم الخبير.
وتأمّل -عبد الله- مثلاً في قول الله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [الحج: 63] قال سيد -رحمه الله-: "ونزول الماء من السماء، ورؤية الأرض بعده مخضرة بين عشية وصباح.. ظاهرة واقعة مكرورة. وإن القلب ليحس أحيانًا أن هذا النبت الصغير الطالع من سواد الطين، بخضرته وغضارته، أطفال صغار تبسم في غرارة لهذا الوجود الشائق البهيج، وتكاد من فرحتها بالنور تطير! والذي يحس على هذا النحو يستطيع أن يدرك ما في التعقيب بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) .. فبالخبرة الإلهية يتم تدبير الأمر في إنزال الماء بقدر في الوقت المناسب، وبالقدر المطلوب، ويتم امتزاج الماء بالتربة، وبخلايا النبات الحية المتطلعة إلى الانطلاق والنور!" (في ظلال القرآن 4/ 2440). فسبحان اللطيف الخبير، الذي يُجري رحمته تحت أستار الخفاء.
فاتقوا الله -عباد الله- ولازموا الأعمال الصالحة، وأكثروا من فعل الطاعات، فإنها سبب للنجاة من المهلكات، العاجلة والآجلة، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العليم الخبير، القوي العزيز الحكيم، خلق كل شيء فأتقنه صنعًا وتقديرًا، وشرع الشرائع فأحكمها عملاً وتنظيمًا، فسبحانه من إله عظيم وخالق حكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بدار النعيم المقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم القويم وسلم تسليمًا.
يا عباد الله: اتقوا علم الخبير -سبحانه- فيكم، واطلاعه عليكم، فهو الذي لا يخفى عليه حياة أي دابة في الأرض ولا في السماء، ولا رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، فهو خبير من حيث علمه الكامل بأحوال المخلوقات، وحقائقها، ودقائقها، وفي ذلك ترغيب وترهيب للمكلفين.
وإن من عَلِمَ أن الله خبير بأحوالِهِ احترز في أقواله وأفعاله، وتيقن أن ما قُسِمَ له سيدركه، وما لم يقْسم له لن يظفر به، فيرى جميع الحوادث من الله، فتهون عليه الأمور، ويكتفي باستحضار حاجته في قلبه من غير أن ينطق لسانه.
واعلموا -إخوتاه- أن الله -عز وجل مع أنه خبير بذاته العليّة- له جنود يخبرونه بالوقائع -وهو أخبر بها قبل إخبار الملائكة- لكن لتحقيق الحكمة في الخلق، وهو مستغنٍ بعلمه عنهم، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِالليْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي.. " الحديث (البخاري 555). فسؤاله -سبحانه- لهم ليس طلبًا للعلم الذي يسبقه الجهل، بل هو السميع البصير العليم الخبير، ولكن لحِكَم متعددة، منها: بيان مكانة المؤمن عند ربه، وإظهار شرفه بين ملائكته وحملة عرشه.
واستمعوا معي -عباد الله- إلى ما قاله ابن حجر -رحمه الله-: "وقيل الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم؛ وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30]، أي وقد وُجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم".
وليكن الإنسان -عباد الله- مدركًا لما يجري في نفسه، عالمًا بالخفايا التي يتصف بها قلبه من غشٍ وخيانةٍ، وحقد وحسد، خبيرًا بأسبابها وعلاجها ونتائجها؛ لذا عليه أن يسعى بإصرار وحزم إلى التخلص منها بالاجتهاد في العبادات والمثابرة على الطاعات، والله خبير بأعمال عباده، وما يجول في صدورهم، فليتق العبدُ اللهَ ربه، وليعبده بإحسان.
وتذكروا -إخوتاه- أن هناك فرقًا ببين اتصاف ربنا -سبحانه- بأنه الخبير وبين وصف بعض الناس بالخبرة، فعندما يُوصف الإنسان بالخبرة فإنما حصل له ذلك نتيجة مشواره التعليمي، ومشاورة أهل الخبرة والأسبقية، وما تكون عنده من معلومات تراكمية نتيجة تجارب سابقة، وما نلمسه في واقعنا من نقص في الخبرة عند القيام بأعمال، فإن ذلك النقص يتلافى في تجارب لاحقة! وليس التطويرات التي تطرأ على خبرة الإنسان وصناعته وحرفته إلا دليل على أن خبرته ناقصة، ومكتسبة، وحادثة، أما خلق الله فكامل ولا يزال كاملاً، وسيبقى كاملاً، وهذا دليل على أن خبرة الله قديمة عظيمة شاملة محيطة، -سبحانه- ليس كمثله شيء، حكيم عليم خبير -جل وعلا-.
أيها المسلمون: وينبغي للمسلم الموقن بعلم الله وخبرته المحيطة أن يرضى ويطمئن إلى اختيار الخبير والثقة به، فإن أثر اسم الله الخبير في سلوك العبد يتمثل في اعتماده على اختيار ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره، فطالما آمن العبد بأن الله هو الخبير، سلّم له في جميع شئونه مطلق التدبير، وهذا شأن أهل التوحيد واليقين ألا يخالفوا مراد الله وتدبيره، بل يسلموا إليه أمورهم؛ ثقةً في كمال تدبيره، سواء كان تدبيرًا يتعلق بتوحيد الربوبية، وتصريف أمور الخلق كالإيجاد والإمداد، والمنع والعطاء على مقتضى حكمته في ترتيب الابتلاء، أو كان تدبيرًا شرعيًّا يتعلق بتوحيد العبودية، وما أمرهم به أو نهاهم، أو ندبهم أو دعاهم.
فلا ينازعون الله في تدبيره وشرعه، أو قضائه وقدره؛ ليقينهم أنه الملك الخبير القادر القدير، القابض على نواصي الخلق، والمتولي شئون الملك، ولتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله، وأنها لا تخرج عن العدل والحكمة، والفضل والرحمة، فلم يُدْخِلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه، وتصريفه لأمور خلقه، ولم يتسخطوا على دينه أو يتمنوا سواه، بل همهم كله في إقامة حدوده والتزام حقه عليهم، فالذي وحَّد الله في اسمه الخبير يختار الله وكيلاً كفيلاً، والله -عز وجل- إذا تولى أمر عبد بجميل عنايته كفاه، وأغناه، وأسعده في الدنيا والآخرة.
كما ينبغي أن يحرص كل مسلم على أن يتجلى اعتماده على اختيار ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره، فيجعل حوله وقوته، واعتماده وثقته وتوكله على ربه الحكيم الخبير، فيستخير الخبير -سبحانه-، ويرضى بما اختاره له.
واعلموا -عباد الله- أن العبد الموفق يسلم للخبير -سبحانه- في جميع شئونه، ويتوكل عليه وحده، فللخبير -سبحانه- مطلق التدبير والحكم، والأمر والنهي، فمن منطلق إيمان العبد بأن الله هو الخبير، يلزمه أن يسلِّم له في جميع شئونه مطلق التصريف والتدبير، والحكم والأمر، ولا ينازع ربه الذي -هو أرحم به من أمه- في تدبيره وشرعه له، أو قضائه وقدره.
أيها المؤمنون: كما يجب على المسلم أن يجعل الله وكيلاً له ويتخذه كفيلاً، فكل من وحّد الله في اسمه الخبير لزمه أن يجعل الله وكيلاً له وكفيلاً عليه، فنعم المولى هو ونعم النصير، ونعم الخبير، والله -عز وجل- إذا تولى أمر عبده بجميل عنايته، كفاه وأغناه، وأسعده في الدنيا والآخرة، والله -سبحانه- لا يضيره من عبده كثرة مطالبه، كما لا يعجزه كثرة إلحاحه وسؤاله، فمهما طلب العبد من مولاه، فإنه لا يستكثر حوائجه على الله؛ لعلمه أن مولاه كافيه ومعطيه، فهو الغني بذاته عمن سواه، لا تنفد خزائنه، ولا ينتهي ملكه -سبحانه-.
فالمسلم الذي يرضى بربه خبيرًا بأمره، هاديًا لعمله، وكيلاً على نفسه فهو الموحّد لله حقًّا في اسمه الخبير، وترسخ في قرارة نفسه أن ما كُتب في اللوح المحفوظ سوف يناله، ومن ثَم تهون عليه الأمور، ويركن بإيمانه إلى اللطيف الخبير -سبحانه جل وعلا-.
أيها المسلمون: لقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- كل عبد موفق على اللجوء لعلم الله -تبارك وتعالى- عند رغبته، وإقدامه على أمر مستقبلي لا دراية له بعاقبته؛ كأن يرغب في عملٍ ما: سفرٍ أو زواجٍ أو عملٍ أو غير ذلك، حثه على أن يستخير الله، ويرجوه ويدعوه ويتوسل إليه بعلمه وخبرته واطلاعه على ما كان وما سيكون، ويلح عليه ويرجوه؛ لأنه الأعلم والأحكم والأقدر والأخبر، أن يتخير له بعلمه ما ينفعه.
قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمنا الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها، كما يعلِّمنا السورةَ من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بالأمر فَلْيَرْكَعْ ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللَّهُمَّ إني أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ من فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فإنك تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وأنت عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فإنْ كنتَ تَعْلَمُ هذا الأَمْرَ ويسميه باسمه خَيْرا لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمري، فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي، ثم بارك لي فيه، اللَّهُمَّ وإنْ كنتَ تَعْلَمُه َ شَرًّا لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمري فَاصْرِفْنِي عنه، وَاصْرِفْهُ عني، وَاقْدُرْ لي الْخَيْرَ حيث كان ثم رَضِّنِي به". (البخاري 6955)، فاستخيروا ربكم -أيها الإخوة- وارضوا باختياره لكم، ونسأل العافية..
وختامًا -يا عباد الله- ما أجمل وأروع أن نتدبر في قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 58]. ما أروع أن تتوكل على الحي الذي لا يموت، فكل الخلق يموتون، فتفوّض الأمور إليه، وتثق في وعده، وتحسن الظن به، وترجوه؛ إذ هو العليم الخبير، وترجع على نفسك باللائمة فهو أعرف بما كسبت يداك من معاصٍ وآثام، وما انطوت عليه نفسك واحتوى عليه قلبك من غلّ وحسد، وحقد وأوهام، وأمنيات باطلة وشهوات زائلة.
فلنلجأ إلى الخبير، ونحتمي به من شرور أنفسنا، فهو أعلم بنا، وصدق الله إذ يقول: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم : 32]. قال سيد قطب -رحمه الله- عند هذه الآية: "فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم. العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة، التي لا يعلمونها هم، ولا يعرفها إلا الذي خلقهم. عِلْمٌ كان وهو ينشئ أصلهم من الأرض وهم بعدُ في عالم الغيب. وكان وهم أجِنّة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعدُ. علم بالحقيقة قبل الظاهر. وبالطبيعة قبل العمل". (في ظلال القرآن 7/62).
فاحرصوا -عباد الله- على محبة الخبير -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، وارضوا بحكمه، وفوضوا أموركم إليه وحده، واحذروا غضبه، ولا تجعلوا الله أهون الناظرين إليكم، جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأسأل الله أن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واجعلنا من عبادك الصالحين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، زدنا ولا تنقصنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعل أوسع أرزاقنا عند ضعفنا وكبر سننا، اللهم لا تحوجنا إلا إليك، ولا تذلنا إلا بين يديك، وصب علينا الرزق صبًّا، ولا تجعل معيشتنا كدًّا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، آمين.. آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.