المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - الأديان والفرق |
وليس على الأديان أضرَّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم، ولهذا جلا الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم وبين أحوالهم وكرر ذكرهم، لشدة المؤنة على الأُمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين ظهورهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى.. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار، من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأْيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعلنا من عباده المؤمنين ومنَّ علينا أن جعلنا مسلمين، وحفظنا من كفر الكافرين، ونسأل الله أن يعصمنا من النفاق والمنافقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله قسم في أول كتابه المبين الناس إلى مؤمنين وكفار ومنافقين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أبرز وأظهر صفات المنافقين.
أما بعد: فاتقوا الله، فاتقوا رب العالمين، وأطيعوا رسوله الأمين تكونوا له مرافقين ولحوضه واردين.
أيها المسلمون: الله -سبحانه وبحمده- قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام في الكتاب في أول البقرة وآخر الأحزاب؛ مؤمنين وكفار ومنافقين، ولعظم النفاق وشره وشر أهله وضره؛ كشف الله ستره، ولهذا سمى الله سورة باسمهم سورة المنافقون، وفضحهم في البقرة والتوبة.
هذا ولابن القيم كلام سديد ووصف جامع حميد فأترككم معه بنصه ولفظه لمتانته وجمعيته ووصفه ودقته؛ كيف لا وهو من إمام عالم وكبير فاهم، فارعوني القلوب والأسماع بارك الله لي ولكم في هذا الاجتماع.
قال -رحمه الله-: "وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء:145].
فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار؛ لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون: 4]، ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا [حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم بل هذا] من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف.
وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم [لهم] ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها؛ فإن ضرر هؤلاءِ المخالطين لهم المعاشرين لهم- وهم في الباطن على خلاف دينهم- أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم؛ لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْوهُمْ) [المنافقون: 4]، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدواً من الكفار المجاهرين.
والمقصود أن هذه الطبقة أشقى الأشقياءِ، ولهذا يستهزأُ بهم في الآخرة، وتعطى نوراً يتوسطون به على الصراط ثم يطفئ الله نورهم ويقال لهم: (ارْجَعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً) [الحديد: 13].
ويُضرَب بينهم وبين المؤمنين: (بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قَبْلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِي حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغرَّكُمْ بِاللهِ الغرُورِ) [الحديد: 13]، وهذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح، حتى إذا ظن أنه ناج ورأى منازل السعداءِ اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة، ونعوذ بالله من غضبه وعقابه.
وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداءِ عنهم، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين.
ولهذا قال تعالى [في المنافقين]: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَفْقَهُونَ) [المنافقين: 3]، وقال تعالى فيهم: (صُم بُكْمُّ عُمِى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة: 18]، وقال تعالى في الكفار: (صُم بُكْم عُمْى فَهُمْ لا يرْجَعُونَ) [البقرة: 171]، فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم عمى وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفراً وأخبث قلباً وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل من النار.
وفيه معنى آخر أيضاً وهو أن الحامل لهم على النفاق طلب العز والجاه بين الطائفتين فيرضوا المؤمنين ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضاً.
ومن [هاهنا] دخل عليهم البلاءُ، فإنهم أرادوا العزة من الطائفتين، فمما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاءِ بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم على الكفر والشرك وعداوة الله ورسوله أمر اختصوا به عن الكفار فتغلظ كفرهم به، فاستحقوا الدرك الأسفل من النار ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق في أول سورة [البقرة: 2-20]، فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، وكافر ظاهراً وباطناً، ومؤمن في الظاهر كافر في الباطن وهم المنافقون.
وذكر في حق المؤمنين ثلاث آيات، وفى حق الكفار آيتين، فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية؛ ذمهم فيها غاية الذم، وكشف عوراتهم وقبّحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاءُ المفسدون في الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، فلم يدع ذمّاً ولا عيباً إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم، وبغضه إياهم، وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه. فظهرت حكمته الباهرة في تخصص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار. نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته.
ومن تأمل ما وصف الله به المنافقين في القرآن من صفات الذم؛ علم أنهم أحق بالدرك الأسفل من النار، فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده، ووصف قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراءِ الضلالة بالهدى والصم والبكم والعمى، والحيرة والكسل عند عبادته، والرياء وقلة ذكره، والتردد- والتذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذباً وباطلاً وبالكذب وبغاية الجبن، وبعدم الفقه في الدين وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله واليوم الآخر وبالرب.
وبأنهم مضرة على المؤمنين ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال والإسراع بينهم بالشر وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر الله، ومحو الحق، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة الله وسبيله، وبعيب المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم فيلزمون المتصدقين ويعيبون مزهدهم، ويرمون بالرياءِ وإرادة الثناء في الناس.
وأنهم عبيد الدنيا إن أُعطوا منها رضوا وإن مُنعوا سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينسبونه إلى ما برّأه الله منه ويعيبونه بما هو من كماله وفضله وأنهم يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ رب العالمين وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويكرهون الجهاد في سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله عليهم بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله.
وأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جُنّة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأْن المنافق أحلف الناس بالله كاذباً قد اتخذ يمينه جنة ووقاية يتقى بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس- والرجس من كل جنس أخبثه وأقذره- فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم وبأنهم فاسقون.
وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم في كل زمان، وارتابوا في الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأماني الباطلة وغرهم الشيطان.
وأنهم أحسن الناس أجساماً تعجب الرائي أجسامهم، والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسندة، لا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراءَ ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مغن عنها وعن الطاعات جملة -كحال كثير من الزنادقة- وإما احتقاراً وازدراءً بمن يدعوهم إلى ذلك.
ووصفهم سبحانه بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله وبأنهم مجرمون وبأنهم يأْمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، ونسيان ذكره، وبأنهم يتولون الكفار ويدعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلاً.
وأنهم حزب الشيطان وأنهم يوادون من حاد الله ورسوله وبأنهم يتمنون ما يعنت المؤمنين ويشق عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم.
ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأْخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ.
ومن صفاتهم ما وصفهم الله بها: الشح على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بأَلسنة حداد، فهم أحد الناس أَلسنة عليهم.
وإنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتهم، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم وظهرت المخبآت وبدت الأسرار.
ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة، وأمرهم قلوباً وأعظم الناس مخالفة بين أعمالهم وأقوالهم.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين..
ثم قال رحمه الله.. "ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن سمت وفقه في دين أبداً، ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم.
ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم في شيء فإنهم قد أعدوا لكل أَمر مخرجاً منه، بحق أو بباطل بصدق أو بكذب، ولهذا سمي منافقاً.
ومن صفاتهم كثرة التلون، وسرعة التقلب، وعدم الثبات على حال واحد: بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً وتنقلاً، جيفة بالليل قطرب بالنهار.
ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَد أمرُوا أَن يَكْفُروا بهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافقِين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْف إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُم فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء: 60-63].
ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاءَ فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى في آراءِ الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى.
ومن صفاتهم: كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم: فيرمونهم- إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله- بأنهم أهل فتن مفسدون في الأرض.
وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون في الأرض، وإذا دعا ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير [مثوبة] رموهم بالبدع والضلال، وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم، بالتلبيس والمحال.
وإذا رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول في قالبة شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم.
وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم، وليس على الأديان أضرَّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم، ولهذا جلا الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم وبين أحوالهم وكرر ذكرهم، لشدة المؤنة على الأُمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين ظهورهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى: وعدوهم ومنوهم، ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور.
فكم لهم من قتيل، ولكن في سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسير لا يرجى له الخلاص وفارّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار، من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأْيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان، وقطعت له مقطعات من البلاءِ والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالاً، ويمشى على عقبيه القهقرى إدباراً منه وهو يحسب ذلك إقبالاً فهم والله قطاع الطريق.
فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء، حذار منهم حذار، هم الجزارون ألسنتهم شفار البلايا. ففراراً منهم أيها الغنم فراراً.
ومن البلية أنهم الأعداءُ حقاً وليس لنا بد من مصاحبتهم، وخلطتهم أعظم الداءِ وليس بد من مخالطتهم قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعداً للمستجيبين، ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترين.
نصبوا الشباك ومدوا الأشراك وأذن مؤذنهم: يا شياه الأنعام حي على الهلاك، حي على التباب. فاستبقوا يهرعون إليهم، فأوردوهم حياض العذاب، لا الموارد العذاب.
وساموهم من الخسف والبلاءِ أعظم خطة، وقالوا: ادخلوا باب الهوان صاغرين ولا تقولوا حطة، فليس بيوم حطة.
فواعجباً لمن نجا من شراكهم لا من علق، وأنى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خلق، فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلو بالمحل الذي أحلهم الله من دار الهوان وأن ينزلوا في أردئ منازل أهل العناد والكفران.
وبحسب إيمان العبد ومعرفته بكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأُمة وسابقوها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "يا حذيفة، نشدتك الله، هل سماني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أُزكى بعدك أحداً".
يعنى لا أفتح على هذا الباب في تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يبرأْ من النفاق غيرك.
وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله؟ -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل".
انتهى بنصه ولفظه.
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.