فضل الأيام العشرة من ذي الحجة وأحكام الأضحية

عناصر الخطبة

  1. فضل الأيام العشرة من ذي الحجة
  2. أسباب تعظيم هذه الأيام
  3. فضل الأضحية
  4. أحكام الأضحية
  5. حِكَم مشروعية الأضحية.
اقتباس

وكما جاء في الحديث الشريف ‏عن ‏عائشة -رضي الله عنها-‏ ‏أن النبي ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم- ‏ ‏قال: “‏ما عمل ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏يوم النحر ‏عمل أحب إلى الله -عز وجل- من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها ‏ ‏وأظلافها ‏ ‏وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله -عز وجل- بمكان قبل أن يصل إلى الأرض، فطِيبوا بها نفسا!”؛ وبذل الأموال في الأضاحي أفضل من بذلها في الصدقات، فتقربوا إلى الله بذبح الأضاحي، وبخيرها وأفضلها، وهي خير أعمال يوم النحر ..

الحمد لله الذي بيَّن الطريق وأوضح المحجة، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حُجة، وجعل لكل شهر خصوصية، وخص بوقوع الحج ذا الحِجة, وحط الأوزار والآثام عمَّن قصد البيت الحرام وحَجَّه, وعظَّم الأجر والثواب لمن اظهر فيه التكبير وعجه.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كساه الله من حلل النبوة مهابة وبهجة, اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ما حمل سحابٌ ماءً وَمَجَّه، يقول الحق -سبحانه وتعالى- في محكم كتابه: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ(5)﴾ [الفجر:1-5]، وقوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكَاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج:34].

اعلموا -عباد الله- أنكم في أيام فضَّل الله زمانها، وعظَّم الله شأنها، وأقسم الله بها في كتابه بقوله: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ(5)﴾، فمِن الواجب -عباد الله- تعظيم هذه الأيام وتمييزها عن غيرها بشتى أنواع العبادات ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32].

ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" – يعني أيام العشر -، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"، وفي رواية: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".

فهذا دليل على عظم هذه الأيام وفضل الأعمال الصالحة فيها، حتى إنها أفضل من الجهاد في سبيل الله، إلا حالة واحدة، رجل خرج ليجاهد في سبيل الله بنفسه وماله فاستشهد وسلب ماله ولم يرجع من ذلك بشيء.

عباد الله: والأعمال الصالحة اسم عام لكل ما يحبه الله ويرضاه من قول وفعل، وتشمل صيام هذه الأيام، أو ما تيسر منها، وبالأخص يوم عرفة، وتشمل نوافل العبادات من صلاة، وصدقة، وقراءة لكتاب الله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، واستغلال هذه الأيام بطاعة الله وذكره وشكره وحسن عبادته والقيام، بالواجبات، والابتعاد عن المنهيات.

ويعود سبب تعظيم هذه الأيام عباد الله لعدة أمور: منها أن فيها الأيام المباركة كيوم التروية، وهو يوم الثامن من ذي الحجة الذي يتروى فيه الحاج لوقوف يوم عرفة، فينتقل الحاج فيه من مكة الى منى.

ومنها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم الذي يطلع الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة فيتجلى لهم ويباهي بهم ملائكته، إنه يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة".

وإنه ليدنو -سبحانه- ثم يباهي بهم الملائكة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يباهِي بأهل عرفات أهلَ السماءِ، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي! جاءوني شُعثًا غُبرًا من كل فَجٍّ، أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم".

وصيام يوم عرفة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده"، فهذه الأيام هي الأيام الوحيدة التي جمعت أركان الإسلام، ففيها ذكر وشهادة وإحسان وتوحيد، وكثرة عبادة من صيام وصلاة وحج، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

نعم -عباد الله- انها أيام قليلة في عددها، ولكنها كثيرة بأعمال الخير والبر، فيتحصل الحاج فيها على أجر عظيم، كما أن غير الحاج لا يُحرم مِن الأجر فيشارك إخوانه الحجاج في أكثر شعائرهم، فهي أكثر أيام يعظّم الله فيها فيطلع الله على عباده بالرحمة والاستجابة لدعائهم فيوسع عليهم في دينهم ودنياهم، فهم أسعد الناس بطاعة الله في هذه الأيام المباركة.

ومنها أن فيها اليوم العاشر، وهو يوم العيد، أول أيام النحر، وهو اليوم الذي تُسَنُّ فيه الأضحية، فهي سنة مؤكدة، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(3)﴾ [سورة الكوثر]؛ ومنهم مَن قال بوجوبها في حق الغني القادر.

وهو أعظم أيام العشر كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر" رواه الحاكم وأبو داود، فمن الواجب أن نشكر الله على مشروعية الأضحية؛ لأننا نتقرب بها إلى الله -عز وجل-، ففيها إحياء لسنة أبينا إبراهيم -عليه السلام-، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن الأضاحي قال: "سُنَّة أبيكم إبراهيم عندما لبى أمر الله بذبح ابنه، ففداه الله بذِبْحٍ عظيم"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟! قال: "بكل شعرةٍ وبكل صوفةٍ حسَنة" رواه ابن ماجه والبيهقي.

فإذا كان إبراهيم -عليه السلام- ضحَّى بابنه في سبيل مرضاة الله؛ فمن باب أولى أن نضحي بأقل من ذلك وهو ذبح الأضاحي، فأحدنا يبخل على الله بأقل الأمور بأن يتقرب إليه بما أنعم عليه من نعمة الأنعام بشاة أو غيرها، فتجده ينفق على بيته كل عام مبلغا مرتفعا من المال، وعندما يأتي وقت الأضحية يصبح في حيرة من أمره: هل يضحي أم لا؟! ويتساءل: ما حكم الأضحية؟ يريد بذلك مخرجا كي لا يضحي، وهو مدخل الشيطان للصدقة، فكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدقة لَتخرج من بين فك سبعين شيطان".

لا يا عبد الله! أضف على ميزانية بيتك ثمن أضحية، فهو مبلغ زهيد لا يساوي مع عظم الأجر شيئا، ولن ينال الله منها إلا التقوى له سبحانه، وابتغِ فيما آتاك الدار الآخرة: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [الحج:37].

فتذكروا -عباد الله- هذا الموقف العظيم لأبينا إبراهيم عليه السلام في التسليم لله تعالى وابتغاء رضوانه، وتقربوا إلى الله بإسالة الدماء، وذبح الأضاحي، والأكل والتصدق منها، وقد قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج:36]، القانع: الفقير الذي لا يسأل، والمعتر: السائل؛ أطعموا، فهو ليس مجرد ذبح، بل ذكر وتوحيد وشكر وتمجيد وإقرار بنعمة الهداية، واقتداء بنبيينا إبراهيم ومحمد -عليهما السلام-.

وكما جاء في الحديث الشريف ‏عن ‏عائشة -رضي الله عنها-‏ ‏أن النبي ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم- ‏ ‏قال: "‏ما عمل ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏يوم النحر ‏عمل أحب إلى الله -عز وجل- من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها ‏ ‏وأظلافها ‏ ‏وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله -عز وجل- بمكان قبل أن يصل إلى الأرض، فطِيبوا بها نفسا!"؛ وبذل الأموال في الأضاحي أفضل من بذلها في الصدقات، فتقربوا إلى الله بذبح الأضاحي، وبخيرها وأفضلها، وهي خير أعمال يوم النحر.

فضحوا -عباد الله- عن أنفسكم وأهليكم ليتحصل لكم الأجر العظيم، اقتداء بهديه وسنته ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم- حيث ضحى عن نفسه وعن أهل بيته وعن أمّته، فالتشريك في الثواب لا حصر له، فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحى عن كل أمته.

وها هو الرجل في عهده -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، ولو كانوا مائة، فعن عَطَاء بْن يَسَارٍ قال: سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ: كَيْفَ كَانَتْ الضَّحَايَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ. صححه الألباني, قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي "زَادِ الْمَعَادِ": وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الشَّاةَ تُجْزِئُ عَنْ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَوك كَثُرَ عَدَدُهُمْ.

عباد الله فكثير من الناس يحرم نفسه وأهله من الأجر والثواب فلا يضحي إلا عن نفسه أو عن فلان وفلان، دون أن يجعل لنفسه ولأهل بيته فيها نصيباً من الأجر والثواب، والأولى أن يضحي عن الجميع، هذا ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث ضحى عن نفسه وعن أهل بيته وعن أمته، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ" يعني: السكين، ثُمَّ قَالَ "اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ"، فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ" ثُمَّ ضَحَّى بِهِ.

واعلموا -عباد الله- أن من شروط الأضحية أن تكون من الأنعام، أي من الإبل والبقر والغنم، وأن تبلغ السن المقررة شرعا: الإبل خمس سنوات وطعنت في السادسة، والبقر أن تكون مسنة، أي أتمت السنتين وطعنت في الثالثة، فتجزي عن سبعة أشخاص والذين يعولونهم من فروعهم وأصولهم وتجزئ، البدنة والبقرة عن سبعة، لما روى جابر -رضي الله عنه- قال: نحرنا بالحديبية مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة.

وفي لفظ: أمرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة في واحد منها، وفي لفظ: فتذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها. رواه مسلم, والماعز سَنة وتطعن في الثانية, والضأن ستة أشهر فما فوق.

ومن شروط الأضحية أن تكون خالية من العيوب: العرجاء البيِّن عرجها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والكبيرة التي لا تنقى، فإذا أصابت هذه العيوب الأضحية فإنها لا تجزي، فعن ‏البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله -‏صلى الله عليه وسلم- فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بين عورها، والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ‏ ‏ظلعها، ‏والكبيرة التي ‏‏لا ‏تنقى"، ‏قال: قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص، قال: "ما كرِهْتَ فدَعْهُ ولا تحرمه على أحد".

ومن شروط الأضحية أن تقع في الوقت المقرر شرعا من بعد صلاة العيد، وينتهي وقتها بغروب شمس ثالث أيام التشريق، فمَن ذبَح قبل صلاة العيد فقد خالف السنة، ولا تجوز أضحيته، ويجب عليه أن يعيد ذبح شاة مكانها بعد الصلاة، لما رواه الإمام مسلم عن جندب بن سفيان قال: شهدت الأضحى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته وسلم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال: "مَن كان ذبَح أضحيته قبل أن يصلي -أو نصلي- فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله".

إذا، فأيام الذبح أربعة: يوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة، وأفضلها يوم العيد، ويجوز ذبحها في الليل والنهار، والنهار أفضل.

عباد الله: إنَّ ما يطلب وما يستحب وما يجوز وما ينبغي من المضحي أن يفعله هو ما يلي: يطلب منه أن يمتنع عن قَصِّ شَعره أو حلقه أو تقليم أظافره، لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "إذا دخلَت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" رواه أحمد ومسلم، وهذا مبني على الكراهة، وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته، ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية.

والحكمة في هذا النهي أن المضحي لمــَّا شارك الحاج في بعض أعمال النسك، وهو التقرب إلى الله تعالى بذبح القربان، شاركه في بعض خصائص الإحرام من الإمساك عن الشعر ونحوه، وهذا حكم خاص بمَن يُضَحِّي.

وأما من يُضحَّى عنه فلا يتعلق به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "وأراد أحدكم أن يضحي"، ولم يقل: أو يُضحَّى عنه؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- كان يضحي عن أهل بيته، ولم يُنقَل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك؛ وعلى هذا فيجوز لأهل المضحي أن يأخذوا في أيام العشر من الشعر والظفر والبشرة.

ويُسَنُّ له أن يذبح أضحيته بنفسه إن أحسن الذبح اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يذبح أضحيته بنفسه، وأصحابه كذلك, وذلك لأنها قربة يتقرب بها العبد إلى الله فندب إلى مباشرتها، ومن كان لا يحسن الذبح فليحضر عند الذبح، فقد أمر رسول الله فاطمة -رضي الله عنها- أن تشهد ذبح أضحيتها.

وينبغي له أن يسمي ويصلي ويسلم على رسوله، ويستقبل القبلة بالذبيحة، ويدعو الله بما دعا به رسول الله.

ويجوز له الانتفاع بالأضحية، فالأضحية نوعان: الأضحية المنذورة، وأضحية التطوع؛ أما الأضحية المنذورة لله فلا يحل لصاحبها أن يأكل من لحمها ولا من شحمها أو أن ينتفع بشيء منها، ولا أن يبيعه، كالصوف والجلد أو الأطراف والرأس والشعر، وليس له أن يدفع شيئا منها أجرة للجزار، ولو أكل أو باع أو أعطى الجزار الأجرة أو انتفع منها بشيء فيضمن، وذلك بتقدير القيمة أو التصدق بمثله.

أما النوع الثاني، أضحية التطوع، فيجوز للمضحي أن يأكل منها، فهو سنة مستحَبَّة اقتداء به -صلى الله عليه وسلم-، ويدخر، ويتصدق على الفقراء، وله أن ينتفع بأي شيء منها، ولا يجوز له أن يبيع شيئا منها مطلقا، لا لحما ولا شحما ولا صوفا ولا وبرا ولا جلدا ولا رأسا، ولا أن يعطي الجزار منها شيئا أجرة على ذبحها أو سلخها؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- لعلي -رضي الله عنه-: "تصدق بجلالها وخطامها، ولا تعطي أجر الجزار منها شيئا".

والنهي عنه نهي عن البيع أيضا; لأنه في معنى البيع، ولو أكل أو باع أو أعطى الجزار الأجرة منها فيضمن، وذلك بتقدير القيمة والتصدق بمثلها.

ويستحب أن تقسم إلى ثلاث: ثلث للأكل والادخار, وثلث للصدقة, وثلث للهدية, فلك ما تصدقت فأبقيتَ، وما أكلت فأفنيت.

ويجوز للحي أن يضحي عن قريبه الميت، بهذا قال الحنابلة، وهو من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك لأنها صدقة، والصدقة عن الميت تجوز بالإجماع، وإذا حصل هذا في العبادات البدنية كالصوم والصلاة، والعبادات البدنية والمالية كالحج، فمن باب أولى أن يجوز في الأضحية عن الميت التي هي دون هذه في القرب منزلة وحكما في هذا الدين.

الخطبة الثانية:

عباد الله: ومِن حِكَمِ مشروعية الأضحيةِ التقربُ إلى الله تعالى بامتثال أوامره، ومنها إراقة الدم، ولهذا كان ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها -عند جميع العلماء- وكلما كانت الأضحية أغلى وأسمن وأتم كانت أفضل؛ ولهذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يسمِّنون الأضاحي، فقد أخرج البخاري -معلَّقاً- في صحيحه، قال يحيى بن سعيد: سمعت أبا أمامة بن سهل قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون.

ومن حكم مشروعيتها التربيةُ على العبودية، وإحياء سنة أبينا إبراهيم، حيث رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق وصدق، ولابد من تنفيذها، فتعلم الإنسان التضحية في سبيل الله بالنفس والمال والولد، (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الـمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات:102].

ومن حكم مشروعية الأضحية التوسعةُ على النفس والعيال عند الأكل منها، وإطعامُ الناسِ والفقراءِ بالصدقةِ عليهم، والتوسعةُ عليهم، وإغناؤهم عن المسالة، والذي لا يقوم دفع قيمتها مقام ذبحها في التوسعة على الناس.

ومن حكم مشروعيتها الشكر على نِعَمِ الله على الإنسان بالمال والأضحية, وإراقة الدم صورة ووسيلة من صور ووسائل الشكر لله تعالى على نعمه وآلائه، وذلك بإعلان التوحيد، وذكر اسم الله -عز وجل- عند ذبحها، لقوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج:34].

هذا، وصَلَّى اللهُ وسلَّمَ على محمد وعلى آله وصحبه.