الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
كم من حسرات في بطون المقابر، وكم من حسرات في الموقف يوم العرض الأكبر، وكم من حسرات يوم الحساب، وكم من حسرات في النار، ومما يزيد في هذه الحسرات ولا يطفئ نارها، أنه لا توجد فرصة لتصحيح الأخطاء، ولا توجد طريقة للنجاة منها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، قسم عباده قسمين: فمنهم شاكر ومنهم كفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهديهم إلى يوم الحشر والمصير, وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واخشوا يومًا لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، واعلموا -يا عباد الله- أن هذه الحياة الدنيا دار ممر وعبور ودار عمل وكدح للعباد، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، فتذكروا ما أنتم إليه صائرون من الموت وما بعده يوم تُحشرون، تذكروا حالتكم عند حلول الآجال ومفارقة الأوطان والأهل والعيال، تذكروا حينما تشاهدون الآخرة أمامكم وأنتم مقبلون إليها مدبرين عن الدنيا.
أيها الإخوة: كم من حسرات في بطون المقابر، وكم من حسرات في الموقف يوم العرض الأكبر، وكم من حسرات يوم الحساب، وكم من حسرات في النار، ومما يزيد في هذه الحسرات ولا يطفئ نارها، أنه لا توجد فرصة لتصحيح الأخطاء، ولا توجد طريقة للنجاة منها، إذ الدنيا دار العمل والآخرة هي دار الجزاء، نجاني الله وإياكم من حسرات الآخرة.
أيها الإخوة: يوم القيامة تنخلع القلوب، يوم تُنصب الموازين ثم يقول الله: "يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: أخرج بعث النار من ذريتك. قال: وما بعث النار من ذريتي يا رب؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، عند ذلك: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2]".
يومها تشتد الحسرات، يوم يُنصب الميزان، ثم يقول الله للملائكة في سعي المجرم: (خُذُوهُ) [الدخان:47] فيبتدره سبعون ألف ملك، كل ملك لو أذن الله أن يلتقم السماوات السبع والأرض في لقمة واحدة لفعل، فيتفتت في أيديهم ويقول: ألا ترحموني؟ قالوا: كيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) [المعارج:12-16].
وتزداد الحسرات يوم يؤتى بالنار تُسحب، وقد أوقد عليها ثلاثة آلاف عام: ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا يطفأ شررها: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) [المرسلات:32] تشهق على الكافر شهقة البغلة الجوعاء إلى الشعير فلا يبقى ملك مقرب إلا خر على ركبتيه جاثياً، حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعامها زقوم وصديد، ومقامعها حديد.
إنها جهنم التي يكذب بها المجرمون، ما أشد عقابهم! وما أعظم عذابهم! (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت:55] (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر:16] (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر:71-72] (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء-56] إذا بلغ العذاب بهم مبلغه تمنوا الموت، وأسبابه موجودة، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم:17]، يأتيه من تحت شعره ومن تحت أظفاره ومن تحت كل مفصل من مفاصله، تعلق نفسه عند حنجرته لا تخرج فيستريح ولا تعود إلى مكانها، يمشي على النار، لا يهدأ ولا ينام ولا يستريح، طعامه من النار، وشرابه من النار، وحياته في النار: (لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى) [طه:74].
ثم يلجئون بعد ذلك إلى خزنة جهنم: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر:49-50] يتجهون بعدها إلى خازن النار إلى مالك، فيقولون: يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود. فيرد عليهم بعد أربعين عاماً -كما قال الأعمش- يرد عليهم بعد أربعين عاماً فيقول: إنكم ماكثون.
فيلجئون إلى أرحم الرحمين، سبحانه وبحمده لا إله إلا هو، فيقولون: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:106-108] فلا ينبس أحدهم ببنت شفة، لا يتكلم أحدهم بكلمة وإنما هو الشهيق والزفير، يبكون الدموع حتى تنتهي حتى لو أرسلت السفن في دموعهم ودمائهم لجرت، نسأل الله العافية والسلامة.
عباد الله: ومن حسرات أهل النار: أنه يضطر لوضع وجهه في النار ليخفف قليلا عن أحد أعضاء جسمه وهو يحترق، تصور، الوجه الحسن الذي كان يفعل فيه ويفعل، قال تعالى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ) [الزمر:24]، وقال تعالى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) [المؤمنون:104] الوجه الذي هو أشرف مكان في الجسد (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر:48] أين ذلك الوجه؟ أين زينتك على وجهك؟! أين طيبك الذي كنت تضعه على الوجه؟! أين الجمال؟! (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم:50].
انظروا إلى ذلك الموقف الذي تقشعر لهوله الأبدان، ذلك الوجه الذي طالما كان يجمله (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار) [الأحزاب:66] كالسمك على النار يشوى، كيف تقلبه على النار؟ هكذا تقلب وجوههم (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب:66-68] ولكن لا ينفعهم الكلام، فإن جهنم أحيطت بهم (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة:49] (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت:55].
وقال تعالى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ) [الأعراف:41] فراش من جهنم (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف:41] لحافٌ من النار، ووجوهٌ قد غطيت بالنار، وجهنم تحيط بهم، حتى إن النار لتصل إلى قلبه (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة:4-7] تطلع: تصل (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) [الهمزة:8] إنها: أي جهنم (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) [الهمزة:9].
أيها الإخوة: ويُلقى على أهل النار الجوع؛ زيادة في عذابهم، فيريد أحدهم أن يأكل في جهنم، لقد طال جوعه يقول بعض السلف: "إن الجوع في جهنم يصل عذابه إلى عذاب النار، حتى استغاث بالطعام" (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات:62-65] طلعها: ثمارها، أتظنونهم لا يأكلون منها؟ (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) [الصافات:66-67] ويأكلون طعاماً (ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً) [المزمل:13] يقول ابن عباس : (يأكلون الطعام من شوك يتعلق في حلوقهم لا هو يخرج منها ولا يدخل) (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية:6] نفيس الشبرق اليابس من شوك يأكلونه (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية:7] طعام يأكلونه (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة:35-36] يقول ابن عباس : (إنه صديد أهل النار) يأكلونه رغماً عن أنوفهم (وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ) [الحاقة:36-37].
أيها الإخوة: وعندما يأكل أحدهم هذا الطعام، الشوك والغسلين عندها يحس بأنه يحتاج إلى الماء فيستغيث بالماء: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف:29] يقرب ماء المهل إلى وجهه، فإذا أراد أن يشرب من شدة حره تسقط فروة رأسه، وينسلخ جلد وجهه إذا قرب وجهه المهل، لكنه يشربه، يقول تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15] يشرب الماء يريد أن يستغيث به من طعام الشوك؛ لكن الماء يسقط فروة رأسه، فيدخل به إلى أمعائه فتتقطع به الأمعاء، ثم يخرج من قدمه (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم:16] قال مجاهد: "هو القيح والدم وصديد أهل النار" (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم:17] يريد أن يشرب، لقد أصابه العطش، لقد أهلكه العطش (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً) [النبأ:24] ينقذهم الله -عز وجل- بشراب يشربه أهل النار (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) [النبأ:25] ماء قد انتهى حره، أتعلم ما هو الغساق -يا عبد الله-؟!! إنه السائل الذي يسيل من فروج الزواني (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً) [النبأ:24-26].
أيها الإخوة: وإذا أراد أحدهم أن يلبس ثياباً من النار (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج:19] ،(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ) [إبراهيم:49-50] يا من كنت تلبس الحرير! يا من كنت تسبل ملابسك في الدنيا وتجرها خيلاء! (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) [إبراهيم:50] السرابيل: الملابس، والقطران: النحاس المذاب يلبسونه وثياب من نار، نسأل الله العافية.
اللهم جنبنا النار وحرها وغصصها، وكل ما قرب إليها من قول أو عمل، إنك على كل شيء قدير، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
عباد الله: ومما يصيب أهل النار بالحسرة رؤية مقاعدهم التي خسروها في الجنة لو عملوا أعمالا صالحة، قال الله تعالى: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة: 167]، وما أشد الحسرات!! وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَدْخُلُ أحَدٌ الْـجَنَّةَ إِلا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْراً، وَلا يَدْخُلُ النَّارَ أحَدٌ إِلا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْـجَنَّةِ لَوْ أحْسَنَ، لِيَكُونَ عَلَيْـهِ حَسْرَةً" [أخرجه البخاري: 6569].
ومما يزيد من حسرة أهل النار معرفتهم بأنهم غفلوا عن يسير العمل الصالح الذي كان فيه نجاتهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْوَنِ أهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِـهِ؟ قال: نَعَمْ، قال: فَقَدْ سَألْتُكَ مَا هُوَ أهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي، فَأبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ" [أخرجه البخاري: 3334، ومسلم: 2805].
عباد الله: اعتاد الفضلاء في الدنيا أنه إذا ضاق المكان أو قل المال في سفر أو غيره، أو نزلت بهم مصيبة، أنه يخفف بعضهم عن بعض ويساعد بعضهم بعضًا، إذ إن محبة الناس بعضهم لبعضهم وإيثارهم تخفف كثيرًا من آلامهم، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فإن مما يصيب أهل النار بالحسرات أنهم غير متحابين بل هم متلاعنون يكره بعضهم بعضًا، فيدخلونها (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) [الأعراف:38].
يدخلون النار فينظرون إلى الذين أضلوهم في الدنيا؛ ينظرون إلى رؤسائهم، وإلى قاداتهم، وإلى أخلائهم، ينظرون إليهم قد سبقوهم في جهنم (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف:38] يدخلونها، بعد أن يحاسب الكافر فيدخل جهنم يقول له صاحبه أول ما يدخل جهنم: (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) [ص:59] فيرد عليهم أصحابه في الدنيا (لا مَرْحَباً بِهِمْ) [ص:59] أول تحية (لا مَرْحَباً بِهِمْ) [ص:59] فيتلاعنون، ويسب بعضهم بعضاً، ويشتم بعضهم بعضاً، فأول ما يتقي بوجهه النار، أما يداه فمغلولتان، قد شدتا بالسلاسل، فيريد أن يتقي النار فلا يتقي النار إلا بوجهه، أكرم شيء عنده في الدنيا، لطالما كان يجمل وجهه، ولطالما كان يحسن وجهه، ولطالما كان يتقي الحر عن وجهه.
حتى إذا قضى الله الأمر، وفصل بين العباد، ودخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، خطب إبليس في أهل النار، وتبرأ منهم؛ ليزيد من كربهم وندامتهم وحسرتهم، كما قال -سبحانه-: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22]، فيا لحسرة عندما يتبرأ منك من أغواك ويدعك فريسة لعذاب لا ينجو هو منه، اللهم سلم سلِّم.
أيها الإخوة: ومما يزيد من الحسرات يوم القيامة، أن جهنم تطلب مزيدًا من الخلق، قال الله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَـى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلا يَزَالُ فِي الْـجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ لَـهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَـهُـمْ فَضْلَ الْـجَنَّةِ" [أخرجه البخاري: 4848، ومسلم: 2848]، نسأل الله السلامة والعافية.
عباد الله: اتقوا الذنوب والعصيان، واحذروا ما حرّم عليكم من الشهوات والآمال، واعلموا أن غمسة واحدة في النار -دقيقة فقط- تُنسي العبد كل لذات الدنيا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار" تظن أن أهل النار ما كانوا منعمين، والله كانوا منعمين، كانوا في الفلل البهية والقصور الرضية، والمطاعم الشهية، والملابس الثرية، في كل ما يريدون لكنهم فجروا وفسقوا فما وجودوا السعادة، فيأتي الله بذاك المجرم "فيغمسه غمسة في النار ثم يخرجه"، فيقول: "هل رأيت نعيماً قط، هل مر بك نعيم قط؟ قال: لا -والله- يا رب ما مر بي نعيم قط"، وفي المقابل: "ويؤتى بأهل البؤس في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة" هذا الفقير المطرود بالأبواب الذي لا يزوج إذا خطب، ولا يشفع ولا يقبل ولا يعطى ولا يقدم ولا يصدر، فيغمسه الله في الجنة غمسة "فيقول: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا -والله- يا رب! ما مر بي بؤس قط" [أخرجه مسلم: 2807]، وهذا من أهل الجنة.
أيها الإخوة عودوا إلى ربكم، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واستقيموا على شرعه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، اللهم نجنا من النار ومن حرها، وجنبنا سوء أحوال أهلها، واجعلنا من الناجين يوم القيامة.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.