البحث

عبارات مقترحة:

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

ظلم النفس

العربية

المؤلف عبد الله بن عبد العزيز المبرد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المهلكات - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. الظلم طبيعة بشرية .
  2. ذم الظلم والتحذير منه .
  3. المقصود بالظلم .
  4. بعض صور ظلم الإنسان لنفسه .
  5. التحذير من عاقبة الظلم .

اقتباس

الظلم هو مجاوزة الحد، وغمط الحق، وإذا كان الظلم كريهاً ثقيلاً موجعاً، فإن أبشع صوره، وأفحش ضروبه: ما كان لأهل الحقوق الآدميين الأقربين، وما كان موجهاً ضد من أمرت بحفظه وصيانته، وإن أول من رحمت هي نفسك التي بين جنبيك، فهي...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدي اللهُ فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم، وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله: اتقوا الله فهي وصية الله إليكم، وهي خير لباسٍ في الدنيا، وخير زادٍ إلى الآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن الظلم طبيعة بشرية تنزع إليها النفس، وتنحدر إليها الطبائع، فهي جبلة متجذرة في نفس الإنسان: (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72].

فالإنسان ظلوم جهول إلا من زكاه الله بالإيمان والتقوى، والعلم والهدى، والعدل والإنصاف.

والظلم -أيها المؤمنون- خلق ذميم، وذنب جسيم، وأذى عظيم، فهو يحلق الدين، ويأكل الحسنات، ويحيل حياة الناس إلى جحيم وويلات.

وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ

ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ

قال الماوردي: "وهذه العلة المانعة من الظلم لا تخلو من أحد أربعة أشياء: إما عقل زاجر، أو دين حاجز، أو سلطان رادع، أو عجز صاد، فإذا تأملتها لم تجد خامساً يقترن بها.

والظلم هو مجاوزة الحد، وغمط الحق، وإذا كان الظلم كريهاً ثقيلاً موجعاً، فإن أبشع صوره، وأفحش ضروبه: ما كان لأهل الحقوق الآدميين الأقربين، وما كان موجهاً ضد من أمرت بحفظه وصيانته، وإن أول من رحمت هي نفسك التي بين جنبيك، فهي الأحق بعدلك وشفقتك، وهي الأجدر بإنصافك وإحسانك، فظلمها جرم عظيم، وذنب وخيم، فالنفس هي وديعة الله إليك، وأمانته لديك، أمرك تنصفها، وتعدل معها، وترحمها وتقيها ويلات الدنيا والآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].

فنفسك مقدمة على أبنائك وبناتك، وأمك وأبيك، قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) [نوح 28].

فأقسى الناس قلباً من قسى على نفسه، وأعظمهم كيداً من هضم حق نفسه.

وإن أخطر صور ظلم النفس، هو: الشرك بالله، فمن أشرك بالله فقد أسرف في ظلم نفسه، فإنه ظلم لا يغفره الله، ولا يتجاوز عنه، قال عز وجل حكاية عن لقمان وهو يحوط ولده بأصدق النصح، وأحسن التوجيهات: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].

سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك".

قال عز وجل: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72].

فمن تلبس بالشرك فقد أورد نفسه مورداً للهلاك لا صدر له، وأوصد أمامه أبواب الرحمة من وقع في الشرك، فقد قطع على نفسها كل طرق المغفرة، فليس من شأن الله أن يهدي نفساً أشركت إلا طريق جهنم وساءت مصيراً.

والشرك -أيها المصلون- ليس هو الصورة الساذجة التي يتخيلها الناس بالسجود للأصنام والأحجار والأشجار، ليس هو هذه الصورة فحسب، بل إن المرء قد ينزلق إلى الشرك إن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، كالخوف، أو الرجاء، أو الذبح، أو الدعاء ... الشرك هو رفض شريعة الله في أي جانب من جوانب الحياة، والاعتراف لغيرها بالأحقية والاتباع، كل ذلك شرك.

فمن كان راحماً نفسه فليلزمها التوحيد بكل مقتضياته وشروطه من الخضوع لله وحده، والتسليم لشرعه، والرضى بحكمه، والتسليم لأمره: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 116].

فليس أظلم ممن حرم نفسه نعيم الإيمان، فهو حقها الأول والأعظم.

وإن من ألوان ظلم النفس: الهبوط بها إلى مستنقعات الذنوب والفواحش، وتلطيخها بقذر الرذائل والخطايا، فكيف تهون على المرء نفسه فيلقيها في مواطن سخط الله؟! كيف تهون عليه فيتركها ترعى محارم الله فتتعرض لغضبه وعقوبته؟! كيف يترك شعلة الإيمان تنطفئ في قلبه؟ كيف تطيب نفسه أن يدع قلبه ألعوبة بين الشيطان يقلبه في المعاصي كيف يشاء؟! قال عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) [آل عمران: 135].

فهم قد ظلموا أنفسهم عندما زجوا بها في مواطن الفتن، وأسواق الغواية، ظلموها إذ لم يقوها من أسباب الذنب، ودواعي المعصية، فجرعوها مرارة الهبوط والانحدار، يقول عز وجل: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 229].

وقال سبحانه: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1].

قال ميمون بن مهران: "إن الرجل يقرأ القرآن ويلعن نفسه، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟ قال يقرأ: (أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18)].

فالمرء حينما يخلو بمحارم الله ثم ينتهكها، وهو فرح بها، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يؤذي غيرها، ولا يقسو على سواها: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].

فالله لا يظلم عباده، وإنما هم الذين يظلمون أنفسهم: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة: 57].

لو كان غيرك ظلمك، واعتدى عليك، وحرمك طاعة ربك، لصحت مستجيراً من ظلمه، مستنجداً من بغية، فما بالك تظلم نفسك وتبغي عليها؟! فالله -عز وجل- عزيز قوي غني لا تضره معصية، ولا تنفعه طاعة، وإنما ذلك لنا أو علينا، فلقد جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه" [رواه مسلم].

فأولئك الساجدون الراكعون التالون لكتاب الله، الذاكرون له آناء الليل وأطراف النهار، إنما هم عقلاء نظروا شديد عذاب الله، وعظيم بطشه، نظروا إلى جهنم وظلماتها في كتاب ربهم، وسمعوا شهيقها وزفيرها، وأقلقتهم صيحات المذنبين، وعويل الغافلين، فرحموا أنفسهم من سوء المنقلب، ومغبة العقاب فسعوا في فكاك رقابهم.

أولئك المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وساروا بأموالهم وأنفسهم إلى ساحات الجهاد، وألقوا بمهجهم بين يدي ربهم يسألونه رضاه، ويطعمون في جنته، إنما رحموا أنفسهم من النيران، وأشفقوا عليها أن تحرم الجنان: (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6].

والذين ينفقون أموالهم في السراء والضراء، والذين يؤتوا ما آتوا وقلوبهم وجلة، والذين يكثرون الصدقات، إنما يجودون على أنفسهم ويرحمونها: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الانسان: 9- 10].

فخوفهم على أنفسهم ورحمتهم بها هو الذي شغف قلوبهم بالإحسان، فمدوا بالخير أيديهم، علموا أن كلاً يأتي في ظل صدقته يوم القيامة، فأولئك هم الراحمون.

والذين يعفون عن ظلم الناس، ويكفون عن أعراضهم، إنما يرحمون أنفسهم من عسير الحساب، وسوء المآب، إنهم يخافون على حسناتهم أن تذهب لغيرهم، بما ظلموهم أو اغتابوهم.

أما المتهاونون في المعاصي، فإنما يوبقون أنفسهم، والباخلون بأنفسهم على الجهاد إنما يبخلون عليها بالجنة، والأشحة الممسكون عن الإحسان والصدقة والبر إنما يبخلون على أنفسهم بمضاعفة الأجر، وبركة المال، ويبخلون بظل عرش الرحمن الذي وعده المحسنين.

وإن من الجور على النفس: أن تترك أيامها تضيع عليها سدى، فيذهب عمرها هدراً.

الخطبة الثانية:

واعلموا: أن من صور ظلم النفس: حرمناها أسباب الهداية، وتفويتها فرص العلم النافع، والوعظ الصادق، وتركها غافلة سادرة، فلا تفيق إلا على نزع الموت: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 99 - 103].

أولئك الذين أوبقوا أنفسهم وأهلكوها، فما ضروا سواها، وما آذوا غيرها، فالزاهدون في النظر في كتاب الله وسنة نبيه، والمعرضون عن المذكرين بالله، وجنته وناره، الصادين عن العلم النافع وأنديته يظلمون أنفسهم؛ لأنهم يحرمونها من أسباب الحياة، ويوصدون أمامها أبواب النجاة، فالنفس إن لم تسمع واعظ الخير تصبح نهباً لوساوس الشيطان، طريحة لإغراءات الدنيا وزخارفها، فلا علم يدلها على الخير، ولا واعظ يحذرها الشر، فهي نفس مظلومة محرومة ضعيفة هابطة... ثم إن الله -عز وجل- يدعو عباده الذين تورطوا في ظلم أنفسهم، بل وبالغوا في ذلك أن ينزعوا عن ظلمها، وأن يكفوا عن إيذائها: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].

ثم يسمعهم الله صيحات الأنفس المظلومة، وعويل المهج المحرومة، علهم يشفقون على أنفسهم: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 55 - 58].

ثم يأتي الرد: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الزمر: 59].

أجل قد كانت بين يديك آيات بينات، لقد كانت أبواب الهداية والاستقامة أمامك مفتوحة، ولكنك أعرضت عنها، فلا يغني عنك صاحبك اليوم شيئاً إذ ظلمت نفسك وأهلكتها.