الأضحية والتضحية

عناصر الخطبة

  1. الشوق والحنين إلى الحج والبيت
  2. من الأعمال الصالحة أيام العشر
  3. الأضحية والتضحية: دروسٌ وعِبرٌ
  4. حُكم وأحكام الأضحية
  5. أحكام الزكاة الشرعية
اقتباس

آهٍ إخوة الإيمان! كم من نفس فيها أشجان تتلهَّف للحج هذه الأيام لتروي غلتها، وتطفئ حرارة عطشها! فإن في القلوب شعثاً لا يلمُّه إلا الإقبال على الله، وفيها وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيها حزن لا يُذْهِبُه إلا الاجتماع على الله؛ إنها حلاوة الإيمان، فكيف إذا اجتمع شرف الزمان وشرف المكان؟ ..

الحمد لله رب العاملين من على عباده بمواسم الخيرات، وحثهم على اغتنامها بالطاعات؛ ليكفر عنهم السيئات، ويرفعهم درجات تفضلا منه واحسانا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أول سابق إلى الخيرات، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين السابقين للصالحات، ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون:61].

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، واغتنموا أعماركم بالأعمال الصالحة فإنها تنقضي، واعلموا أنكم في اوقات فضائل ومواسم خيرات ونفحات، فالسعيد من تنبه لها واستفاد منها، والشقي من غفل عنها وضيع نفسه.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

ياراحلين إلى مِنَىً بقيادي *** هيَّجْتُموا يوم الرحيل فؤادي سِرتم وسار دليلكم يا وحشتـي *** الشوق أقلقني وصوت الحـادي حرَّمتموا جفني المنام ببعدكـم *** يا ساكنين المنحنـى والـوادي ويلوح لي مابين زمزم والصفـا *** عند المقام سمعتُ صوت منادِ ويقول لي يانائما جِـدَّ السُـرى *** عرفات تجلو كل قلـب صـادِ من نال من عرفات نظرة ساعة *** نال السرور ونال كـل مـرادي تالله ما أحلى المبيت على منـى *** في ليـل عيـدٍ أبـرَك الأعيـادِ ضحوا ضحاياهم و سال دماؤها *** وأنا المتيم قد نحـرت فـؤادي لبسوا ثياب البيض شارات اللقاء *** وأنا الملوع قد لبست سـوادي

آهٍ إخوة الإيمان! كم من نفس فيها أشجان تتلهف للحج هذه الأيام لتروي غلتها، وتطفئ حرارة عطشها، فإن في القلوب شعثا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيها وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيها حزن لا يُذْهِبُه إلا الاجتماع على الله؛ إنها حلاوة الإيمان، فكيف إذا اجتمع شرف الزمان وشرف المكان؟ فهو المني لكل مسلم، فالملايين مليئةٌ قلوبهم بالشوق والحنين إلى بكة وعرفة ومنى ومزدلفة، مشاعر تُعجِز كل شاعر، وشعائر تفيض فيها المشاعر، تلك مواطن تُسْكَبُ فيها العبَرات، وتستجاب الدعوات، وتكفر السيئات؛ لذا، فكم من قلب يحنّ لتلك الخيام؟ وكم من مسلم في عرض الأرض وطولها يطلق الحسرات هذه الأيام، أن لو كان في بلد الله الحرام؟!.

قال الهروي: خرجَت أم أيمن امرأة الشيخ أبي علي الوذباري من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء وترى الجمال تتجه إلى مكة وهي تبكي وتقول: واضعفاه! واعجزاه! واحسرتاه! وتقول: هذه حسرة من انقطع عن البيت؛ فكيف يكون حسرة من انقطع عن رب البيت؟!.

نعم أخي! إياك والانقطاعَ عن رب البيت! فإن لم تكن حاجاً هذا العام فتقرب إلى الله وأكثر من النوافل والطاعات، قال بعض السلف: مَن فاته القيام بعرفة فلْيقُم للهِ بحقه الذي عرَفه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمُه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا فقد بلغ المنى، ومن لم يصِل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه من حبل الوريد.

ومِن أعظم الأعمال الصالحة التي تتميز بها هذه الأيام لغير الحاج صيام يوم عرفة والذي يكفر سنتين، فما أيسره! وما أعظمه من أجر! والمحروم من حرمه الله.

ثم من الأعمال التي تتميز بها هذه الأيام الأضحية، وهي من العبادات المشروعة في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع المسلمين، فالله تعالى يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2]، ويقول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ(163)﴾ [الأنعام:162-163]، ويقول: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج:34]

وهي سنة أبينا إبراهيم -عليه السلام-، وقد "ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين، اقرنين، ذبحهما بيده، وسمي وكبر ووضع رجله على صفاحهما" كما في الصحيحين، وفيهما أيضا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومَن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين".

واختلف أهل العلم: هل الأضحية واجبة أم سنة؟ والجمهور على أنها سنة مؤكدة؛ لكن صرح كثير منهم بأن تركها يكره للقادر، وقال بعضهم: لو تركها أهل بلد قوتلوا عليها؛ لأنها من شعائر الإسلام، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان له سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا".

واحذر أخي أن تكون من المحرومين الذين ينفقون الكثير ويذبحون الذبائح طوال العام ثم تراهم يتكاسلون ويتهاونون بالأضحية هذه الأيام، وهذا من الحرمان، فما تقرب عبد لربه في مثل هذه الأيام أفضل من تقربه بدم بنحره من أجل الله؛ فإن الذبح نفسه واراقة الدم مقصود، وإنه عبادة مقرونة بالصلاة وذلك في قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾.

وكثير من الناس يغفل عن استشعار عظمة ذبح الأضحية والهدي، يقول ابن القيم -رحمه الله-: مقصود الشارع من إراقة دم الهدي والأضحية التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بأجَلِّ ما يقدر عليه من ذلك النوع، وأعلاه وأغلاه ثمنا، وأنفَسه عند أهله؛ فإنه لن يناله -سبحانه- لحومُها ولا دماؤها وإنما يناله تقوى العبد منه، ومحبته له، وإيثاره بالتقرب إليه بأحب شيء إلى العبد، وآثره عنده، وأنفَسه لديه، كما يتقرب المحب إلى محبوبه بأنفَس ما يقدر عليه، وأفضله عنده. اهـ.

والله تعالى يقول ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج:37]، قال ابن سعدي: أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء لكونه هو الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة… ولكن يناله الإخلاص فيها والاحتساب على الإخلاص في النحر، وأن يكون قصد وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشر الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه. اهـ.

وفي قصة الأضحية من بدايتها دروس وعبر في التضحية وسرعة الاستجابة لله، فلما اوحى الله إلى إبراهيم -عليه السلام- بذبح ابنه امتثل واستشار ابنه اسماعيل فأجاب، وطرحه للذبح وأسلما لله في القصد والعمل، ففداه الله بذِبح عظيم، وأبقى سنة الأضحية في الملة الإبراهيمية والشريعة المحمدية تذكارا بهذا العمل العظيم، والإسلام الصادق لرب العالمين؛ ليتعلم المسلمون التضحية لله بالنفس والنفيس، وليعلموا أن المسلم من صدق قوله فعله، ومَن إذا جاء أمر الله كان لله كله.

فتعلَّم -أيها المسلم- من الأضحية حقيقة الاستجابة لله ولرسوله، اسأل نفسك إذا قيل لك قال الله وقال رسوله عن مدى امتثالك للأمر؟ وهل يقع في نفسك تردد وتلكؤ؟ وهل تُقدم حق الله على حق النفس وشهواتها؟ هنا تتضح حقيقة الإسلام الذي هو الاستسلام لله، قال -تعالى-: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [الرعد:18].

أيها المسلم: تعلَّم من الأضحية حقيقة التضحية، فهل الله ورسوله أحب إليك من نفسك وحظوظها؟ هل أنت على استعداد أن تضحي بنفسك في سبيل الله؟ هل تقدم نفسك ومالك وولدك من أجل دينك؟ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:24].

تأمل هذه المعاني الجميلة وأنت تذبح أضحيتك خاصة في مثل هذا الزمن الذي كثرت فيه الأهواء والشهوات، وتذكر دائما قصة الاضحية وإبراهيم واسماعيل -عليهما السلام-، سبحان الله! هل رأيتم أبا يهم يذبح ابنه بالسكين استجابة لأمر رب العالمين؟ إنه الحب الصادق لله.

ستروا قصة الهوى بحروفٍ *** سوف تبقى عن البِلَى خالداتِ هكذا الحُبُّ لوعةٌ وامتثالٌ *** واشتياقٌ يُصاغ في تضحيات

تدبروا -أيها المسلمون- هذا السر العظيم وأنتم تضحون، وعودوا أنفسكم على التضحية في كل وقت في سبيل الله قدر الاستطاع حتى تصير التضحية خُلقا فيكم في كل حين، واجعلوا قصة هذا النبي الجليل نصب أعينكم، وتدبروا دائما ما قصّه الله منها في القرآن العظيم عليكم، وأحيوا هذه السنة ما استطعتم، وأسلموا لله رب العالمين.

(وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات:99-111].

إنها العبودية التامة لله، والطاعة والاستجابة له، فالمسلم عاهد ربه على الطاعة وأعلن العبودية له وحده: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]، فهل تراه بعد هذا ينقض العهد؟ وهكذا حال الناس في الأضحية والحج، طاعة وعبودية لله بدون تردد ولا حيرة ولا عصيان؛ بل بعاطفة حارة وبذل للمال عجيب، فأسلِم -أيها المسلم- وجهك لله، وكن مستسلما له في كل شيء: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان:22].

أليس نشيد الحاج في هذه الأيام: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك! أليس يعمل المسلم في الحج أعمال ربما لا يفهم لها معنى، كالرمي والسعي وتقبيل الحجر، لا لشيء إلا لأن الله أمره فأطاعه؟!.

إنها دروس هذه الأيام الفاضلة، وهكذا المؤمن مع ربه في كل شيء وفي كل زمان ومكان ومناسبة: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة:285]، سواء بانت الحكمة أم لا، فحسبه أن الذي أمره هو خالقه.

نفعَني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ انه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد على نعمه حمدا يرضيه، وصلى الله وسلم على من اجتمعت كل المعالم فيه، وقرن اسمه باسم الحق عند الذكر ويكفيه، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: أيها الناس، فاتقوا الله ربكم واشكروه على ما انعم به عليكم من مشروعية الأضاحي التي تتقربون بها إلى ربكم، وتنفقون بها نفائس أموالكم، فإنها سنة أبيكم إبراهيم، ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام.

والأضحية من بهيمة الأنعام: إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو الماعز على اختلاف أصنافها، ولا تجزئ إلا بشرطين: أن تبلغ السن المعتبر شرعاً، وأن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء.

فأما السن ففي الإبل خمس سنين، والبقر سنتان، والماعز سنة، والضأن نصف سنة.

وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء فقد بينها النبي حيث قال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بَيِّنٌ عورها، والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ظلعها، والكسير التي لا تنقى".

فالأولى العوراء البين عورها وهي التي انخسفت عينها أو برزت، فإن كانت عوراء ولكن عورها غير بين اجزأَتْ، والسليمة من ذلك أولى.

الثانية: المريضة البين مرضها: وهي التي ظهر عليها آثار المرض مثل الحمى التي تُقعدها عن المرعى، ومثل الجرب الظاهر المفسد للحمها أو المؤثر في صحتها، ونحو ذلك مما يعده الناس مرضا بينا، فإن كان فيها كسل أو فتور لا يمنعها من المرعى والأكل أجزأها، لكن السلامة منه أولى.

والثالثة العرجاء البين ظلعها: وهي التي لا تستطيع معانقة السليمة في الممشى، فإن كان فيها عرج يسير لا يمنعها من معانقة السليمة أجزأت، والسلامة منه أولى.

الرابعة: الكسيرة أو العجفاء يعني الهزيلة التي لا تنقي، أي ليس فيها مخ، فإن كانت هزيلة فيها مخ أو كسيرة فيها مخ أجزأت… والسمينة السليمة أولى.

هذه هي العيوب الأربعة المنصوص عليها، وعليها أهل العلم، في المغني: أما العيوب الأربعة الأولى لا نعلم بين أهل العلم خلافاً بأنها تمنع الإجزاء. اهـ.

ويلحق بهذه الأربعة ما كان بمعناها أو أولى، فيلحق بها: الأولى: العمياء التي لا تبصر بعينيها؛ لأنها أولى بعدم الإجزاء من العوراء البين عورها، فأما العشواء التي تبصر بالنهار ولا تبصر في الليل فصرح الشافعي بأنها تجزئ؛ لأن ذلك ليس عورا بينا ولا عمى بينا يؤثر في رعيها ونموها؛ لكن السلامة منه أولى.

الثانية: المبشومة حتى تثلط، لأن البشم عارض خطير كالمرض البين فإذا ثلطت زال خطرها وأجزأت إن لم يحدث لها بذلك مرض بين.

الثالثة: ما أخذتها الولادة حتى تنجب؛ لأن ذلك خطر قد يؤدي بحياتها فأشبه المرض البين.

الرابعة: ما أصابها سبب الموت كالمخنوقة والموقذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؛ لأن ذلك أولى بعدم الإجزاء من المريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها.

الخامسة: الزَّمْنَى، وهي العاجزة عن المشي لعاهة؛ لأنها أولى بعدم الاجزاء من العرجاء البين ظلعها؛ فأما العاجزة عن المشي بسمن فصرح المالكية بأنها تجزئ لأنه لا عاهة فيها ولا نقص في لحمها.

السادسة: مقطوعة احدى اليدين أو الرجلين؛ لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها، ولأنها ناقصة بعضو مقصود فأشبهت ما قطعت إليتيها.

هذه هي العيوب المانعة من الاجزاء وهي عشرة، أربعة منها بالنص وستة بالقياس، فمتى وجد واحد منها في بهيمة لم تجز الضحية لفقد أحد الشروط وهو السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء.

وأما ما عداها من العيوب فهي لا تمنع من الإجزاء، ولكنها توجب الكراهة، وهي ثلاثة عشر، تسعة منها ورد بها نص، وأربعة منها بقياس.

أما الأولى: العضباء وهي مقطوعة القرن أو الأذن. الثانية: المقابلة وهي التي شقت أذنها من الأمام عرضا. الثالثة: المدابرة وهي التي شقت أذنها من الخلق عرضا. الرابعة: الشرقاء وهي التي شقت أذنها طولا. الخامسة: الخرقاء التي خرقت أذنها. السادسة: المصفرة هي التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها. السابعة: المستأصلة وهي التي ذهب قرنها من أصله. الثامنة: البخقاء وهي التي بخقت عينها. التاسعة: المشيعة وهي التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا، تكون وراء الغنم كالمشيع للمسافر بشرط أن تستطيع معانقة الغنم إذا زجرت، أما إذا كانت لا تستطيع معانقة الغنم أو لم يكن فيها مخ فلا تجزئ. هذه تسعة عيوب ثبتت بالنص.

وأما ما ثبت بالقياس: الأولى: البطراء، وهي من الإبل والبقر والماعز التي قطع ذنبها، وأما البطراء من الضأن هي التي قطع من إليتها النصف فأقل. الثانية: ما قطع ذكره. الثالثة: الهتماء هي التي سقط بعض أسنانها. الرابعة: ما قطع شيء من حلمات ضرعها.

هذه هي العيوب التي توجب الكراهه ولا تمنع التضحية، ولكن كلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وفي صفاتها فهي أفضل، والخصي والفحل سواء كلهما، قد ضحى بهم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن إن تميز أحدهما بطيب لحم أو كبر جسم كان أفضل من هذه الناحية.

والواحد من الضأن أو الماعز أفضل من سبع البدنة أو البقرة، وسبع البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة في الإجزاء، فيجوز أن يشرك في ثوابه مَن شاء، كما يجوز أن يشرك في ثواب الشاة مَن شاء، والحامل تجزئ كما تجزئ الحائل.

ومَن كان منكم يحسن الذبح فليذبح اضحيته بيده، ومن كان لا يحسن فليحضر عند ذبحها فذاك أفضل، فإن ذبحت له وهو غير حاضر أجزأت.

وللزكاة أداب منها: أولا: استقبال القبلة بالذبيحة عند الذبح.

ثانيا: الاحسان إلى الذبيحة بعمل كل ما يريحها عند الذبح، بأن يكون الذبح بآلة حادة، وأن يُمِرها على محل الذبح بقوة وسرعة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتب الاحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإن ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته".

ثالثا: أن ينحر الابل قائمة معقولة يدها اليسرى، فان لم يتيسر له نحرها قائمه جاز له نحرها باركة إذا اتى بما يجب في الزكاة لحصول المقصود بذلك.

رابعا: أن يذبح غير الابل مضجعه على جنبها، ويضع رجله على صفحة عنقها ليتمكن منها، لما روى انس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويضع رجله على صفحتهما، ويذبحهما بيده". وفي رواية: "وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما".

ويكون الإضجاع على الجنب الايسر لأنه أسهل للذبحـ فان كان الذابح أعسر وكان الأيسر له أن يضجعها على الجنب الأيمن فلا بأس أن يضجعها عليه لأن المهم راحة الذبيحة، وينبغى أن يمسك برأسها ويرفعه قليلا ليبين محل الذبح، وأما الإمساك بيدي الذبيحة ورجليها عند ذبحها لئلا تتحرك فظاهر حديث أنس السابق أنه لا يستحب؛ لأنه لم يذكر بان أحدا أمسك بها عندما ذبحها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان مشروعا لفعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نقل عنه لأهميته كما نقل عنه وضع قدمه على صفحاهما؛ بل صرح النووي في شرح المهذب أنه يستحب ألا يمسكها بعد الذبح مانعا لها من الاضطراب، إلا أنه ذكر استحباب شد قوائمها الثلاث وترك الرجل اليمنى؛ ولكن لم يذكر له دليلا.

وأبدى بعض المعاصرين حكمة في ترك قوائمها وعدم امساكها بأن من فوائد إطلاقها وعدم إمساكها أن حركتها تزيد في إنهار الدم وإفراغه من الجسم، ولا يعلم للإمساك بيدي الذبيحة ورجليها عند ذبحها أصل سوى حديث أبي الأشد عن أبيه عن جده في السبعة الذين اشتركوا في أضحية…

سادسا: عرض الماء عليها عند الذبح، وقد ذكره بعض الشافعية ولم يذكروا دليله، ولم يعلم له أصل، ولكن لو علم أنها تطلب الماء مثل أنها ترى الماء فتحاول الذهاب إليه فلا ينبغي منعها منه حينئذ.

سابعا: أن يواري ويستر عنها السكين بحيث لا تراها إلا ساعة ذبحها، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: تقاد إلى الذبح قودا رفيقا، وتوارى السكين عنها ولا يظهر السكين إلا عند الذبح، أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك: أن تُوارَى الشفار. اهـ.

ثامنا: زيادة التكبير بعد التسمية، فيقول: "بسم الله والله أكبر"، لحديث أنس بن مالك المتقدم، قال: "ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر"، وعموم كلام الأصحاب أن زيادة التكبير سنة في ذبيحة القربان، وذبيحة اللحم، ولا تسن الزيادة في الذِّكر على التسمية والتكبير لعدم وروده، ولا الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه غير لائق بالمقام.

وذكر في شرح المهذب عن القاضي عياض أنه نقل عن مالك وسائر العلماء كراهة الصلاة على النبي عند الذبح، وقالوا: ولا يذكر عند الذبح إلا الله وحده.

تاسعا: أن يسمي عند ذبح الأضحية مَن هي له، لحديث جابر -رضي الله عنه- قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأضحى بالمصلَّى، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتى بكبش فذبحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "بسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتى".

عاشرا: أن يدعو عند ذبح الأضحية بالقبول، لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد"، ثم ضحى به -صلى الله عليه وسلم-.

أيها المسلمون: إن بذل الأموال في الأضاحي أفضل من الصدقة بها، وإن الأضحية سنة مؤكدة جدا لمن يقدر عليها، فضحوا عن أنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين ليحصل الأجر العظيم للجميع، وتقتدوا بنبيكم، حيث ضحى عن نفسه وأهل بيته.

ولقد كان بعض الناس يحرم نفسه ويتحجر فضل ربه حيث يضحي عن والديه فقط ويدع نفسه وأهله وذريته، والأولى أن يضحي عن الجميع، وفضل الله واسع، وهذا فيما يضحي به الانسان عن نفسه.

أما الوصايا فيمشي فيها على نص الوصية، وبعض العوام إذا أراد أن يعين الأضحية أي يسميها لمن هي له يمسح ظهرها من وجهها إلى قفاها، والمشروع في تعيين الأضحية أن يعينها عند ذبحها باللفظ من غير مسح عليها كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو ذبحها بالنية من غير تلفظ باسم من هي له أجزأت نيته.

هذه بعض أحكام الأضحية، أسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، والبصيرة والمعرفة في أمور ديننا وأحكامه.

ونسألك اللهم علما نافعا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا.