سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (70) – عمرة القضاء

عناصر الخطبة

  1. عمرة القضاء أسماؤها وموعدها
  2. أحداث العمرة وملابساتها
  3. أهمية الإعلام في مواجهة الأعداء
  4. النظرة الاستراتيجية النبوية
  5. تأثير عمرة القضاء على الجزيرة العربية.
اقتباس

هكذا يؤكد النبي -صلى الله عليه وسلم- أهمية الإعلام في مواجهة الأعداء وشدة وقعه وأثره في النفوس، فأشد ما كان يؤثر فيهم الشعر الذي كان وسيلة الإعلام الأولى آن ذاك؛ “خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ”، أي: أن هذا…

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أفضل صلاة وأزكى تسليم.

أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فالسعيد من راقب الله وأحسن تعامله مع ربه، واتَّبع هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ المسلم العاقل يتحرى سلامة النهج والذي لن يكون إلا باتِّباع هدي القرآن والسنة، وما أحوجنا في واقعنا لتتبُّع سيرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والوقوف على دروسها، وعبرها.

وكنا قد بدأنا بسلسلة خطب السيرة النبوية وواقعنا المعاصر، والتي قسَّمناها لثلاثة مراحل ما قبل ولادته -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثته، ومن بعثته -صلوات الله وسلامه عليه- إلى هجرته، والمرحلة الثالثة من هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى وفاته، واليوم نكمل مسيرتنا مع سيرة خير البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-.

وكنا قد انتهينا بفضل الله من الحديث عن فتح خيبر وما بعدها من صلح فدك وغزوة وادي القرى، وها هي الخطبة السبعون اليوم عن عمرة القضاء وأحداثها، وما فيها من دروس وعبر، قال ابن إسحاق: “فلما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة من خيبر، أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجبًا وشعبان ورمضان وشوالاً، يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه -صلى الله عليه وسلم-، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صدَّه فيه المشركون؛ معتمرًا عمرة القضاء، مكان عمرته التي صدوه عنها“(سيرة ابن هشام 2/ 370).

وتسمى هذه العمرة بأسماء أخرى كما قال ابن حجر: “تحصَّل من أسمائها أربعة: عمرة القضاء، وعمرة القضية، وعمرة القصاص، وعمرة الصلح“(فتح الباري لابن حجر 7/ 500).

أما تسميتها: القضية والقضاء: فهو من المقاضاة بين المسلمين والمشركين؛ لنص الكتاب الذي كُتب بينهم بالحديبية، أو لكونها قضاءً عن عمرة الحديبية التي صُدّ فيها المسلمون عن البيت.

وسُميت بعمرة الصلح؛ لأنها كانت نتيجة صلح الحديبية بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ومشركي مكة، قال ابن هشام: “ويُقال لها عمرة القصاص؛ لأنهم صدُّوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ستّ، فاقتص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم، فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدّوه فيه من سنة سبع، وبلغنا عن ابن عباس أنه قال: فأنزل الله -عَزَّ وَجَل- في ذلك: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾[البقرة: 194]”(سيرة ابن هشام 2/ 370).

أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يخرجوا لأداء العمرة، وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا من استُشهد بخيبر، أو مَن مات بعدها قبل تلك العمرة؛ فقال رجال من حاضري المدينة من العرب: “يا رسول الله، والله ما لنا زادٌ، وما لنا أحد يطعمنا، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا، فقالوا: يا رسول الله، بِمَ نتصدق وأحدنا لا يجد شيئًا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “بِمَا كَانَ، وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِمِشْقَصٍ (نصل السهم) يَحْمِلُ بِهِ أَحَدُكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ“، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَل- فِي ذَلِكَ: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[البقرة: 195](مغازي الواقدي 2/ 732).

فخرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوم مِن المسلمين عُمَّارًا، فكانوا فِي عمرة القضية ألفان، واستخلف على المدينة أبا رُهْمٍ الغفاري -رضي الله عنه-، وساق النبي -صلى الله عليه وسلم- ستين بدنة، وجعل على هديه ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- معه السلاح والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحُلَيفة -قرية بينها وبين المدينة سنة أميال- قدَّم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-.

وقدَّم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد -رضي الله عنه-، وأحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب المسجد، ولبَّى والمسلمون معه يلبُّون، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مَرِّ الظَّهْرَانِ -على مرحلة من مكة-، فوجد بها نفرًا من قريش، فسألوه فقال: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصبح هذا المنزل غدًا إن شاء الله، فرأوا سلاحًا كثيرًا، فخرجوا سراعًا حتى أتوا قريشًا، فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش فقالوا: والله ما أحدثنا حدثًا، ونحن على كتابنا ومدتنا، ففيم يغزونا محمدٌ في أصحابه؟

ونزل النبي -صلى الله عليه وسلم- بمر الظهران، وَقَدّمَ السلاح إلى بطن يَأْجَجَ، -مكان من مكة على ثمانية أميال-؛ حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريش مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يَأْجَجَ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه والهدي والسلاح، قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد! والله ما عُرِفْتَ صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر!

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنِّي لَا أُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السِّلَاحَ“، فقال مكرز: هذا الذي يُعرف به البر والوفاء، ثم رجع سريعًا بأصحابه إلى مكة، فقال: إن محمدًا لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرطه لكم. (انظر: دلائل النبوة للبيهقي 4/ 321).

وقد استنكف رجال من أشراف المشركين أن ينظروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهم يدخلون مكة غيظًا وحنقًا، فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وخلوا مكة وقالوا لا ننظر إليه، ولا إلى أصحابه، ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة هو وأصحابه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُولُ:

خَلُّوا بَنِي الكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ *** اليَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ” (رواه النسائي : 2873، والترمذي ح: 2847، وصححه الألباني في مختصر الشمائل رقم: 210).

هكذا يؤكد النبي -صلى الله عليه وسلم- أهمية الإعلام في مواجهة الأعداء وشدة وقعه وأثره في النفوس، فأشد ما كان يؤثر فيهم الشعر الذي كان وسيلة الإعلام الأولى آن ذاك؛ “خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ“، أي: أن هذا الشعر وهذه الأبيات أسرع تأثيرًا في نفوسهم من رميهم بالسهام؛ ووسائل الإعلام اليوم تتنوع وبشكل سريع ومذهل خاصة مع عالم الفضائيات والإنترنت، فهل نحن اليوم بها مؤثرون أو متأثرون، هل المسلمون لها ضحايا أم موجهون، فلنستثمر الإعلام اليوم لتعريف الناس كافة بحقيقة هذا الدين العظيم الذي جاء لخير البشرية جمعاء.

هكذا كان توجيه الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان صبره، وهكذا كانت نظرته، صبر في صلح الحديبية مع كره الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أن يرجعوا في ذلك العام سنة ستٍ أن يرجعوا دون عمرة، لكنه الصبر والنظرة الاستراتيجية النبوية التي رآها -عليه الصلاة والسلام-، فالصبر الصبر كان رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع قويًّا بعد عام واحد إلى مكة رافعًا رأسه -عليه الصلاة والسلام-.

بل لقد سمع أهل مكة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم ينشدون هذه الأبيات فحاولوا رد الهجمة الإعلامية بالشعر بحرب نفسية، فقال بعضهم لبعض: إن محمدًا وأصحابه قد أصابهم الوهن والمرض، فواجه النبي -صلى الله عليه وسلم- مكرهم بهجمة استعراضية عجيبة، كما روى عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: “قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَرْمُلُوا -أي: يهرولوا، والهرولة المشي السريع مع تقارب الخطى- الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ” (رواه البخاري: 1602، ومسلم 1266).

فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه إذا تواروا عن قريش بين الركنين مشوا، وإذا طلعوا عليهم رملوا وأسرعوا في المشي؛ ليرى المشركون قوة المسلمين وصحتهم، قال ابن حجر: “ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار؛ إرهابًا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم”(فتح الباري 3/ 470).

وكان الصحابة يحيطون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لستره عن أعين كفار مكة خوفًا عليه -صلى الله عليه وسلم- من أن يصيبه أحد بشيء يؤذيه، فعن عبد الله بن أبي أوفي -رضي الله عنه- قال: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، حِينَ اعْتَمَرَ فَطَافَ فَطُفْنَا مَعَهُ، وَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لاَ يُصِيبُهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ“(رواه البخاري 4188).

وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة ثلاثًا، وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يتخذ من هذا الزواج بميمونة بنت الحارث وسيلة لزيادة التفاهم بينه وبين قريش.

فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، فصاح حويطب: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث، فقال سعد بن عبادة: كذبت لا أمّ لك، ليس بأرضك، ولا أرض آبائك، والله لا يخرج. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسهيل وحويطب: “إِنِّي قَدْ نَكَحْتُ فِيكُمُ امْرَأَةً، فَمَا يَضُرُّكُمْ أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا، وَنَصْنَعُ وَنَضَعُ الطَّعَامَ فَنَأْكُلُ وَتَأْكُلُونَ مَعَنَا” فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا رافع، فأذن بالرحيل، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بطن سرف -ما بين التنعيم وبطن مرو، وهو إلى التنعيم أقرب-(دلائل النبوة للبيهقي 4/ 316)، فبنى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هنالك، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة في ذي الحجة. (سيرة ابن هشام 2/372).

فكانت هذه عمرة القضاء التي كان لها تأثير كبير على الجزيرة العربية، وعلى أهل مكة، فلا شكَّ أن أهل مكة تأثروا بهذه الأيام الثلاثة التي مكثها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، فقد رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهم يطوفون بالبيت العتيق، ويسعون بين الصفا والمروة، ويصلون في بيت الله الحرام، وسمعهم أهل مكة وهو يلبُّون ويكبرون ويقرؤون القرآن الكريم، مما جعل العقلاء منهم يفكِّرون في دين الإسلام، وينظرون له نظرة جديدة، فدخل على أثرها عدد كبير في الإسلام، خاصة من مشاهير القوم كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما.

ولعل هذا هو محور حديثنا القادم بمشيئة الله -تعالى- مع سيرة خير الأنام محمد -صلى الله عليه وسلم- . فالحمد لله على نعمة التوحيد والسنة ونعمة الإسلام، وكفى والله بها نعمة لمن رضي حقًّا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا رسولاً.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.