المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ من خَيْرٍ، أَوْ شَرٍّ . وهو العزم . ومن شواهده حديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
الإرادَةُ والقَصْدُ، وهو أوَّلُ العَزْمِ على الفِعْل إذا أَرَدْتَهُ ولم تَفْعَلْ، يُقال: هَمَّ بِالشَّيْءِ، يَهُمُّ، هَمّاً: إذا نَواهُ وأرادَهُ وعَزَمَ عليه، وهَمَمْتُ بِالشَّيْءِ همّاً: إذا أَرَدْتَهُ ولم تَفْعَلْهُ. والهِمَّةُ: ما همَمْتَ بِه مِن أَمْرٍ لِتَفْعَلَه، فيُقال: إنَّه لَعَظِيمُ الهِمَّةِ، وإنَّهُ لَصَغِيرُ الهِمَّة. وأصل الكَلِمَة يَدُلُّ على ذَوْبٍ وجَرَيانٍ وما أَشْبَهَ ذلك، ومنه سُمِّي الحُزْنُ هَمّاً؛ لأنّهُ كأَنَّهُ لِشِدَّتِهِ يَهُمُّ، أي: يُذِيبُ، يُقال: أَهَمَّني الأَمرُ: إِذا أَقْلَقَك وحَزَنَك. والجَمع: هُمُومٌ.
يَرِد مُصطَلح (هَمّ ) في الفقه في كلِّ أحكامِ الشَّرِيعَةِ فيما يَتَعلَّقُ بِباب الأوامِرِ والنَّواهِي، حيث أنَّ كلَّ مُسْلِمٍ مُطالَبٍ بِالهَمِّ على فِعْلِ الحَسَناتِ، والهَمِّ على تَرْكِ السَّيِّئاتِ. ويُطلَق في كتاب الصَّلاة، باب: صلاة التَّطوُّع، وفي كتاب الجامع للآداب، باب: ما يُقال عند الهَمِّ مِن الأدعِيَة والأذكارِ، وغير ذلك، يُراد بِه: الحُزْن والقَلَق.
همم
عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ من خَيْرٍ، أَوْ شَرٍّ. وهو العزم.
* حاشية ابن عابدين : (3/282)
* القوانين الفقهية : (ص 365)
* روضة الطالبين : (10/65)
* فتح الباري شرح صحيح البخاري : (11/323)
* التوقيف على مهمات التعاريف : (ص 344)
* فتح الباري شرح صحيح البخاري : (11/323) وما بعدها. - العين : (3/357)
* تهذيب اللغة : (5/248)
* مقاييس اللغة : (6/13)
* المحكم والمحيط الأعظم : (4/110)
* مختار الصحاح : (ص 328)
* لسان العرب : (12/619)
* تاج العروس : (34/118)
* المصباح المنير في غريب الشرح الكبير : (2/641)
* التعريفات للجرجاني : (ص 257)
* الكليات : (ص 961)
* دستور العلماء : (3/330) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْهَمُّ فِي اللُّغَةِ بِالْفَتْحِ: أَوَّل الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ أَيْضًا: الْحُزْنُ، وَقَال ابْنُ فَارِسٍ: الْهَمُّ: مَا هَمَمْتُ بِهِ، وَهَمَمْتُ بِالشَّيْءِ هَمًّا مِنْ بَابِ قَتَل: إِذَا أَرَدْتَهُ وَلَمْ تَفْعَلْهُ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الْهِمَّةُ عَلَى الْعَزْمِ الْقَوِيِّ، فَيُقَال: هِمَّةٌ عَالِيَةٌ وَهِيَ: تَوَجُّهُ الْقَلْبِ وَقَصْدُهُ بِجَمِيعِ قُوَاهُ الرُّوحَانِيَّةِ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ لِحُصُول الْكَمَال لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ (1) .
وَالْهَمُّ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ قَبْل أَنْ يُفْعَل مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (2) .
وَقَال ابْنُ حَجْرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: الْهَمُّ تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْل، وَهُوَ فَوْقَ مُجَرَّدِ خُطُورِ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ (3) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَاطِرُ:
2 - الْخَاطِرُ فِي اللُّغَةِ: مَا يَخْطُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرِ أَمْرٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ مَعْنًى، يُقَال: خَطَرَ بِبَالِي وَعَلَى بَالِي، مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَقَعَدَ، وَيُقَال: خَطَرَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَقَلْبِهِ: أَوْصَل وَسَاوِسَهُ إِلَى قَلْبِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَل، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَل حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَقَلْبِهِ (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهَمِّ وَالْخَاطِرِ مِنْ أَعْمَال الْقُلُوبِ (5) .
ب - الْفِكْرُ:
3 - الْفِكْرُ فِي اللُّغَةِ: تَرَدُّدُ الْقَلْبِ بِالنَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ لِطَلَبِ الْمَعَانِي، يُقَال: لِي فِي الأَْمْرِ فِكْرٌ: أَيْ نَظَرٌ وَرَوِيَّةٌ. وَالْفِكْرُ أَيْضًا: هُوَ تَرْتِيبُ أُمُورٍ فِي الذِّهْنِ يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى مَطْلُوبٍ يَكُونُ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا (6) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (7) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْفِكْرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ أَعْمَال الْقُلُوبِ.
ج - النِّيَّةُ:
4 - مِنْ مَعَاني النِّيَّةِ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، وَهُوَ عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ، وَالنِّيَّةُ أَيْضًا: الْوَجْهُ الَّذِي يُذْهَبُ فِيهِ، وَالنِّيَّةُ وَالنَّوَى: الْبُعْدُ (8) .
وَالنِّيَّةُ اصْطِلاَحًا عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا قَصْدُ الإِْنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا يُرِيدُهُ بِفِعْلِهِ (9) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالنِّيَّةِ أَنَّ مَحَل كُلٍّ مِنْهُمَا الْقَلْبُ.
د - الْعَزْمُ:
5 - الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الأَْمْرِ. وَعَزَمَ عَزِيمَةً وَعَزْمَةً: اجْتَهَدَ وَجَدَّ فِي أَمْرِهِ. وَالْعَزْمُ فِي الاِصْطِلاَحِ: تَصْمِيمٌ عَلَى إِيقَاعِ الْفِعْل، وَالنِّيَّةُ تَمْيِيزٌ لَهُ (10) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْهَمَّ أَوَّل مَرَاتِبِ الْعَزْمِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَمِّ:
تَتَعَلَّقُ بِالْهَمِّ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - حُكْمُ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنَةً كَامِلَةً (11) ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ ﷿ قَال: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (12) . وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: قَال اللَّهُ ﷿: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا (13) وَذَلِكَ لأَِنَّ الْهَمَّ بِالْحَسَنَةِ سَبَبٌ وَبِدَايَةٌ إِلَى عَمَلِهَا. وَسَبَبُ الْخَيْرِ خَيْرٌ؛ قَال أَبُو الدَّرْدَاءِ ﵁: " مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِسَاعَةٍ مِنَ اللَّيْل يُصَلِّيهَا فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ كَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ، وَكُتِبَ لَهُ مِثْل مَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ " (14) ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: مَنْ هَمَّ بِصَلاَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَزْوَةٍ، فَحِيل بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَا نَوَى (15) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ ﵀: تُكْتَبُ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الإِْرَادَةِ، ثُمَّ قَال: نَعَمْ، وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْهَمِّ وَالإِْرَادَةِ لاَ يَكْفِي، فَفِي حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رَفَعَهُ: وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ بِهَا قَلَبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا (16) . وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ حِبَّانَ، فَقَال بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي صَحِيحِهِ: الْمُرَادُ بِالْهَمِّ هُنَا الْعَزْمُ، ثُمَّ قَال: وَيُحْتَمَل أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ الْحَسَنَةَ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا زِيَادَةً فِي الْفَضْل.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: يَتَفَاوَتُ عِظَمُ الْحَسَنَةِ بِحَسَبِ الْمَانِعِ، فَإِنْ كَانَ خَارِجِيًّا مَعَ بَقَاءِ قَصْدِ الَّذِي هَمَّ بِفِعْل الْحَسَنَةِ فَهِيَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ قَارَنَهَا نَدَمٌ عَلَى تَفْوِيتِهَا وَاسْتَمَرَّتِ النِّيَّةُ عَلَى فِعْلِهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ مِنَ الَّذِي هَمَّ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ إِلاَّ إِنْ قَارَنَهَا قَصْدُ الإِْعْرَاضِ عَنْهَا جُمْلَةً، وَالرَّغْبَةُ عَنْ فِعْلِهَا، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ وَقَعَ الْعَمَل فِي عَكْسِهَا كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مَثَلاً، فَصَرَفَهُ بِعَيْنِهِ فِي مَعْصِيَةٍ، فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الأَْخِيرِ أَنْ لاَ تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةٌ أَصْلاً، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَعَلَى الاِحْتِمَال (17) . ب - حُكْمُ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، إِذَا كَانَ قَدْ تَرَكَهَا لأَِجْل اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (18) .
وَهَل يُثَابُ التَّارِكُ عَنِ السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ أَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكَهَا لِمَخَافَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَقَال بَعْضُهُمْ: يُثَابُ عَلَيْهِ لِمُجَرَّدِ تَرْكِ مَا هَمَّ بِهِ مِنَ السَّيِّئَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ لِخَوْفٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ لِعَجْزٍ عَنِ الإِْتْيَانِ بِهِ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ، كَمَنْ يَمْشِي مَثَلاً إِلَى امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجِدُ الْبَابَ مُغْلَقًا وَيَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فَتْحُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الزِّنَا فَلَمْ يَنْتَشِرْ، أَوْ طَرَقَهُ مَا يَخَافُ مِنْ أَذَاهُ عَاجِلاً، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ ﷿ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً. . . الْحَدِيثَ " (19) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: " حَسَنَةً كَامِلَةً " الْمُرَادُ بِالْكَمَال عِظَمُ الْقَدْرِ، لاَ التَّضْعِيفُ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَظَاهِرُ الإِْطْلاَقِ كِتَابَةُ الْحَسَنَةِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، وَلأَِنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ كَفٌّ عَنِ الشَّرِّ وَالْكَفُّ عَنِ الشَّرِّ خَيْرٌ (20) ، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: عَلَى كُل مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ. . . ثُمَّ ذَكَرَ خِصَالاً، ثُمَّ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَل، قَال: فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ (21) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ تَرَكَ مَا هَمَّ بِهِ مِنْ سَيِّئَةٍ أَنْ يَتْرُكَهَا لِمَخَافَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ رِضَائِهِ، فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ السَّيِّئَةَ مُكْرَهًا عَلَى تَرْكِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا فَلاَ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً، وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
- قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً - وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ - فَقَال: ارْقُبُوهُ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرْكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ (22) .
- قَوْل اللَّهِ ﷿ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً (23) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: مَحَل كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ عَلَى التَّرْكِ أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ قَدْ قَدَرَ عَلَى الْفِعْل ثُمَّ تَرَكَهُ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُسَمَّى تَارِكًا إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ (24) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْهَمَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي لاَ يُكْتَبُ هُوَ الْمُجَرَّدُ الْوَارِدُ عَلَى الْخَاطِرِ الَّذِي يَمُرُّ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَلاَ عَقْدٍ وَلاَ نِيَّةٍ، فَإِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ مَثَلاً مِنْ غَيْرِ مُصَاحَبَةِ عَزْمٍ وَلاَ تَصْمِيمٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، لِظَاهِرِ قَوْل اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً (25) ، وَلِحَدِيثِ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَلِحَدِيثِ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَل حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَل، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا (26) فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَل هُنَا عَمَل الْجَارِحَةِ بِالْمَعْصِيَةِ الْمَهْمُومِ بِهَا.
أَمَّا إِذَا عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ آثِمًا بِعَزْمِ الْقَلْبِ وَاسْتِقْرَارِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، قَالُوا: وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْخَوَاطِرِ الَّتِي تَخْطُرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ، وَهُوَ مِنْ عَمَل الْقَلْبِ، وَهُوَ يُكْتَبُ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُؤَاخَذُ عَلَيْهِ مِثْل النِّفَاقِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْغِل وَالْحِقْدِ وَالْبَغْيِ وَالْغَضَبِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْبُخْل وَالإِْعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ وَالْعُجْبِ وَالْمَكْرِ، فَمَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ مَرَضًا مِنْ هَذِهِ الأَْمْرَاضِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنَّ يُعَالِجَهُ حَتَّى يَزُول، فَإِنْ لَمْ يُعَالِجْهُ أَثِمَ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ مِنْ هَذِهِ الأَْمْرَاضِ عَلَى مَا نَوَاهُ وَقَصَدَهُ بِقَلْبِهِ دُونَ مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَوْ سَبَقَ إِلَيْهِ لِسَانُهُ وَوَهِمَهُ (27) .
ج - الْعِقَابُ عَلَى الْهَمِّ الْمَقْرُونِ بِالْعَزْمِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِقَابِ عَلَى الْهَمِّ الْمَقْرُونِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ (28) : قَسَّمَ بَعْضُهُمْ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ أَقْسَامًا:
أَضْعَفُهَا: أَنْ يَخْطُرَ لَهُ ثُمَّ يَذْهَبُ فِي الْحَال، وَهَذَا مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَهُوَ دُونَ التَّرَدُّدِ.
وَفَوْقَهُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِ، فَيَهُمُّ بِهِ ثُمَّ يَنْفِرُ عَنْهُ فَيَتْرُكُهُ، ثُمَّ يَهُمُّ بِهِ ثُمَّ يَتْرُكُ كَذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَمِرُّ عَلَى قَصْدِهِ وَهَذَا هُوَ التَّرَدُّدُ، فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا.
وَفَوْقَهُ: أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ وَلاَ يَنْفِرَ مِنْهُ لَكِنْ لاَ يُصَمِّمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْهَمُّ، فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا.
وَفَوْقَهُ: أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ وَلاَ يَنْفِرَ مِنْهُ بَل يُصَمِّمُ عَلَى فِعْلِهِ، فَهَذَا هُوَ الْعَزْمُ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْهَمِّ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَال الْقُلُوبِ صِرْفًا، كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْبَعْثِ، فَهَذَا كُفْرٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ جَزْمًا.
وَدُونَهُ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي لاَ تَصِل إِلَى الْكُفْرِ، كَمَنْ يُحِبُّ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَيُبْغِضُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُحِبُّ لِلْمُسْلِمِ الأَْذَى بِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، فَهَذَا يَأْثَمُ.
وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالْبَغْيُ وَالْمَكْرُ وَالْحَسَدُ، وَفِي بَعْضِ هَذَا خِلاَفٌ، فَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ﵀: أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَحَسَدَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِمَّا لاَ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، لَكِنْ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِمُجَاهَدَتِهِ النَّفْسَ عَلَى تَرْكِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَال الْجَوَارِحِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ:
فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعَزْمِ الْمُصَمَّمِ. وَسَأَل ابْنُ الْمُبَارَكِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِمَا يَهُمُّ بِهِ؟ قَال: إِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ، وَاسْتَدَل كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:( {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ) (29) وَحَمَلُوا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ (30) وَنَحْوُهُ مِنَ الأَْحَادِيثِ عَلَى الْخَطَرَاتِ.
ثُمَّ افْتَرَقَ هَؤُلاَءِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُعَاقَبُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً بِنَحْوِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَل يُعَاقَبُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنْ بِالْعِتَابِ لاَ بِالْعَذَابِ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ جُرَيْجٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَطَائِفَةٍ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ﵁ أَيْضًا (31) ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النَّجْوَى وَهُوَ: أَنَّ رَجُلاً سَأَل ابْنَ عُمَرَ ﵁: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي النَّجْوَى؟ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُول: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُول: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَال: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُول الأَْشْهَادُ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (32) .
د - الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَةِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ عَلَى حُكْمِ مَنْ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ:
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ مَنْ يَهْتَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ يُؤَاخَذُ بِهَا وَلَوْ لَمْ يَصِل ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةِ التَّصْمِيمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (33) } . وَلأَِنَّ الْحَرَمَ يَجِبُ اعْتِقَادُ تَعْظِيمِهِ، فَمَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ فِيهِ خَالَفَ الْوَاجِبَ بِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَلأَِنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِالْمَعْصِيَةِ تَسْتَلْزِمُ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ اللَّهِ؛ لأَِنَّ تَعْظِيمَ الْحَرَمِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ، فَصَارَتِ الْمَعْصِيَةُ فِي الْحَرَمِ أَشَدَّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي غَيْرِهِ، وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي تَرْكِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَال شِهَابُ الدِّينِ الأَْلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، فَيُفِيدُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ سَيِّئَةً فِي مَكَّةَ - وَلَمْ يَعْمَلْهَا - يُحَاسَبُ عَلَى مُجَرَّدِ الإِْرَادَةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْحَجَّاجِ.
وَقَال إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: هَل وَرَدَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُكْتَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ قَال: لاَ، مَا سَمِعْتُ إِلاَّ بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ عَامَّةٌ فِي النَّاسِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ أَمْ فِي غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تُفَرِّقْ لاَ فِي الأَْزْمِنَةِ وَلاَ فِي الأَْمْكِنَةِ، وَإِنَّمَا عَمَّمَتْ (34) ، كَقَوْلِهِ ﷺ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (35) .
هـ - الْهَمُّ بِالْكُفْرِ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَمَّ الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ بِالْكُفْرِ، أَوْ شَكَّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْبَعْثِ، أَوْ نَوَى قَطْعَ إِسْلاَمِهِ، أَوْ تَرَدَّدَ أَيَكْفُرُ أَوْ لاَ، أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَل، خَرَجَ مِنَ الإِْسْلاَمِ وَأَصْبَحَ مُرْتَدًّا فِي الْحَال؛ لأَِنَّ طَرَيَانَ الشَّكِّ يُنَاقِضُ جَزْمَ النِّيَّةِ بِالإِْسْلاَمِ.
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ ﵀ تَعَالَى: الْعَزْمُ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَل كُفْرٌ فِي الْحَال، وَكَذَا التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهُ يَكْفُرُ أَمْ لاَ؟ فَهُوَ كُفْرٌ فِي الْحَال، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ كُفْرَهُ بِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ هَلَكَ مَالِي أَوْ وَلَدِي تَهَوَّدْتُ أَوْ تَنَصَّرْتُ. قَال: وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، حَتَّى لَوْ سَأَلَهُ كَافِرٌ يُرِيدُ الإِْسْلاَمَ أَنْ يُلَقِّنَهُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، فَلَمْ يَفْعَل، أَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لاَ يُسْلِمَ، أَوْ عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنْ يَرْتَدَّ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ (36) ، وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ قَاصِدًا الاِسْتِخْفَافَ بِاللَّهِ كَفَرَ، وَإِنَّمَا الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ذَاهِلاً عَنْ قَصْدِ الاِسْتِخْفَافِ.
أَمَّا إِذَا خَطَرَ فِي بَالِهِ الْكُفْرُ، أَوْ جَرَى فِي قَلْبِهِ دُونَ أَنْ يَصِل إِلَى مَرْحَلَةِ الْعَزْمِ، فَلاَ يَكْفُرُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يُنَاقِضْ جَزْمَ النِّيَّةِ بِالإِْسْلاَمِ كَالَّذِي يَجْرِي فِي الْكِنِّ (أَيْ فِي الْخَاطِرِ) فَهُوَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْمُوَسْوَسُ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِهِ كَمَا قَالَهُ الإِْمَامُ (37) .
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، والمفردات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ.
(2) التَّعْرِيفَات للجرجاني، وقواعد الْفِقْه لِلْبَرَكَتِي.
(3) فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 11 / 323.
(4) حَدِيث: " حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبه ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 6 / 337 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (1 / 291 - 292 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(5) الْمِصْبَاح الْمُنِير، والمغرب فِي تَرْتِيبِ الْمُعْرِبِ، والمعجم الْوَسِيط.
(6) الْمِصْبَاح الْمُنِير
(7) قَوَاعِد الْفِقْهِ للبركتي والتعريفات للجرجاني.
(8) الْمِصْبَاح الْمُنِير، ولسان الْعَرَب، والقاموس الْمُحِيط.
(9) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 230، والذخيرة 1 / 240.
(10) الْمِصْبَاح الْمُنِير، والمفردات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ، والتعريفات للجرجاني، وقواعد الْفِقْه لِلْبَرَكَتِي، ومواهب الْجَلِيل 1 / 231، والأشباه لاِبْنِ نَجِيم ص 49.
(11) فَتْح الْبَارِي 11 / 323 - 329، وصحيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ 2 / 128، 129، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة لاِبْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ ص 60 - 63، وشرح الأَْرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ ص 65.
(12) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ كُتُب الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 11 / 323 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (1 / 118 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(13) حَدِيث: (إِذَا هُمْ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 117 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ".
(14) أَثَر أَبِي الدَّرْدَاءِ: مِنْ حَدَثَ نَفْسه بِسَاعَةٍ مِنَ اللَّيْل. . . أَخْرَجَهُ ابْن خُزَيْمَة (2 / 195 - 196 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ) .
(15) فَتْح الْبَارِي 11 / 324 - 326، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة لاِبْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ ص 61، 62.
(16) حَدِيث خَرِيم بْن فَاتَك: " مِنْ هُمْ بِحَسَنَة. . . . " أَخْرَجَهُ أَحْمَد (4 / 346 - ط الميمنية) .
(17) فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ (11 / 324، 325) ، وانظر صَحِيح ابْن حِبَّانَ (2 / 107 - الإِْحْسَان - ط الرِّسَالَة) .
(18) فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 11 / 325 وَمَا بَعْدَهَا، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61، 62 وَالْحَدِيث سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف (6) .
(19) حَدِيث: " مِنْ هُمْ بِسَيِّئَة. . . . ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 6.
(20) فَتْح الْبَارِي 11 / 323، 329، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61.
(21) حَدِيث: " عَلَى كُل مُسْلِم صَدَقَة. . . " أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 10 / 447 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (2 / 699 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ ﵁.
(22) حَدِيث: (قَالَتِ الْمَلاَئِكَة: رَبُّ ذَاكَ عَبْدك. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 118 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(23) حَدِيث: " إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَة فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ. . . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 13 / 465 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (1 / 117 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(24) فَتْح الْبَارِي 11 / 326 - 329، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61.
(25) حَدِيث: " إِذَا هُمْ عَبْدِي بِسَيِّئَة. . . . ". سَبَقَ تَخْرِيجه فِي فِقْرَة (6) .
(26) حَدِيث: " إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَل حَسَنَة. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 117 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(27) فَتْح الْبَارِي 11 / 326 وَمَا بَعْدَهَا، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128، والزواجر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ لاِبْنِ حَجَر الهيتمي 1 / 79.
(28) فَتْح الْبَارِي 5 / 69، 10 / 486، 11 / 327، 13 / 34، 470 - 472، 475، تفسير الْقُرْطُبِيّ 3 / 102، 6 / 266 وَمَا بَعْدَهَا، وأحكام الْقُرْآن لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 1 / 241، 242.
(29) سُورَةُ الْبَقَرَةِ 225.
(30) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 5 / 160 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (1 / 116 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.
(31) فَتْح الْبَارِي 11 / 326 وَمَا بَعْدَهَا، وتحفة الأَْحْوَذِيّ شَرْح التِّرْمِذِيّ 6 / 616، ودليل الْفَالِحِينَ شَرْح رِيَاض الصَّالِحِينَ 2 / 549، 550
(32) حَدِيث: حَدِيثُ النَّجْوَى. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ! (فَتْح الْبَارِي 5 / 96 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (4 / 2125 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(33) سُورَة الْحَجّ / 25.
(34) فَتْح الْبَارِي 11 / 328، 329، وتفسير الْقُرْطُبِيّ 12 / 34، 35، 18 / 224، وتفسير رُوح الْمَعَانِي 9 / 134، وأحكام الْقُرْآن لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 3 / 277
(35) حَدِيث: " إِذَا هُمْ عَبْدِي بِحَسَنَة. . . . ". سَبَقَ تَخْرِيجه فِقْرَة (6) .
(36) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 10 65.
(37) فَتْح الْبَارِي 11 / 327، 328، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 3 / 283، ونهاية الْمُحْتَاج 7 / 393 - 395، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 136، وكشاف الْقِنَاع 6 / 168 وَمَا بَعْدَهَا، وجواهر الإِْكْلِيل 2 / 278، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 356، وروضة الطَّالِبِينَ 10 / 65، والزواجر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 1 / 81.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 299/ 42