وجوب الإيمان بالقضاء والقدر

عناصر الخطبة

  1. أهمية الإيمان بالقضاء والقدر والمقصود به
  2. درجات الإيمان بالقدر
  3. أنواع تقدير الله وصور ذلك
  4. بعض المسائل المتعلقة بالقدر
  5. بعض شبه الناس وأخطائهم في القدر والرد عليها
  6. بعض ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
اقتباس

عباد الله: اعلموا أن من أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: صحة إيمان الشخص وتكامله؛ لأنه بذلك يكون قد آمن بكل ما يجب الإيمان به، واستكمل أركان الإيمان. ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: طمأنينة القلب وارتياحه، وعدم القلق في هذه الحياة، خصوصاً عندما يتعرض الإنسان لمشاق الحياة؛ لأن العبد إذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فإنه عند ذلك تسكن نفسه، ويطمئن باله. بخلاف مَن لا يؤمن بالقدر، فإنه عندما تصيبه مصيبة أو يفوته شيء مما يحب، فإنه …

الخطبة الأولى:

الحمد لله ربّ العالمين، خلق كل شيءٍ فقدّره تقديراً، وقال في محكم تنزيله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾[الإنسان: 2 – 3].

و ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء: 111].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله شاهداً ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بعثه الله شاهداً ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، واعلموا أن الإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي بيّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه".

وقال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].

والقدر، مصدر من قدرت الشيء، إذا أحطت بمقداره.

والمراد به هنا: تعلق علم الله بالكائنات، وإرادته لها قبل وجودها.

فلا يحدث شيء إلا وقد علمه الله وقدّره، وأراده وأوجده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه.

والإيمان بالقدر يتضمن أربعَ درجات:

الأولى: الإيمان بأنَّ الله عَلِمَ الأشياء قبل وجودها.

الثانية: الإيمان بأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحـج: 70].

وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].

الثالثة: الإيمان بمشيئة الله لكل حادث، وقدرته التامة عليه، قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30].

في موضعين من كتابه، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحـج: 14].

الرابعة: الإيمان بانفراد الله بإيجاد كل المخلوقات، فهو الخالق وحده وما سواه مخلوق، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: 62].

وقال تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [لقمان: 11].

وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [فاطر: 40].

وقال تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16].

وتقدير الله -سبحانه- للأشياء على نوعين:

النوع الأول: التقدير العام الشامل لكل كائن، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، فقد كتب الله فيه مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، كما في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شيء حتى تقوم الساعة".

وهذا التقدير يعمّ جميع المخلوقات.

النوع الثاني: تقدير مفصّل لهذا التقدير العام، وهو أنواع:

النوع الأول: التقدير العُمْري، وهو ما يجري على كل إنسان في مدة عمره في هذه الحياة، كما في حديث ابن مسعود في شأن ما يكتب على الجنين وهو في بطن أمه، من كتابة أجَله ورزقه وعمله وشقاوته أو سعادته.

النوع الثاني: التقدير الحولي، وهو ما يقدّر في ليلة القدر من وقائع العام، كما قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4].

النوع الثالث: التقدير اليومي، وهو ما يقدّر من حوادث اليوم من حياة وموت، وعزّ وذلّ، وغير ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].

ولا بدّ للمسلم من الإيمان بالقدر بجميع تفاصيله، كما عليه أهل السنّة والجماعة، فمَن جحد منها شيئاً لم يكن مؤمناً بالقدر، ومَن لم يؤمن بالقدر فقد جحد ركناً من أركان الإيمان، وكان من الفرق الضالّة المنحرفة.

ومع الإيمان بالقدر، لا بدّ من الإيمان بأن الله جعل للعبد مشيئةً وقدرة، واختياراً وتمييزاً بين الضارّ والنافع، ويعرف الخير ويستطيع أن يفعله بإرادته واختياره، ويعرف الشرَّ ويستطيع أن يتركه بإرادته واختياره، ولذلك صار يُثاب على فعل الخير، ويعاقب على فعل الشرّ؛ لأن الكلّ فعله وكسبه بإرادته واختياره.

والعاجز والمكره والناسي لا يؤاخذون، إما لعدم القدرة وإما لعدم الإرادة.

ومشيئة العبد وإرادته لا تخرجان عن مشيئة الله وإرادته، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ [التكوير: 29].

فأثبت للعبد مشيئته، وربطها بمشيئته سبحانه وجعلها تابعة لها.

وأمر سبحانه بالأعمال الصالحة التي هي سبب للسعادة، ونهى عن الأعمال السيئة التي هي سبب للشقاوة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعملوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له" ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾ [الليل: 5 – 9] [رواه البخاري].

والله –سبحانه- قد رتب الجزاء على العمل، لا على القدر الذي قدره على العبد، فقال: ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يــس: 54].

وقال تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(90)﴾[النمل: 89 – 90].

وبعضُ الناس قد يغالطون في مسألة القضاء والقدر، ويفهمونه على غير مقصوده، فإذا أُمروا بالأعمال الصالحة، ونُهوا عن المعاصي، قالوا: إن كان الله قد قدّر أننا من أهل السعادة، فسنكون من أهلها! وإن كان قدّر أننا من أهل الشقاوة، فسنكون من أهلها!.

ولا يفعلون أسباب السعادة، ولا يتركون أسباب الشقاوة، وهؤلاء جهلة مغالطون؛ لأن الله جعل لكلّ شيء سبباً، وربط النتائج بأسبابها، فإذا لم تعمل هذه الأسباب لم تحصل النتائج، فجعل الطاعة سبباً للثواب، وجعل المعصية سبباً للعقاب، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾ [الليل: 5 – 10].

وهؤلاء الذي يعطّلون الأسباب النافعة، ويحتجّون بالقدر يتناقضون مع أنفسهم، فإنه لو قيل لأحدهم: اترك الأكل والشرب؛ لأن الله إن كان كتب لك أن تعيش فستعيش بلا أكل ولا شرب، واترك الزواج؛ لأن الله إن كان كتب لك ذرية فتحصل لك بلا زواج؛ فإنه سيستنكر هذا القول، ويعتبره ضرباً من الهذيان، فكيف إذاً يترك الطاعة، ويقول: إن الله قدّر لي السعادة فسأحصل عليها بدون طاعة؟

إن الواجب على المسلم: أن يباشر الأسباب النافعة، ويترك الأسباب الضارّة.

كما أنه يأكل ويشرب ويتداوى ليعيش ويسلم من الأمراض، وكما أنه يتجنب المخاطر ليسلم من الهلاك ويعترف بأن هذه المقاصد لا تحصل إلا بتعاطي أسبابها، فكذلك يجب عليه أن يتعاطى أسباب السعادة ليحصل عليها، ويتجنب أسباب الشقاوة ليسلم منها.

عباد الله: اعلموا أن من أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: صحة إيمان الشخص وتكامله؛ لأنه بذلك يكون قد آمن بكل ما يجب الإيمان به، واستكمل أركان الإيمان.

ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: طمأنينة القلب وارتياحه، وعدم القلق في هذه الحياة، خصوصاً عندما يتعرض الإنسان لمشاق الحياة؛ لأن العبد إذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فإنه عند ذلك تسكن نفسه، ويطمئن باله.

بخلاف مَن لا يؤمن بالقدر، فإنه عندما تصيبه مصيبة أو يفوته شيء مما يحب، فإنه يجزع ويسخط ويقلق، ويضيق من حياته ويحاول الخلاص منها، وربما ينتحر ويقتل نفسه.

وقد كثرت في هذا الزمان حوادث الانتحار من الرجال والنساء الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فيفرّون من واقعهم، ويتشاءمون بمستقبلهم، ويأخذهم اليأس، وقد أخبر الله -سبحانه- أن الذين يؤمن بالقضاء والقدر يثبت عند المصائب، ويصبر عند النوازل، ويحتسب الأجر والثواب على مصيبته، فتكون مصيبته خيراً له، وتكون عاقبته حميدة، قال الله -تعالى-: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].

قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم".

ومعنى الآية الكريمة: أن مَن أصابته مصيبة فعلم أنها من عند الله، وأن الله قدّرها فصبر واحتسب، هدى الله قلبه وعوّضه عمّا فاته من الدنيا هدىً في قلبه ويقيناً صادقاً في نفسه، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيراً منه، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)﴾ [البقرة: 155 – 157].

وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور(23)﴾ [الحديد: 22 – 23].

فأخبرنا سبحانه: أنه قدّر ما يجري من المصائب في الأرض والأنفس، وكتبه في اللوح المحفوظ قبل وقوعه.

ثم بيّن سبحانه: أن الحكمة في إخباره لنا بذلك لأجل أن نطمئن فلا نجزع، ولا نأسف عند المصائب، ولا نفرح عند حصول النِعَم فرحاً ينسينا العواقب ونأمن به من مكر الله، بل نصبر عند الشدائد والضرّاء، ونشكر عند الرخاء والسرّاء، قال عكرمة: "ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً، والحزن صبراً".

وليس معنى هذا: أن نعطل الأسباب الجالبة للخير، والواقية من الشر، ولكن نكون مع إيماننا بالقدر نتخذ الأسباب التي أمر الله بها.

فإذا أخفقنا في عدم الحصول على المطلوب، فعلينا أن نرضى بقضاء الله وقدره ولا نجزع، ونعلم أنه لو قدّر لنا غير ما حصل لكان كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احرص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، لكن قل: قدّر الله وما شاء، فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان"[رواه مسلم].

وعلى العبد: أن يحاسب نفسه، ويصحّح أخطاءه، ويعلم أنه لا يصيبه شيء إلا بسبب ذنوبه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، قدّر فهدى، وأخبر أن الإنسان لن يترك سدىً: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى(41)﴾ [النجم: 39 – 41].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى(9)﴾ [الأعلى: 8 – 9] فامتثل أمر ربه، وذكر أمته وأمر ونهى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أُولي الفضائل والنهى، ومَن تبعهم بإحسان واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، واعلموا أن العاقبة للتقوى.

عباد الله: مما يجب التنبيه عليه: أن بعض الناس يخطئ في موضوع القدر خطأً فاحشاً، ويضلّون ضلالاً مبيناً، حينما يحتجّون بالقضاء والقدر على تبرير فعلهم للمعاصي، وتركهم للتوبة منها، ويقولون: هذا مقدّر علينا، كما قال المشركون إذا نُهوا عن الشرك: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 148].

وهذا فهم سيّئ للقضاء والقدر؛ لأنه لا يحتجّ بهما بعد فعل المعاصي والمعائب، وإنما يحتجّ بهما بعد نزول المصائب.

فالاحتجاج بالقدر، بعد فعل المعاصي قبيح؛ لأنه يفوت التوبة منها، ويكسل العبد عن العمل الصالح.

والاحتجاج بالقدر بعد حصول المصائب حسن ومفيد؛ لأنه يحمل على الصبر والاحتساب.

ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أنه يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج، والقوة والشهامة والشجاعة، فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده ولا يهاب الموت؛ لأنه يعلم أن الموت لا بدّ منه، وأن المقدّر لا بدّ أن يقع، وأن الأجل لا يؤخر، ولا يمنع منه حصون ولا جنود، كما قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: 78].

وقال: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا﴾ [التوبة: 51].

فحينما يستشعر المجاهد في نفسه هذه الدفعات القوية من الإيمان بالقضاء والقدر، يمضي في جهاده، حتى يتحقق له النصر على الأعداء، وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين.

وكذلك الإيمان بالقضاء والقدر: يوفّر الإنتاج والثراء للفرد والجماعة؛ لأن المؤمن إذا علم أن الناس لا يضرّونه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولا ينفعونه إلا بشيء قد كتبه الله له، فإنه لن يتواكل، ولا يهاب المخلوقين، ولا يعتمد عليهم، وإنما يتوكل على الله، ويمضي في طريق الكسب، وطلب الرزق، وإذا أصيب بمصيبة أو لم يتوفر له مطلوبه، فإن ذلك لا يثنيه عن مواصلة الجهود، ولا يقطع منه باب الأمل، ولا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، وإنَّما يقول: "قدّر الله وما شاء فعل" ويحاسب نفسه، ويصحّح خطأه، وبهذا يقوم كيان المجتمع، وتنتظم مصالحه.

ومن ثمرات الإيمان بالقدر: تعظيم العبد لربه، وخوفه منه ورغبته فيما عنده وتعلقه به دائماً؛ لأنه يعلم أن الأمور بيد الله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يلتفت إلى غيره، ولا يذل ولا يهين للمخلوقين؛ لأنه يعلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، فلا يخاف من مخلوق، ولا يعتمد إلا على ربه.

نسأل الله -عزّ وجلّ- أن يجعلنا من المؤمنين بقضائه وقدره، والعاملين بطاعته التاركين لمعاصيه.

ومن الناس مَن إذا أصابه مكروه، فإنه لا يحاسب نفسه، ويعلم أن ما أصابه بذنوبه، فيتوب إلى الله ويتّعظ، وإنما يجزع ويلقي اللوم على القدر وربما يسبّه.

كما يقول بعض الصحفيين والكتّاب: يا ظلم القدر! يا قسوة القدر! يالسخرية القدر! وأمثال هذه الألفاظ الشنيعة التي فيها سبّ الله -عزّ وجلّ-؛ لأنه هو الذي قدّر المقدور، وبيده تصريف الأمور، فكأن هذا يقول: ظلمني ربي، وسخر بي ربي، وقسى عليّ، وأنا أستحق غير هذا.

قال الإمام ابن القيّم -رحمه الله-: وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختصّ بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلاّ من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب والناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء.

ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم.

فإن تَنْجُ منها تَنْجُ من ذي عظيمةٍ *** وإلا فـإنـي لا إخـالكُ ناجيـا

وهذا الذي ذكره الإمام ابن القيّم يجري على ألسن كثير من الناس إذا رأوا رجلاً صالحاً قد ابتلي بالفقر، قالوا: هذا ما يستحق الفقر!.

وإذا رأوا رجلاً آخر قد وسّع عليه الرزق، قالوا: هذا ليس أهلاً لذلك!.

وهذا قدح في القدر واعتراض على الله.

فالواجب على المسلم: أن يحفظ لسانه من هذه الألفاظ البذيئة التي تخلّ بعقيدته ودينه.

فتنبهوا لذلك -رحمكم الله-.

واعلموا أن خير الحديث كتاب الله …