تذليل العسير في فقه اسم الله البصير

عناصر الخطبة

  1. المصير الرهيب لمن لم يفقه أسماء الله وصفاته
  2. معني البصير في اللغة وكلام أهل العلم
  3. اسم البصير في القرآن والسنة وكثرته وتعدد مترادفاته
  4. اقتران أسم البصير بغيره من أسماء الله ودلالة ذلك
  5. كيفية الإيمان باسم الله البصير، وإثبات ما دل عليه من صفة   
  6. الآثار الإيمانية لاسم الله البصير
  7. مواقف من الحياة الإيمانية في ظل فقه اسم الله البصير
اقتباس

هو البصير الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، يبصر ما تحت الأراضي السبع، كما يبصر ما فوق السموات السبع، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, ولا فـي الدنـيا ولا في الآخرة, لا تخالطه الظنون, ولا تغيره الحوادث والسنون, لا تواري عنه سماء سماءه, ولا أرض أرضه, ولا جبل ما في وعره, ولا بحر ما في قعره, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا مـن يَهده الله فلا مُـضل له، ومن يُضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا نِدَّ له ولا شبيه ولا كُفء ولا مثل ولا نظير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصَفِيُه وخليله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، وصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما ذكره الذاكرون الأبرار، وما تعاقب الليل والنهار، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله -جل في علاه-، فهي سدة الدين ومنتهاه، وسبيل النجاة ومرضاة الإله، فهي أعز مطلوب وأعظم مرغوب وطب القلوب وماحقة الذنوب، فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا.

‏أخرج الإمام ابن ماجة في سننه من حديث ثوبان -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله -عز وجل- هباء منثورا. قال ثوبان: يا رسول الله, صفهم لنا جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم, ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها” (صحيح الترغيب والترهيب(2346)).

عباد الله: عند التدبر في هذا الحديث المخوف الخطير، نجد أن الذي أورث هؤلاء الصّوام القّوام مثل هذه الخسارة الرهيبة والمصير المفزع، بحيث وجدوا أن كل ما تعبوا من أجله وسهروا الليالي وصاموا النهار، قد جعله الله -عز وجل- هباء منثورا، هو شيء واحد، ألا وهو جهلهم بأسماء الله -عز وجل- وصفاته، واغترارهم به -عز وجل-.

فهؤلاء المساكين لو فقهوا معانيَ أسماء الله وصفاته، وتغلغلت هذه المعاني في قلوبهم وتشربت بها نفوسهم، لما ولجوا في مثل هذه النهاية الأليمة، ولعل أكثر الأسماء التي غاب فقهها وعلمها عن عقولهم وقلوبهم اسم الله البصير، فلو استحضروا رؤية الله لكل أفعالهم، ومشاهدته -جل وعلا- لحركاتهم وسكناتهم، وكلامهم وخواطرهم، وعلموا علم اليقين أنه مطلع عليهم، لما أقدموا على انتهاك حرمات الله، وحتى لا يكون مصيرنا مثل مصير هؤلاء أو نكون منهم من حيث لا ندري، ولعلنا نقف سويا على فقه اسم الله البصير لنذلل من فقهه والعلم بمعانيه ومقتضياته كل عسير.

اسم الله البصير من الأسماء التي تكررت كثيرا في كتاب الله، مما يوحي بأهمية هذا الاسم وما يقتضيه من معاني ودلائل وآثار، ووصف الله بأنه ﴿البصير﴾ على معنيين, الأول: أن له بصرا يرى به -سبحانه وتعالى- كما يليق بجلاله وعظمته. والثاني: أنه ذو البصيرة بالأشياء الخبير بحقيقتها وكنهها.

والآيات التي دلت على اسم الله البصير مستفيضة في كتاب الله الكريم, وأكثر ما يرد اسم الله البصير مقترنا باسم الله السميع, كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الإسراء:1]، وقوله: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج:75], ويردُ البصير ويراد به الخبير: أي الخبير بأحوالهم وأفعالهم, يعلم من يستحق الهداية ومن يستحق الغواية ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27] وقوله: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 17].

وجاء في مواضع من القرآن بصيغة تؤكد أن الله بصير بما تعملون, كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 110]، وجاء بصير بالعباد أربع مرات, كما في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20], وجاء البصير مقترنا بالخبير خمس مرات كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ [الإسراء: 30], وجاء مرة واحدة أنه تعالى بكل شيء بصير, في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك: 19].

هذا -عباد الله- في كتاب الله، وأما ما ثبوت اسم الله البصير في السنة، فكثير أيضا، من ذلك ما رواه أبو مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا, فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ” أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا -أَيْ اُرْفُقُوا- عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا” (البخاري(2992)). قَالَ اِبْن بَطَّال: “فِي هَذَا الْحَدِيث نَفْي الْآفَة الْمَانِعَة مِنْ السَّمْع وَالْآفَة الْمَانِعَة مِنْ النَّظَر, وَإِثْبَات كَوْنه سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا, يَسْتَلْزِم أَنْ لَا تَصِحّ أَضْدَاد هَذِهِ الصِّفَات عَلَيْهِ“.

وعن سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ والتي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ” (أبو داود (473) وصححه الألباني) يَعْنِى أَنَّ لِلَّهِ سَمْعًا وَبَصَرًا. ولا يفهم البعض من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا أنه يشبهه أو يمثل صفات الله بصفات البشر، معاذ الله! أن يقصد خير الخلق وأعلمهم بالله وأعرفهم بمراده أن يقصد هذا المعني، ولكنه يريد أن يقرب معنى الصفة لأذهان الناس بما يفهمون ويعرفون، حتى يثبتوا هذه الصفات لله -عز وجل-، ويعبدوه بمقتضاها، ولا يعطلوها أو يؤولوها أو يحرفوها كما حدث من الطوائف الضالة.

والمسلم بجب عليه الإيمان بأنه تبارك وتعالى- يُبْصِر بعينين تليقان بجلاله وكماله -سبحانه-، وقد ثبت ذلك في القرآن: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور:48])، أي: فإنك بمرأى منا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين. وقال تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ تجري السفينة التي حملنا نوحا فيها بمرأى منا ومنظر. وقال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39] بمرأى مني ومحبة وإرادة.

كما ثبت في السنة المطهرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لله عينين، حين وصف المسيح الدجال فقال كما في حديث أَنَسٍ -رضي الله عنه-: “مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ..” (البخاري(7131) مسلم (2933))، وتنزيهه -سبحانه- عن العَوَر، دليل على ثبوت العينين له سبحانه على الوجه اللائق به.

عباد الله: وإلى جانب تلك النصوص من الكتاب والسّنة, نورد أقوال العلماء عن معنى البصير كاسم من أسماء الله -عز وجل-، قال ابن جرير الطبري في قوله تعالى: ﴿ والله بصير بما يعملون﴾ أي ذو إبصار بما يعملون, لا يخفى عليه شيء من أعمالهم بجميعها محيط ولها حافظ ذاكر. وقال ابن كثير في قوله: ﴿والله بصير بالعباد﴾: “أي عليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الضلالة, وهو الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وما ذلك إلا لحكمته ورحمته” (1/335).

وقال السعدى: “﴿البصير﴾ الذي يبصر كل شيء, وإن رق وصغر, فيبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ويبصر ما تحت الأرضين وما فوق السماوات السبع، وأيضا بصير بمن يستحق الجزاء بحسب حكمته“. وقال ابن القيم في النونية:

وهو البصير يرى دبيب النملة ال *** سوداء تحت الصخر والصوان

ويرى مجارى القوت في أعضاءه *** ويرى عروق بياضها بعيان

ويرى خيانات العيون بلحظها ***  ويرى كذاك تقلب الأجفان

وللشاعر المعري -رغم مساوئه الكثيرة- قصيدة رائعة في الثناء على الله جاء في مطلعها هذه الأبيات الفائقة:

يــا من يرى مد البعوض جناحها ** في ظلمة الليــل البهيم الأليل

ويرى منــاط عروقها في نحرهـا ** والمخ من تلك العظـام النُّحَّـل

ويـرى خـرير الدم في أوداجـها ** متنــقلا من مفصل في مفصل

ويرى ويسمع حس مـا هو دونها ** في قـاع بـحر مظـلم متهول

وبنظرة قلبية وعقلية على كتاب الله وسنة رسول الله نجد أن اسم الله البصير له العديد من الحقائق والدلائل التي تبرهن وتوضح المعنى الحقيقي لاسم الله البصير، وهو المعنى الذي غاب عمن هان عليه نظر الله إليه؛ فأكب على المعاصي والموبقات، ومن هذه الحقائق:

أولا: إن الله -تبارك وتعالى- هو البصير، الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، يبصر ما تحت الأراضي السبع، كما يبصر ما فوق السموات السبع، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, ولا فـي الدنـيا ولا في الآخرة, لا تخالطه الظنون, ولا تغيره الحوادث والسنون, لا تواري عنه سماء سماءه, ولا أرض أرضه, ولا جبل ما في وعره, ولا بحر ما في قعره, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)﴾ [آل عمران: 5، 6].

ثانيا: إن الله -سبحانه- العالم البصير بخفيات الأمور، وبالمستور والمنظور، الخبير بعباده، وبأحوالهم وأفعالهم، العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، الذي يعلم المؤمن من الكافر، والبر من الفاجر: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 163], فالله بصير بأحوال العباد، وما يصلحهم، خبير بما في نفوسهم، يعطيهم ما ينفعهم، ويرزقهم ما يصلحهم ويكفيهم: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27].

ثالثا: إن الله بصير بكل شيء، حتى المتضادات هو بها بصير، القريب والبعيد، والكبير والصغير، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من الأشياء والأقوال والأفعال، والحركات والسكنات: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: 61].

رابعا: أن الله -سبحانه وتعالى- مالك أسماع الخلق وأبصارهم, وقد أمدنا بذلك بالمقدار الذي يصلح حالنا, ويمكننا من أداء الهدف من حياتنا: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31], وقال جل شأنه: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل:78].

خامسا: إن الله هو البصير الذي ينظر للمؤمنين بكرمه ورحمته، ويمن عليهم بنعمته وجنته، ويزيدهم كرما بلقائه ورؤيته، ولا ينظر إلى الكافرين إيقاعا لعقوبته، فهم مخلدون في العذاب محجوبون عن رؤيته، لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: “ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ” (البخاري 2369).

فسبحان من تحيرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته ولطفه، وسبحان من يستوي عنده الغيب والشهادة، والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان، وسبحان: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)﴾ [الشعراء 218-219], وسبحان من: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر الآية 19]، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج:9]، أي مطلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات.

وَهُوَ الَّذِي يَرَى دَبِيبَ الذَّرِّ *** في الظُّلُمَاتِ فَوْقَ صُمِّ الصَّخْرِ

وَسَامِعٌ لَلْجَهْرِ وَالإخْفَاتِ  *** بسَمْعِهِ الْوَاسِعِ للأَصْوَاتِ

اللهم اغفر لنا ما أسررنا وما أعلنا، وما قدمنا وما أخرنا، وتب علينا يا مولانا من ذنوب الخلوات، ونجنا من كثرة الزلات، واحفظنا على التوحيد إلى يوم الممات.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي وسع بصره المبصرات والخافيات، وما في بطن الأرض وما خلق في السموات، رب غفور يتجاوز عن الخطايا والسيئات، كريم يرفع عباده المتقين درجات فوق درجات، والصلاة والسلام على نبي البركات، الذي أيده ربه بأغلى المعجزات، وعصمه من الدنايا والخطايا والزلات، بأبي وأمي هو الكامل من كل الجهات، وعلى آله المكرمين وصحبه الطيبين وتابعيه الصالحين، ما دامت الأرض والسموات.

عباد الله: إن الله -تعالى- هو البصير الذي يرى الأشياء كلها ظاهرها وباطنها, وهو المحيط بكل المبصرات, أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات، حتى أخفى ما يكون فيها, فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة, وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها, وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك.

قال ابن القيم -رحمه الله- في المدارج: “البصير الذي لكمال بصره، يرى تفاصيل خلْقَ الذرة الصغيرة، وأعضَائها، ولحمَها، ودمَها، ومخَّها، وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء “.

أيها الأخوة المسلمون: فمن فقه هذا المعنى العظيم لاسم الله البصير أورثه الكثير من المعاني الإيمانية من الذل لله وحده، والخضوع إليه، واستحضار دوام مراقبته ومشاهدته لكل سكنات العبد وحركاته، بل إن فقه هذا الاسم العظيم هو المدرج الأساسي للوصول إلى درجة الإحسان, وهي أعظم مراقي الإيمان والطاعة، والتي فيها يعبد المسلم ربه كأنه يراه، لذلك فإن الحياة في ظل فقه اسم الله البصير حياة مليئة بالآثار الإيمانية التي تقّوم مسار العبد وحياته، ومنها:

أولاً: إثبات صفة البصر له -جل شأنه-، لأنه وصَف نفسه بذلك وهو أعلم بنفسه، وذلك بلا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وصفة العين صفة ذاتية حقيقية نؤمن بها تصديقا لخبر الله ولا نسأل عن الكيفية؛ لأننا ما رأينا الله، ولا أخبرنا من رآه، وما رأينا لعينه مثيلا، فالله له عينان حقيقيتان تليقان بذاته -سبحانه-، وقال تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام-: ﴿ قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه:46] .

ثانياً: الإيمان بأن الله -تبارك وتعالى- بصير بأحوال عباده, خبير بها, بصير بمن يستحق الهداية منهم ممن لا يستحقها، لذلك ختم الله -عز وجل- قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [ التغابن 2] أي: بصير بالصالح والطالح، والمؤمن والكافر، ويجزي كلاً بما يستحق, ومعرفته وبصيرته سابقة للحكم، وأيضا ختم الله باسمه البصير قوله: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ(27)﴾ ثم قال: ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [ الشورى 27]، منبِّهًا بذلك أنه -سبحانه- بصير بأحوال عباده، خبير بها، بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال، وبمن يفسد حاله بذلك.

وختم سبحانه به قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[ فصلت 40]؛ مهدِّدًا، ومتوعدًا، من يلحدون في آياته، بأنه بصير بهم، مطَّلع عليهم، وسيجازيهم يوم القيامة على ما اقترفوه من إلحادٍ في آيات الله، وختم به تبارك وتعالى قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وهذا فيه وعدٌ منه -سبحانه-، أنه لا يَضِيع عنده شيء، من أعمال الخير التي قدموها لأنفسهم، وأنه بصير بهم، وسيثيبهم على ذلك عظيم الثواب.

وثالثاً: إذا علم العبد بأن ربه مطلع عليه استحى أن يراه على معصية أو على ما لا يحب, فإيمان الإنسان بأن الله بصير بحركاته وسكناته، يَجعلُهُ أكثر مراقبةً لله -تعالى- في جميع أموره، فيستقيم سلوكه، ويسمو خلقه، وتصفو روحه، وترتقي نفسه، وبهذا يصلح الفرد والجماعة، ويتذوّق الخَلقُ حلاوةَ الإيمان التي لا يشعر بها إلاَّ المؤمنون.

رابعاً: مراعاة الإخلاص: فإنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، فلا ينبغي أن يكون باطن العبد مخالفا لظاهره، وهذا أشدّ أنواع المجاهدة, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان: ” أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَـرَاهُ، فَإنْ لَـمْ تَكُنْ تَـرَاهُ فَإنَّـهُ يَـرَاكَ” (البخاري), وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: “أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ” قَالَ لَهُ رجل: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟!. قَالَ: “قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ “. (أحمد (19606)).

خامساً: الدّعاء بهذا الاسم وبمقتضاه: فلا ينبغي للعبد وهو يعلم أنّ له ربّا سميعا بصرا، عليما خبيرا، ثم يكف عن دعاء الله والتضرع بين يديه, وانظر إلى دعاء موسى -عليه السلام-: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا(35)﴾ [طه: 25 – 35] ، وإلى دعاء مؤمن آل فرعون ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(44)﴾ [غافر: 41 – 44].

ففي هذا الدعاء يتضرع موسى -عليه السلام- ومؤمن آل فرعون إلى الله ويثنون على كونه بصيرا رقيبا على ما يجري لهما من ظلم قومهما، ومن أدب الدعاء أن لا يجهر بالذّكر والدّعاء إلاّ فيما جاء الدّليل على استحباب الجهر فيه. لقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “أيها الناس أربَعوا على أنفُسِكم فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائباً، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً“. (البخاري (2992)).

فإذا أحسن العبد في عبادته لربه، ومجانبته لمعاصيه، مستحضراً رؤية الله له، واطلاعه عليه، كافأه الله -عز وجل- بأعظم المكافآت، وأدخله حظيرة الإحسان، وهي أعلى مقامات الدين، وكم من شخصٍ كَفَّ عن مقارفة المعاصي، وفِعل الذنوب، لاستحضاره رؤية الله، واستعظامه لجانب الله أن يراه على هذه المعصية، فكافأه الله بلذّة في قلبه لا يستبدل بها الدنيا ولو عرضت عليه.

ولقد كان الجيل الأول أكثر الناس فهما وفقها للآيات والأحاديث، تشربت قلوبهم بهاتيك المعاني العظيمة وانطبعت قلوبهم بتلك الآثار الإيمانية الكبيرة لأسماء الله وصفاته، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:

أن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- كان يتفقد المسلمين ليلا في سكك المدينة, فسمع عجوزاً تقول لابنتها: “امزجي اللبن بالماء”, فقالت البنت: “أما علمت أن عمر نهى عن مزج اللبن بالماء“؟, فقالت العجوز في لحظة غفلة: “وأين عمر حتى يرانا؟!”, فقالت البنت المؤمنة الموقنة بنظر الله -تعالى- اليهما: “إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا” ومن نسل هذه المؤمنة الصالحة كان نسمة عظيمة من أعلام الأمة، وهو أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، وصدق الله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 34].

وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ أُصَدِّقُ، أَنَّ عُمَرَ، وَهُوَ يَطُوفُ سَمِعَ امْرَأَةً، وَهِيَ تَقُولُ:

تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاخْضَلَّ جَانِبُهْ *** وَأَرَّقَنِي إِذْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهْ

فَلَوْلَا حَذَارِ اللَّهِ لَا شَيْءَ مِثْلُـهْ *** لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ

ولكن تقوى الله عن ذا تصدني*** وحفظاَ لبعلي أن تنال مراكبه

عظّمت الله فراقبته, واستحيت منه فهابته, الله أكبر, عُظِم الأمر فعُظمت الأوامر, وعظُم عندها البصير فعظمت المعاصي, فكبحت نار شهوتها, وكسرت رغبات نفسها, في سبيل رضا الله -سبحانه-.

فما كان من عمر إلا أنه أصدر قرارا سريعا بعودة زوجها, وكان منضما إلى صفوف المجاهدين لفتح بلاد الفرس، وأمر بتغيير نوبات المجاهدين بحيث لا تطول غيبتهم عن بيوتهم وأزواجهم، فكان القرار بركة على المسلمين أجمعين، بسبب تقوى هذه المرأة الصالحة واستحضارها لمراقبة الله لها.

وعن نَافِع مولى ابن عمر قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ, وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ فَوَضَعُوا سُفْرَةً لَهُمْ, فَمَرَّ بِهِمْ رَاعٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: “هَلُمَّ يَا رَاعِي فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ” فَقَالَ: “إِنِّي صَائِمٌ“. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: “هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ نَجْتَرِزُهَا نُطْعِمُكَ مِنْ لَحْمِهَا مَا تُفْطِرُ عَلَيْهِ وَنُعْطِيكَ ثَمَنَهَا؟” قَالَ: “إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي إِنَّهَا لِمَوْلايَ“. قَالَ: “فَمَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ لَكَ مَوْلاكَ إِنْ قُلْتَ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ؟”, فَمَضَى الرَّاعِي وَهُوَ رَافِعٌ إِصْبَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: “فَأَيْنَ اللَّهُ؟”.

قَالَ: فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: “فَأَيْنَ اللَّهُ!”. فَمَا عَدَا أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ إِلَى سَيِّدِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ الرَّاعِيَ وَالْغَنَمَ, فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ وَوَهَبَ لَهُ الْغَنَمَ. (التبصرة:2/250).

سبحان من يجزي بالإحسان إحسانا، ويعطي من يؤثر مرضاته أضعاف ما تركه، هذا العبد آثر رضا الله واستحضر مراقبته، فكان الجزاء الإلهي من جنس عمله الصالح، كان عتقه من الرق، وغناه من الفقر، وسبحان من يعطي بغير حساب، ويصل من غير أسباب.

فحقيق بالعبد الذي خلقة الله في أحسن تقويم، وأكرمه بالسمع والبصر والعقل، وأرسل إليه رسوله بالدين الكامل، أن يعبد الله بدينه الذي شرعه، ليسعد في دنياه وآخرته, وأن يعرف أن ربه يراه، وأنه مسئول عما قاله وفعله واعتقده، وعما استعمل فيه جوارحه التي خلقها الله لعبادته, فالعاقل من استعمل قلبه ولسانه بذكر الله، واستعمل جوارحه في طاعة الله وكفها عن معصية الله.

اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، يا واسع المغفرة اللهم اغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين. اللهم نَفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين, برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعلنا من عتقائك من النار. اللهم اكتبنا في عليين، وأعطنا كتابنا باليمين، واجعلنا من المرحومين، ولا تجعلنا من المحرومين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، أولها وآخرها، ما نسينا منها وما لم ننسَها، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا شاباً إلا أصلحته، ولا ضالاً إلا هديته.

اللهم أصلح شبابنا وشيوخنا. اللهم اهد فتياتنا وعجائزنا. اللهم حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، يا رب العالمين.

اللهم ارحم موتانا وجميع موتى المسلمين والمسلمات الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك.

اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم إنهم سكان دار لا يتجاورون، ومنهم المنعمون ومنهم المعذبون. اللهم من كان منهم منعماً فزده نعيماً، ومن كان منهم معذباً فكن به رحيماً، يا أرحم الراحمين.