الشفاعة

عناصر الخطبة

  1. الشفاعة كرامة للشافع ونفع للمشفوع له
  2. أنواع الشفاعات
  3. موجبات الشفاعة
اقتباس

الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، فمن كان ولاؤه لغير الله ورسوله والمؤمنين فهو محروم، ومن كان من جند الباطل، يسعى في نصرة مذهب هدّام، فهو محروم، ومن اعتقد أن غير منهج الله هو الأصلح للحياة فهو محروم، ومن سخر أو جحد أو أنكر شيئًا من منهج الله فهو محروم، ومن رضي بكفرهم أو شك فيه أو امتنع عن تكفيرهم فهو محروم …

إن الحمد لله…

أما بعد:

أيها المسلمون: لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن ينـزل ويتجلى على عباده في الموقف يوم القيامة بالجلال والجبروت، ونعلم أن الناس يكونون في الموقف، وأن الشمس تدنو من الخلائق، وتكون منهم بمقدار ميل، فيغرقون في عرقهم كل بحسب عمله، حتى يتمنى بعض الناس الانصراف ولو إلى النار من شدة ما هم فيه، ولو علموا حقيقة النار لما تمنوا ذلك، فيرحم الله بعض خلقه المستحقين للرحمة بعدة رحمات، منها الشفاعة.

إذا كان يوم القيامة ذلت الرقاب كلها لله -عز وجل-، وخاب وخسر كل ظالم، وربح ونجا كل تقي عامل للصالحات، وفاز بشفاعة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

بالشفاعة يعرف المسلم قدر رحمة الله، ويعرف تفضله على أنبيائه عمومًا وعلى نبينا خصوصًا؛ لأن له المقام الأول، والحظ الأوفر من الشفاعة.

الشفاعة جعلها الله كرامة للشافع ورفعًا لدرجته، ونفعًا للمشفوع له، خصوصًا أهل المعاصي، ممن توقفت سعادتهم للحصول عليها.

الشفاعة من العقائد المسلّم بها عند أهل السنة، وقد خالف وأنكرها بعض أهل البدع ممن ينتمي إلى أهل القبلة.

وخلاصة الشفاعة: أنها طلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو غيره من الله تعالى في الدار الآخرة حصول منفعة لأحد من الخلق؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئًا". قال الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28]، وقال سبحانه: ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ [طه: 109]، وقال -جلّ وعلا-: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) [النجم: 26].

وأعظم الشفاعات يوم القيامة شفاعة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لفصل القضاء بين الناس، عندما يكون العباد في قلق شديد وكرب عظيم، لا يدرون كيف يهتدون إلى الخلاص مما هم فيه، فيُلهم الله تعالى بعض عباده طلب الشفاعة من الرسل إلى الله تعالى، لفصل القضاء، وإراحتهم مما هم فيه، فيأتون آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى -عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم-، حتى تنتهي بنبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ، الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام، ثم يأتون نُوحًا -عليه السلام-، ثم يأتون إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-، ثم يأتون مُوسَى -عليه السلام-، ثم يأتون عِيسَى -عليه السلام-، وكل نبي يحيلهم إلى غيره قائلاً: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري، حتى تنتهي إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ: أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه:ِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".

وهذه الشفاعة خاصة بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي المقام المحمود المراد بقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾ [الإسراء: 79].

أيها المسلمون: وهناك شفاعة في أهل الكبائر من هذه الأمة ممن يرتكبون الفواحش والمخالفات، فقد يرحم الله بعضهم بشفاعة، فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال بخطاياهم- فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أَذِن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر -أي جماعات- فبُثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة: أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". رواه مسلم.

وهناك شفاعة لطائفة من المؤمنين بدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب، وعددهم سبعون ألفًا، وهُمْ الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

وهناك شفاعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن سكن المدينة ومات بها، فالله -جل وتعالى- شرّف المدينة بخيرات عديدة، فهي مُهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعاصمة الإسلام الأولى، والإيمان يأرِز إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، ومن هذه الميزات شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهلها لمن مات بها صابرًا محتسبًا؛ ففي صحيح مسلم: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجَهدها إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة".

وأيضًا هناك شفاعة لرفع درجات أهل الجنة، فهؤلاء قد دخلوا الجنة، ومع ذلك تنالهم شفاعة، فترفع درجاتهم كرمًا من الله -جل جلاله-؛ فإن من عباد الله من يقدّمون أعمالاً يُدخِلهم المولى الجنة برحمته، وفوق هذا ينالهم كرم الله فوق ذلك، فتنالهم شفاعة ترفع منـزلتهم في الجنة؛ أخرج البخاري عن أبي موسى -رضي الله عنه- أنه قال: لما فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من حُنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقُتل دريد وهَزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرُمي أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه، فقلت: يا عم: من رماك؟! فأشار إلى أبي موسى، فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟! ألا تثبت؟! فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزا منه الماء، قال: يا ابن أخي: أقرئ النبي -صلى الله عليه وسلم- السلام، وقل له: استغفر لي، واستخلَفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرًا ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته على سرير مرمّل وعليه فراش، وقد أثّر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر"، ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس"، فقلت: ولي فاستغفر، فقال: "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً".

وعن أم سلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: "إن الروح إذا قُبض تبعه البصر"، فضج ناس من أهله، فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون"، ثم قال: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يارب العالمين، وافسح له في قبره ونوّر له فيه". رواه مسلم.

وهناك شفاعة خاصة لأبي طالب عمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تخفيف العذاب عنه، والكفار كما نعلم لا شفاعة لهم، والأصل في حقهم قول الله تعالى: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: 48]، لكن لما كان لأبي طالب مواقف عظيمة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومساندته له في دعوته، ومناصرته والذب عنه، وهي أعمال فاضلة، أُذن للرسول -صلى الله عليه وسلم- في الشفاعة في عمّه فقط، وهي شفاعة تخفيف لا شفاعة إخراج من النار؛ ففي البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر عنده عمُّه فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه". وعند مسلم من حديث ابن عباس: "أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو مُنتعل بنعلين يغلي منهما دماغه". فنسأل الله أن يرحمنا برحمته.

أيها المسلمون: وهل تنتهي الشفاعات عند هذا؟! الجواب: لا.

كرم المولى ورحمته بخلقه أعظم من هذا، فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشفع في أمته عدّةَ مرات، وفي كل مرة يرحم الله فيها طائفة من الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ: مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنْ الْخَيْرِ ذَرَّةً".

وهل تنتهي الشفاعات عند هذا؟! الجواب: لا.

وبعد هذه الشفاعات يقول الله -جل جلاله-: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض الله قبضة من النار، فيُخرج أقوامًا لم يعملوا خيرًا قط.

فنسأل الله –تعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن تنالنا في ذلك اليوم شفاعة تنجينا من عذاب الله.

نفعني الله وإياكم بهدي…

الخطبة الثانية:

الحمد لله…

أما بعد:

أيها المسلمون: إن الله تعالى يشفع في ذلك اليوم، ويشفع الأنبياء والرسل، وتشفع الملائكة.

وممن يشفع أيضًا الشهداء، الذين قد أراقوا دماءهم في سبيل الله، هؤلاء يُكرمون يوم القيامة بأن يسمح لهم بالشفاعة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "للشهيد سبع خصال، يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه". رواه الترمذي وغيره.

وممن يشفع أيضًا الولدان: كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا القسم". رواه البخاري.

وأيضًا سيشفع القرآن؛ فهؤلاء الذين أقبلوا على القرآن هنا في الدنيا، هذا القرآن سيشفع لهم عند الله تعالى، والجزاء من جنس العمل، فقد ثبت أن سورتي البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه".

ومما يوجب الشفاعة -بإذن الله-: طلب الوسيلة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، والإكثار من الصلاة عليه؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة". رواه مسلم.

ويوجب الشفاعة أيضًا قول لا إله إلا الله بإخلاص والموت عليها؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟! قال: "لقد ظننت -يا أبا هريرة- أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبل نفسه".

ويوجب الشفاعة أيضًا: الإكثار من السجود؛ فعن زياد بن أبي زياد مولى بني مخزوم، عن خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يقول للخادم: "ألك حاجة؟!"، حتى كان ذات يوم قال: يا رسول الله: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة، قال: "فأعني بكثرة السجود". رواه أحمد وسنده صحيح.

أيها المسلمون: الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، فمن كان ولاؤه لغير الله ورسوله والمؤمنين فهو محروم، ومن كان من جند الباطل، يسعى في نصرة مذهب هدّام، فهو محروم، ومن اعتقد أن غير منهج الله هو الأصلح للحياة فهو محروم، ومن سخر أو جحد أو أنكر شيئًا من منهج الله فهو محروم، ومن رضي بكفرهم أو شك فيه أو امتنع عن تكفيرهم فهو محروم، ومن قام بمدح دينهم فهو محروم، قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ [النحل: 106]، ومن تحاكم إليهم فهو محروم، كما في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60]، ومن ركن إليهم واعتمد عليهم وجعلهم سندًا وظهيرًا فهو محروم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ﴾ [هود: 113]، ومن أعانهم وناصرهم على المسلمين فهو محروم؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51]، ومن نقل قوانينهم وحكّمها في بلاد المسلمين فهو محروم؛ قال الله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: 50]. نسأل الله السلامة والعافية…

اللهم…