العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | ناصر بن يحيى الحنيني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
وكان -صلى الله عليه وسلم- يحسر عن ثوبه حتى يصيبه المطر, فلما سأل لم صنع هذا قال: "لأنه حديث عهد بربه" أي أن المطر رحمة وبركة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فأحب أن تمس جسده يتبرك بهذا الماء المبارك من عند ربه. ويستحب كذلك أن يحمد الله -عز وجل- ويقول: "مطرنا بفضل الله ورحمته", ويعترف بالنعمة لصاحبها وموليها وهو الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذو النعم العزيز الغفار، مرسل الرياح مبشرات بالخير والرزق والأمطار، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة من النار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المجتبى المختار, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء الأتقياء الأبرار, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الفصل بين المتقين والفجار.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بالعروة الوثقى واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وإن من التقوى تفكر العبد في إنعام الله عليه وتقصيره في أداء هذه النعم، فاللهم لك الحمد حتى ترضى, ولك الحمد إذا رضيت, ولك الحمد بعد الرضى.
عباد الله: إن من أعظم النعم على الخلق في هذه الدنيا نعمة الماء، والماء إما أن يكون نبعاً في الأرض أو مطراً من السماء أو معالجة لماء البحار، وحديثنا اليوم عن نعمة الأمطار على الخلق التي لها من الفوائد والعوائد على البشر والبهائم والنباتات مالا يحصيه إلا الله -سبحانه وتعالى-.
والله قد ذكر بعض هذه الفوائد منها: أن الماء سبب في حياة المخلوقات بل كل المخلوقات لا تستغني عن الماء سواء البشر أو الحيوان أو النبات, كما قال -جل وعلا-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30], وكذلك يحيى الله به الأرض الموات المجدبة التي انقطعت الحياة من على ظهرها, كما قال -جل وعلا-: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة: 164].
وكذلك فإن المطر ينبت الله بسببه الزروع والثمار التي يقتات عليها الإنسان والحيوان, كما قال - جل وعلا -: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) [البقرة: 22], وقال -سبحانه-: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى) [طه: 53], وهذا الماء الذي ينزل من السماء ماء مباركا, والبركة كثرة الخير في الشيء المبارك’ كما قال - جل وعلا -: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق: 9].
ومن فوائد المطر تطهير الأرض والأبدان لأنه ماء طهور طاهر في نفسه مطهر لغيره, كما قال -جل وعلا-: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان: 48], وقال -سبحانه- مبينا حكمة إنزال المطر: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال: 11], فالحمد لله على ما أنعم وأكرم -سبحانه- لا نحصي ثناء عليه.
أيها المؤمنون: ونحن نعيش موسماً من الله فيه على العباد بكثرة الخير والأمطار، وقد ورد في السنة بعض الأحكام والسنن والآداب عند نزول الأمطار ويمكن, أن نجملها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: حاله -صلى الله عليه وسلم- عند رؤية الغيم قبل المطر: جاء في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير مافيها وخير ما أرسلت به، وأعوذبك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به"، قالت: وإذا تخيلت السماء -يعني تهيأت للمطر- تغير لونه وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته، فقال: "لعله ياعائشة كما قال قوم عاد: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف: 24]".
المسألة الثانية: ما ذا يقول من سمع صوت الرعد ورأى لمع البرق: وجاء في الموطأ وغيره بسند صحيح كما قال الإمام النووي عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: أن كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: (سبحان الذي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).
المسألة الثالثة: ماذا يقول عند نزول المطر؟ جاء في صحيح البخاري أن -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى مطراً قال: "اللهم صيباً نافعاً" أي مطراً نافعاً؛ لأن من المطر ما هو ضار فقد عذب به أقوام, وإذا كثر وزاد عن حاجة الناس تضرر الناس منه, ومنه ما هو نافع وهو الذي طلبه النبي -صلى الله عليه وسلم- من ربه وسنه لأمته، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحسر عن ثوبه حتى يصيبه المطر, فلما سأل لم صنع هذا قال: "لأنه حديث عهد بربه" أي أن المطر رحمة وبركة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فأحب أن تمس جسده يتبرك بهذا الماء المبارك من عند ربه.
ويستحب كذلك أن يحمد الله -عز وجل- ويقول: "مطرنا بفضل الله ورحمته", ويعترف بالنعمة لصاحبها وموليها وهو الله -سبحانه-، وكره بعض العلماء أن ينسب المسلم نزول المطر للنجم الفلاني أو نحوه؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن النجوم تؤثر بذاتها وأنها هي النافعة الضارة, وقد جاء في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس "فقال هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". قال الإمام النووي في كتابه الأذكار عقب هذا الحديث: "قال العلماء: إن قال المسلم مطرنا بنوء كذا، مريداً أن النوء هو الموجد والفاعل المحدث للمطر صار كافراً مرتداً بلا شك، وإن قاله مريداً أنه علامة لنزول المطر عند هذه العلامة ونزوله بفعل الله تعالى وخلقه -سبحانه- لم يكفر واختلفوا في كراهته والمختار أنه مكروه" أ. هـ.
المسألة الرابعة: ومما يسن فعله عند نزول الأمطار الجمع بين الصلاتين الظهر والعصر والمغرب والعشاء, خاصة إذا تبللت الثياب وحصل معها المشقة والحرج, فقد جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر". ولما سئل لماذا صنع هذا قال: "أراد أن لا يحرج أمته". ومن هذا الحديث يستنبط عدة فوائد:
الفائدة الأولى: أنه يشرع عند نزول المطر الذي يبل الثياب وتحصل به المشقة والحرج؛ أن يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
الفائدة الثانية: ألحق العلماء بالمطر كل ما كان فيه مشقة مثل الريح الشديدة والبرد الشديد مع الريح، ووجود الوحل والطين وإن لم ينزل المطر, والسيول التي قد يتضرر الإنسان أثناء ذهابه وإيابه للمسجد, وهذا من رحمة الله بالأمة.
الفائدة الثالثة: يلحق به من كان له عذر من مرض ونحوه, ومن كان خائفاً من عدو ونحوه أن يجمع بين الصلوات ولاحرج عليه.
الفائدة الرابعة: لا يشرع للمرأة الجمع بين الصلاتين في حال المطر؛ لأن حضور الجماعة لا يلزمها، لكن يشرع لها الجمع لأعذار أخرى كالسفر والمرض والاستحاضة ونحوها من الأعذار.
الفائدة الخامسة: أنه يجوز أن يكون الجمع للمطر والأعذار الأخرى جمع تقديم أو تأخير, ويفعل كل أهل جماعة مسجد بالأرفق بهم, فإن أرادوا أن يجمعوا العشاء ويقدموها مع المغرب فلا حرج, وإن أرادوا تأخير المغرب إلى وقت العشاء فلا حرج، فإنه متى جاز الجمع صار وقت كل صلاة وقتاً للأخرى.
الفائدة السادسة: أنه يجوز له الجمع بين الصلاتين عند نزول المطر أو أي عذر ولو لم ينو ذلك في الصلاة الأولى, مثاله: لو صلى إمام المغرب ثم نزل المطر بعد سلامه من الصلاة جاز له أن يقيم ويصلي العشاء, ولو لم ينو الجمع قبل صلاة المغرب على الصحيح من أقوال أهل العلم.
المسألة الخامسة: ووقت نزول الأمطار من أوقات استجابة الدعاء: فيستحب للإنسان أن يكثر فيها من الدعاء, فقد جاء في حديث حسن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر" [انظر السلسلة الصحيحة برقم (1469)].
المسألة السادسة: من الأعذار المبيحة لعدم حضور صلاة الجماعة في المسجد الريح الشديدة والمطر الشديد والبرد الشديد: فقد جاء في البخاري من حديث مالك عن نافع قال: أن ابن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: "ألا صلوا في الرحال".
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون ومن المسائل المتعلقة بنزول الأمطار:
المسألة السابعة: وهي مشروعية الاستصحاء وهو هو طلب تخفيف الغيوم المتراكمة عند كثرة نزول الأمطار وتضرر الناس منها, فقد جاء في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: دخل رجل المسجد يوم الجمعة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا" قال أنس: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار, فطلعت من ورائه سحابة مثل التِّرس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت, فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً -يعني أسبوعا كاملا-, ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا, فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر" فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس".
اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام و الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا هدم ولا غرق, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.