قصة إبراهيم عليه السلام (ب)

عناصر الخطبة

  1. النبوة مقرونة بالابتلاء
  2. هجرة إبراهيم من أرضه
  3. الميزان الصواب للقلة والكثرة
  4. مولد إسماعيل ونشأته
  5. الابتلاء العظيم
اقتباس

فلم يتعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بالأرض التي وُلد فيها ولا على التراب الذي نشأ فيه فكيف بنا -يا عباد الله ويا دعاة الإسلام- لو فارق الشخص الوطن الذي يحنو إليه لعارضٍ مؤقت جلس يكتب الرسائل والقصائد التي تعبر عن حبه لوطنه وحنينه إليه.. فكيف بكم لمن كان يقاتل من أجل تحرير الأرض ومن أجل التراب لا شك أن هذا ..

أما بعد:

أيها المسلمون: نواصل معكم قصة نبي الله خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وصلنا معكم في الجمعة الماضية، أنه بعد ما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام وحطمها جميعها إلا كبيرهم، وعلم القوم بأن إبراهيم هو الذي فعل هذا أجمعوا على حرقه عليه الصلاة والسلام بالنار، فأوقدوا له تلك النار العظيمة وألقوه فيه، ولكن رحمة الله عز وجل وقدرته على كل شيء سلب النار خصية الإحراق، فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم، خرج عليه الصلاة والسلام من النار سالماً معافى والقوم ينظرون إليه عندها أيقن القوم أنهم عاجزون عن قتل خليل الرحمن أو حتى زحزحته عن عقيدته التي يدعوا إليها، وعندها وقف طاغوتهم النمرود حائراً لا يدري ماذا يفعل بعد أن عجزت نيرانهم المتأججة من التهام ظفر من أظفار إبراهيم عليه السلام أو حتى حرق قطعةٍ صغيرة من ملابسه.

وأيقن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن جذور الشرك عميقة وعميقةٌ جداً في قلوب قومه وعقولهم، لقد أقام عليهم الحجج الدامغة، ورأوا معجزات تبهر العقول فما زادهم ذلك كلهُ إلا إصراراً على الباطل وإعراضاً عن الحق ولم يعد ينفع معهم أو فيهم النصح والموعظة إذاً لا فائدة من بقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في أرض جرداء قاحلة لا تمسك ماء وتنبت كلأ، وبين قومٍ يستعجلون عذاب الله ويزهدون برسله وأنبيائه عندها جاء أمر الله سبحانه وتعالى وأمره بالهجرة.

أُمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن يهاجر ومن معه من المؤمنين إلى الأرض المباركة كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(73)﴾ [الأنبياء: 70- 73].

هاجر الخليل عليه الصلاة والسلام كما هاجر نوحٌ قبله وكما هاجر محمداً صلى الله عليه وسلم بعدهما أخرج البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن ورقة بن نوفل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومخرجي هم"؟ قال:" نعم لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزرًا".

تخلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وطنه وعن رفاق صباه كما تخلى عن أقرب الناس إليه من أهله وقومه، وفر بدينه عليه الصلاة والسلام في أرض الله الواسعة وليس معه من المسلمين إلا ابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام وزوجه سارة، وهؤلاء الثلاثة إبراهيم ولوط وسارة هم جماعة المسلمين في ذلك الوقت وليس على وجه الأرض من يذكر الله تعالى غيرهم.

وفي هذا عبرةٌ -يا عباد الله- لمن يعول على الكثرة، ويقول بأن المسلمين قلة، وأن أعداءهم كثير، فهذا عذر غير مقبول في حقل العمل الإسلامي فإبراهيم عليه الصلاة والسلام، خرج من قومه وليس معه إلا زوجه وابن أخيه فصار يتنقل بأرض الله تعالى داعياً إلى الله غير مكترث بالقلة، فهذا هو الواجب على كل مسلم، سار إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى وصلوا إلى أرض حرّان في بلاد الشام، وكان أهلها يعبدون الكواكب من دون الله فدعاهم إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام إلى توحيد الله وعدم الإشراك به فلم يستجيبوا له، وبعد أن مكث في حرّان ما شاء الله له أن يمكث، ثم بعدها رحل إلى أرض بيت المقدس وما والاها ثم ارتحل بعد ذلك إلى مصر وهناك جرت له قصة مع ملك مصر يخص زوجه سارة.

وقد ذكر هذا القصة الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وملخصها أن هذا الملك أُعجب بزوجة إبراهيم عليه السلام، فأمر جنوده فسُلبت منه، وكان هذا ابتلاء آخر لنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأدخلها الطاغوت إلى قصره ثم حاول قبحه الله هتك عرضها والاعتداء على شرفها، وهي لا تملك قوة تدافع بها عن نفسها ويبيت زوجها خليل الرحمن لائذاً بكنف الله سبحانه وتعالى لا يدري ماذا يصنع ولا يدري ماذا يفعل.. يصلي ويدعو ربه عليه الصلاة والسلام وهل له وسيلة أخرى غير الدعاء في مثل هذه المواقف.

ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته الذي نجى إبراهيم من النار حفظه كذلك من وصمة العار، فعادت إليه سارة عزيزة شريفة وقد جاء في الحديث أنه كلما حاول الاقتراب منها ويتناولها بيده أُخِذَ بأمر الله سبحانه وتعالى وقدرته حاول ذلك مراراً عندها علم أنه لن يصل إليها، فلما رأى منها ما رأى أعطاها جارية قبطية هاجر فمكث إبراهيم عليه الصلاة والسلام في مصر ما شاء الله له أن يمكث، ثم غادرها راجعاً إلى أرض بيت المقدس ومعه من الأنعام والعبيد والمال ما لا يحصى وبعد ذلك رزقه الله سبحانه وتعالى ذرية صالحة.

فما من نبي بعث بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا كان من ذريته وما من كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده إلا نزل على أحد من نسله وعقبه، ونعمُ الله سبحانه وتعالى التي أنعمها على إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام تذكرنا بهجرة المسلمين إلى الحبشة وما لاقوه عند النجاشي من إكرام وحرية وأمن مما دعى الصحابي الجليل عبد الله بن الحارث بن قيس أحد المهاجرين إلى القول برسالة بعثها إلى إخوانه المقيمين في مكة يقول فيها رضي الله تعالى عنه:

يا ركباً بلغوا عني مغلفةً *** كل امرئ من عباد الله مضطهد إنا وجدنا بلاد الله واسعة *** فلا تقيموا على ذل الحياة وخزيٍ من كان يرجو بلاغ الله والدين *** ببطن مكة مقهور ومفتون تنجي من الذل والمخزاة والهون *** في الممات وعيبٍ غير مأمون

ما أشد بُعد المصلحين اليوم في فهم معاني هذه الأبيات والتأسي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في هجرته وغربته عن وطنه وأهله، لقد كانت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في غربة إبراهيم عليه السلام عن وطنه وأهله هي من أهم القضايا التي عالجها كتاب الله سبحانه وتعالى.

فلم يتعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بالأرض التي وُلد فيها ولا على التراب الذي نشأ فيه فكيف بنا -يا عباد الله ويا دعاة الإسلام- لو فارق الشخص الوطن الذي يحنو إليه لعارضٍ مؤقت جلس يكتب الرسائل والقصائد التي تعبر عن حبه لوطنه وحنينه إليه.

فكيف بكم -يا عباد الله- لمن كان يقاتل من أجل تحرير الأرض ومن أجل التراب لا شك أن هذا نوع من أنواع الشرك بالله التي ما بُعث إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا لمحاربته.

فيجب -أيها الدعاة وأيها المصلحون- أن تبقى العقيدة أهم من التراب والطين والوطن وأغلى من الأهل والعشيرة والقوم، وأن تكون ثقتهم بالله سبحانه وتعالى أقوى من أن تزعزعها الأهواء والمحن وما يغلق في وجوههم في أرض قد يفتح سبحانه وتعالى لهم في أرض أخرى، فقال عز من قائل في هذا المقام: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 100].

أيها المسلمون: عاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مصر إلى أرض فلسطين ومعه زوجه والجارية هاجر، وكانت نفس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ترغب في ولد، فدعا الله سبحانه وتعالى أن يهبه ولداً صالحاً كما قال سبحانه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100] وكأن زوجه سارة شعرت بما يجول في خاطر زوجها، فقالت له: إن الله حرمني الولد، فأرى أن تتزوج جاريتي هاجر؛ لعل الله أن يرزقك منها ولداً، وكانت سارة قد تقدمت في السن وكانت عقيماً لا تلد لا يُرجى أن ترزق بولد..

تزوج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهاجر فولدت له إسماعيل، وبعد أن رُزق إبراهيم بإسماعيل بدأت هاجر تتيه عجباً وتعتز بهذا الولد مما أثار الحسرة والغيرة في نفس سارة، فطلبت من إبراهيم عليه الصلاة والسلام إقصاءهما عن وجهها، استجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى رغبتها؛ لأمرٍ يريده الله سبحانه وتعالى فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأخذهما ويذهب بهما إلى مكة، وكان إسماعيل يومئذٍ رضيعاً اصطحب إبراهيم الغلام وأمه هاجر وسار بهما سيراً طويلاً، إلى أن أمره الله سبحانه وتعالى بالتوقف في أرض خلاء بعيدةٍ عن العمران في المكان الذي سيبني فيه البيت الحرام.

أنزل إبراهيمُ هاجر وطفلها في المكان المقفر الذي ليس فيه ماء، ثم تركها وقفل راجعاً تبعته هاجر عليها الصلاة والسلام وهي ملتاعة، وقالت: إلى أين تذهب ولمن تتركنا في هذا الوادي الموحش المقفر؟! وهو يمضي في سبيله لا يلتفت إليها عندئذٍ قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال نعم: إذاً لا يضيعنا الله عز وجل، ثم رجعت إلى المكان الذي وضعها إبراهيم فيه مع ولدها، انطلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقلبه منفطرٌ أسى على فراق زوجته وولده لكن مشيئة الله عز وجل فوق مشيئة العبد فاستسلم لربه وقفل راجعاً وهو يبتهل لربه ويدعو بهذه الكلمات التي قصها الله علينا في كتابه ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ(38)﴾ [إبراهيم: 37- 38].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والذكر الحيكم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

أما بعد أيها المسلمون.. امتثلت هاجر إلى أمر الله عز وجل وتحلت بالصبر، ومكثت تأكل من الزاد وتشرب من الماء الذي تركه لها إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن نفد كله فعطشت وعطش ابنها معها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى من الظمأ لم تحتمل هذا المشهد المؤلم وهبّت قائمة، وسارت هائمة على وجهها، تعدو وتهرول وتكاد تفقد وعيها، صعدت هاجر مكاناً مرتفعاً يعرف بالصفا، فنظرت لعلها ترى ماءً، فلم تر شيئاً، فهبطت وسعت سعي الإنسان المرهق، حتى أتت مكاناً مرتفعاً آخر يعرف بالمروة فنظرت فلم تر شيئاً ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً فعلت ذلك سبع مرات، ثم لما أشرفت أخيراً على المروة، سمعت صوتاً فتلفتت فإذا بملك من الملائكة عند موضع بئر زمزم، فبحث بجناحه حتى ظهر الماء.

وقيل في رواية أخرى: أن إسماعيل عليه السلام كان يفحص بقدميه الأرض فنبع الماء من تحتها والله أعلم بالصواب وكله حاصل بأمر الله عز وجل وإرادته. رأت هاجر هذا المشهد المثير فغمرها الفرح والسرور ثم جعلت تغرف من الماء وتسقي ولدها وتروي نفسها ولما نبع الماء اجتذب الطير إليه، وكان قوم من قبيلة جُرهم يسيرون قرب هذا المكان، فرأوا الطير تحوم حلوه ثم سأل بعضهم بعضا إن هذا الطير ليحلق على ماء فهل علمتم أن بهذا الوادي ماءً؟ قالوا: لا، فأرسلوا أحدهم يستطلع الخبر فرجع يزف إليهم بشرى وجود الماء، فجاؤوا إلى هاجر فقالوا لو شئت كنا معك نوانسك والماء مائك، فرحبت بهم فاستوطنوا بجوارها حتى شب إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ثم تزوج بعد ذلك بإمرأة جرهمية وتعلم العربية منهم.

أيها المسلمون: ترك إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولده إسماعيل في مكة ولكنه لم ينسه ولم يغفل عنه بل كان يزوره من حين إلى آخر، وفي إحدى هذه الزيارات رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في منامه أن الله يأمره بذبح ولده إسماعيل ورؤيا الأنبياء حق – يا عباد الله – لأنها بمثابة الوحي من الله؛ لذلك عزم إبراهيمُ على تنفيذ أمر الله ولم يثنه عن عزمه أن إسماعيل ابنه الوحيد، وأنه أصبح في سن الشيخوخة.

وهذا ما يقصه الله علينا في كتابه بقوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات: 99- 112] أي امتحان يا عباد الله أصعب من هذا؟! يُؤمَر خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام بذبح ولده وكان وحيده آنذاك.

إن هذا أيها الإخوة من أعظم الحوادث وأجلها في تاريخ التضحيات وبالأخص إذا نظرنا إليهما من الزوايا التي أُحيطت بهذه التضحية، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام الحريص على الذرية والذي رُزق ولداً في سن الشيخوخة، هذا الولد الذي هو مهجة قلبه وأمل حياته ووارث اسمه يأمره الله أن يضحّي به ليمتحن إيمانه، ويرى مبلغ استجابته لأمره سبحانه وتعالى ودرجة طاعته حدث إبراهيم ولده في هذا الشأن الخطير، ويكاد قلبهُ لينخلع من الحزن فيجيبه إسماعيل عليه السلام بقوله: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.

إن اللسان -أيها الإخوة- ليعجز عن وصف مضمون هذا القول الذي يتمثل فيه الرضا التام بتضحية النفس في سبيل الله تضحية من وجهين تضحية الولد بولده وتضحية الابن بنفسه هذه هي أرفع صور الإيمان، وأجلها في تاريخ الإنسانية فليس الإيمان -يا عباد الله- ادعاءات تلوكها الألسن، وليس الإيمان تسلية للأحزان لفترة ما وليس الإيمان نظرية من النظريات يغوص العقل في كشف خفاياها، بل الإيمان هو الاندماج الكلي في إرادة الله سبحانه وتعالى التي تتركز في العمل بوصايا الله وأوامره، والتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيله، ما أحوجنا إلى هذا الدرس في هذا الزمن الذي أصبح فيه المال والولد والزوجة يستأثرون بحب الإنسان الذي يؤثرهم على كل شيء حتى أصبحوا له معبودات من دون الله، وما أحقر الإنسان يا عباد الله إذا تعلق بزينة الحياة الدنيا الفانية وترك الحقيقة الخالدة التي هي مصدر وجوده ومصدر استمرار حياته.

أيها المسلمون: قدم إبراهيمُ يوماً إلى مكة وأتى بيت إسماعيل فلم يجده ووجد امرأته وكانت تجهل أنه والد زوجها، فسألها إبراهيم عن إسماعيل، فأخبرته أنه خرج يصطاد ثم سألها عن حالهم فقالت نحن في شدة وضيق وشكت إليه سوء الحال ثم قال لها إبراهيم، هل عندك ضيافة من طعام وشراب فقالت: لا، ليس عندي وما عندي أحد، ولما لقي منها إبراهيم من البخل وعدم الرضا بقسمة الله سبحانه وتعالى قال لها إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، انطلق إبراهيمُ عليه السلام وجاء الزوج وكأنه آنس أن أمراً حدث خلال غيابه فقال هل جاءكم أحد فقالت نعم جاءنا شيخ كبير صفته كذا وكذا وسألني عنك فأخبرته بالواقع، فقال لها: هل أوصاك بشيء قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام وطلب مني أن أقول لك أن تغير عتبة بابك، فقال إسماعيل ذاك هو أبي، وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، ثم طلقها عليه الصلاة والسلام وتزوج امرأة أخرى.

غاب إبراهيم عن إسماعيل بعض الزمن ثم أتاه بعد فترة فلم يجده كذلك، ووجد امرأته الجديدة، فاستقبلته ورحبت به فسألها إبراهيم هل عندك ضيافة، قالت نعم فضيفته وأكرمته ثم سألها عن حالهم، فقالت نحن بخير وسعة والحمد لله، وأثنت على الله سبحانه وتعالى فقال لها إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له أن يثبت عتبة بابه ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، رجع إسماعيل بعد زمن إلى منزله في المساء فأخبرته زوجته بمجيء شيخ كبير في غيبته، ووصفت له هيئته وأخبرته بوصيته له فقال لها إسماعيل عليه السلام: إنه أبي وقد أمرني أن احتفظ بك وأن لا أفارقك فلازمها إسماعيل طوال حياته وكانت أماً لأبنائه.

واعلموا رحمكم الهن أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه وثلّث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل عليم حكيم، ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91)﴾ [النحل: 90- 91].