المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
إظهار الإسلام، وإبطان الكفر، ومن شواهده قوله تعالى : ﱫﯗ ﯘ ﯙ ﯚﱪ التوبة :67، وقوله تعالى : ﱫﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﱪ النساء :145، وقال تعالى : ﱫﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﱪ النساء :142، وقال تعالى : ﱫﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ ﴿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﱪ البقرة :9-10، ومن شواهده من السنة حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رَضِيَ اللهُ عَنْه - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم - قَالَ : " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ." البخاري :34. والنفاق نوعان؛ نفاق أكبر اعتقادي، ونفاق أصغر عملي . والفرق بينهما يتمثل في أن النفاق الأكبر يخرج من الملة، والنفاق الأصغر لا يخرج من الملة . وأن النفاق الأكبر اختلاف السر، والعلانية في الاعتقاد، والنفاق الأصغر اختلاف السر، والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد .
إظهار الإسلام، وإبطان الكفر.
التَّعْرِيفُ:
1 - النِّفَاقُ لُغَةً: مَصْدَرُ نَافَقَ، يُقَال: نَافَقَ الْيَرْبُوعُ إِذَا دَخَل فِي نَافِقَائِهِ، وَمِنْهُ قِيل: نَافَقَ الرَّجُل: إِذَا أَظْهَرَ الإِْسْلاَمَ لأَِهْلِهِ وَأَضْمَرَ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ وَأَتَاهُ مَعَ أَهْلِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنِّفَاقُ اسْمٌ مِنَ الأَْسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّرْعُ، لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ هَذَا قَبْل الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِسْلاَمَهُ (2) .
عَلَى أَنَّ النِّفَاقَ يُطْلَقُ تَجَوُّزًا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ خَصْلَةً مِنْ خِصَال النِّفَاقِ الآْتِي ذِكْرُهَا، كَالْكَذِبِ وَإِخْلاَفِ الْوَعْدِ، أَوْ يُقَال: هَذَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ، وَلَيْسَ اعْتِقَادِيًّا حَقِيقِيًّا (3) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكُفْرُ:
2 - الْكُفْرُ لُغَةً هُوَ: السَّتْرُ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (4) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
ب - التَّقِيَّةُ:
3 - التَّقِيَّةُ وَالتُّقَاةُ اسْمَا مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الاِتِّقَاءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال السَّرَخْسِيُّ: التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلاَفَهُ (5) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ التَّقِيَّةِ وَالنِّفَاقِ فِيهِمَا إِظْهَارُ خِلاَفِ مَا يُبْطِنُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَقِيَّةٌ ف 1، 4) .
ج - الرِّيَاءُ:
4 - أَصْل الرِّيَاءِ الرِّئَاءُ، مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي. وَالرِّيَاءُ شَرْعًا: الْمُرَاءَاةُ، أَيْ أَنْ يَقْصِدَ الإِْنْسَانُ بِأَقْوَالِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِيَظُنُّوهُ مُؤْمِنًا، أَوْ يَسْتَحْسِنُوا فِعْلَهُ (6) . فَالرِّيَاءُ أَمْرٌ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ فِي أَعْمَال الإِْيمَانِ الَّتِي يَتَظَاهَرُونَ بِهَا، كَمَا قَدْ يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الإِْيمَانِ، وَلَكِنْ يَعْرِضُ لَهُ الرِّيَاءُ.
أَنْوَاعُ النِّفَاقِ:
5 - قَال ابْنُ رَجَبٍ: النِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: النِّفَاقُ الأَْكْبَرُ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِْنْسَانُ الإِْيمَانَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَيُبْطِنُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ، وَنَزَل الْقُرْآنُ بِذَمِّ أَهْلِهِ وَتَكْفِيرِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الأَْسْفَل مِنَ النَّارِ.
وَالثَّانِي: النِّفَاقُ الأَْصْغَرُ، أَوْ نِفَاقُ الْعَمَل، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِْنْسَانُ عَلاَنِيَةً صَالِحَةً، وَيُبْطِنَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ (7) .
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ كُل مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدٍ لِلْكَافِرِينَ يَدْخُل فِيهِ أَهْل النِّفَاقِ الأَْكْبَرِ؛ لأَِنَّ كُفْرَهُمُ اعْتِقَادِيٌّ حَقِيقِيٌّ، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الإِْيمَانِ شَيْءٌ. وَحَيْثُ قُرِنَ الْكُفَّارُ بِالْمُنَافِقِينَ فِي وَعِيدٍ، يُرَادُ بِالْكُفَّارِ مَنْ كَانَ كُفْرُهُمْ مُعْلَنًا ظَاهِرًا، وَبِالْمُنَافِقِينَ أَهْل الْكُفْرِ الْبَاطِنِ (8) . أَمَّا أَهْل النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ - الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ نِفَاقُ اعْتِقَادٍ - فَلاَ يَدْخُلُونَ فِي وَعِيدِ الْكَافِرِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ عُصَاةِ أَهْل الْمِلَّةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ النِّفَاقِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَنْ يَرْتَكِبُ خَصْلَةً مِنْ خِصَال النِّفَاقِ الآْتِي بَيَانُهَا (9) .
اجْتِمَاعُ النِّفَاقِ وَالإِْيمَانِ:
6 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَنَقَل عَنْ حُذَيْفَةَ ﵁، أَنَّهُ قَال: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ " فَذَكَرَ مِنْهَا " وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ " (10) ، ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ قَال: " النِّفَاقُ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا، حَتَّى إِذَا اسْتَكْمَل النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ " (11) ، وَقَال: بَل يَدُل لِذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِْيمَانِ (12) } قَال: وَلِلنِّفَاقِ شُعَبٌ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ شُعَبِ النِّفَاقِ شُعَبٌ مِنَ الإِْيمَانِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الإِْيمَانِ أَقَل الْقَلِيل لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ. قَال: وَضَعْفُ الإِْيمَانِ هُوَ الَّذِي يُوقِعُ فِي الْمَعَاصِي، أَمَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الإِْخْلاَصِ فَإِنَّهُ يُعْصَمُ مِنْهَا (13) .
عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:
7 - حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلإِْسْلاَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَل إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مُكَفِّرٌ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَتُبْ قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ (14) .
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَال: فَحَيْثُمَا كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ ظُهُورٌ، وَتُخَافُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ بَقَائِهِ - عَمِلْنَا بِآيَةِ {وَدَعْ أَذَاهُمْ (15) } وَحَيْثُمَا حَصَل لَنَا الْقُوَّةُ وَالْعِزُّ خُوطِبْنَا بِقَوْلِهِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ (16) } .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَتَوَجَّهُ جَوَازُ الْقَتْل، وَتَرْكُهُ، لِمُعَارِضٍ (17) . مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:
8 - لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ الإِْيمَانَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ أَمْرٌ بَيِّنٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْل، وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ (18) .
تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ:
9 - الْمُنَافِقُ تُقْبَل تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ تَابَ تَوْبَةً صَادِقَةً مِنْ قَلْبِهِ بِلاَ خِلاَفٍ (19) ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مِنَ الآْيَاتِ الَّتِي فَتَحَتْ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَْسْفَل مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (20) } .
أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَحُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلإِْسْلاَمِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ، تَفْصِيلُهُ فِي (زَنْدَقَةٌ ف 5، وَتَوْبَةٌ ف 12 - 13) .
الْمَعْصِيَةُ لاَ تَدُل عَلَى النِّفَاقِ:
10 - لَيْسَتْ كُل مَعْصِيَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ دَلِيلاً عَلَى وُجُودِ النِّفَاقِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَصْدُرُ عَنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ وُجُودِ الشُّبْهَةِ، أَوِ التَّأَوُّل، أَوِ اسْتِعْجَال الْحُصُول عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَنْهُ، مَعَ نَوْعٍ مِنَ الْجَهَالَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ. وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِفَاعِل تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَحُبٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ (21) ، وَدَل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال لِنُعَيْمَانَ، وَقَدْ جُلِدَ فِي الْخَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ: " إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " (22) .
إِجْرَاءُ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:
11 - يُجْرَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةُ، مَا دَامَ كُفْرُهمْ مَخْفِيًّا غَيْرَ مُعْلَنٍ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الإِْسْلاَمَ؛ لأَِنَّ كُفْرَهُمْ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَيُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّاتِهِمْ (23) .
أَمَّا مَنْ يُعْلَمُ نِفَاقُهُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكَافِرِ الْمُرْتَدِّ، فَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُنَافِقِ:
12 - يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ كَانَ نِفَاقُهُ غَيْرَ مُعْلَنٍ، بَل هُوَ أَمْرٌ يَسْتَسِرُّ بِهِ، فَمَنْ صَلَّى خَلْفَهُ ثُمَّ عَلِمَ نِفَاقَهُ، فَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلاَةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ مُطْلَقًا وَلَوْ طَالَتْ إِمَامَتُهُ بِالنَّاسِ.
وَالثَّانِي: لاَ يُعِيدُ فِي حَال الطُّول، لِلْمَشَقَّةِ (24) .
ب - صَلاَةُ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:
13 - كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى نَزَل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (25) . فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ. وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ ﵁ إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ (26) - لأَِنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَ الْمُنَافِقِينَ (27) . فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ. يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا، وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - ﷺ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُل مَنْ أَظْهَرَ الإِْيمَانَ.
ج - الْجِهَادُ:
1 - كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَغَازِي، كَمَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ (28) ، وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَتَخَلَّفَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ. وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قَتْلَهُ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ حُذَيْفَةُ بِأَسْمَاءِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْمُحَاوَلَةِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً (29) ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي الظَّاهِرِ تُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْل الإِْسْلاَمِ (30) .
د - الْحَذَرُ مِنْ دُخُول أَهْل النِّفَاقِ فِي شُئُونِ السِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ وَالإِْدَارَةِ:
15 - يَجِبُ أَخْذُ الْحَذَرِ مِنْ دُخُول أَهْل النِّفَاقِ فِي شُئُونِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُمْ يَبْغُونَ لِلإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ الْمَهَالِكَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} {هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَْنَامِل مِنَ الْغَيْظِ قُل مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (31) وَالْبِطَانَةُ: مَنْ يَسْتَبْطِنُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَيَطَّلِعُ عَلَى دَخَائِل أُمُورِهِمْ.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الإِْمَامِ إِذَا سَارَ بِالْمُسْلِمِينَ لِلْجِهَادِ أَنْ يَمْنَعَ خُرُوجَ الْمُخَذِّلِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْمُرْجِفِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ بِقُوَّةِ الْكُفَّارِ وَضَعْفِنَا، وَمَنْ يُكَاتِبُ بِأَخْبَارِنَا، وَمَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِنِفَاقٍ أَوْ زَنْدَقَةٍ (32) .
وَأَمَّا الإِْدَارَةُ فَإِنَّ الأَْمَانَةَ وَالْعَدَالَةَ مُشْتَرَطَةٌ فِي كُل وِلاَيَةٍ، وَلَيْسَ الْمُنَافِقُ مِنْ أَهْلِهَا (33) .
هـ - الْمِيرَاثُ:
16 - يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزِّنْدِيقَ إِنْ مَاتَ قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ثَبَتَتْ زَنْدَقَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ تَابَ فِي الْحَيَاةِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ، أَوْ قُتِل بَعْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ تَوْبَتِهِ لِعَدَمِ قَبُولِهَا مِنْهُ، يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، أَمَّا إِنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتُبْ وَلَمْ يُنْكِرْهَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى قُتِل أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ مَالَهُ لاَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، بَل يَكُونُ لِبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ (34) .
وَهَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. حَيْثُ قَالُوا: الزِّنْدِيقُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى مُنَافِقًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، لاَ يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلاَ يُورَثُ (35) .
__________
(1) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ.
(2) لِسَانُ الْعَرَبِ.
(3) الصَّارِمُ الْمَسْلُول عَلَى شَاتِمِ الرَّسُول لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص 35 - 36. بَيْرُوتُ، الْمَكْتَبُ الإِْسْلاَمِيُّ 1414هـ.
(4) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمَنْثُورُ 3 / 84.
(5) الْمَبْسُوطُ لِلسَّرَخْسِيِّ 24 / 45 بَيْرُوتُ - دَارُ الْمَعْرِفَةِ.
(6) فَتْحُ الْبَارِي 10 / 528.
(7) جَامِعُ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ لاِبْنِ رَجَبٍ 2 / 343ط الرِّسَالَةِ.
(8) الإِْيمَانُ لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص 48 - 50.
(9) الصَّارِمُ الْمَسْلُول عَلَى شَاتِمِ الرَّسُول لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص 35 - 36.
(10) أَثَرُ حُذَيْفَةَ: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الأَْوْلِيَاءِ (1 / 276 - السَّعَادَةِ) .
(11) أَثَرُ عَلِيٍّ: " النِّفَاقُ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ ص 504 نَشْرُ دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ 1 / 276 ط دَارِ الْفِكْرِ.
(12) سُورَةُ آل عِمْرَانَ
(13) الإِْيمَانُ ص 261 - 263.
(14) الدُّسُوقِيُّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 306، وَجَوَاهِرُ الإِْكْلِيل 1 / 256.
(15) سُورَةُ الأَْحْزَابِ / 48
(16) سُورَةُ التَّحْرِيمِ / 9
(17) الصَّارِمُ الْمَسْلُول ص 365 - 367، وَالْفُرُوعُ 6 / 206.
(18) فَتْحُ الْقَدِيرِ 6 / 98، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 4 / 306.
(19) فَتْحُ الْقَدِيرِ 6 / 70.
(20) سُورَةُ النِّسَاءِ آيَةُ: 145، 146.
(21) الصَّارِمُ الْمَسْلُول ص 36.
(22) حَدِيثُ: " إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". أَوْرَدَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الإِْصَابَةِ (6 / 464 - ط دَارِ الْجِيل) وَعَزَاهُ إِلَى كِتَابِ الْفُكَاهَةِ وَالْمِزَاحِ لِلزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مُرْسَل
(23) مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ 5 / 122، وَ 6 / 269.
(24) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 325.
(25) سُورَةُ التَّوْبَةِ آيَةُ: 80
(26) أُثِرَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الاِسْتِذْكَارِ (1 / 394 - ط دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) وَلَمْ يَعْزِهِ إِلَى أَيِّ مَصْدَرٍ.
(27) الإِْيمَانُ لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص 186، وَسِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ 2 / 552 الْقَاهِرَةُ، مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1375 هـ، وَمِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ 5 / 235 - 237.
(28) حَدِيثُ خُرُوجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (فَتْحُ الْبَارِي 7 / 432 ط السَّلَفِيَّةِ) وَمُسْلِمٌ (4 / 2130 ط الْحَلَبِيِّ) .
(29) حَدِيثُ حُذَيْفَةَ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: " وَفِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (4 / 2143 ط الْحَلَبِيِّ) .
(30) الإِْيمَانُ ص 185.
(31) سُورَةُ آل عِمْرَانَ آيَةُ: 118، 119
(32) تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الآْيَةِ 118 مِنْ سُورَةِ آل عِمْرَانَ.
(33) الْفُرُوعُ 6 / 205، وَالأَْحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ لأَِبِي يَعْلَى الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيِّ ص 45 بَيْرُوتُ، ط دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ. الأَْحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ ص 84.
(34) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 306.
(35) كَشَّافُ الْقِنَاعِ عَنْ مَتْنِ الإِْقْنَاعِ 4 / 478.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 17/ 41
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".